للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام

مات الأستاذ الإمام، ولو كان كِبَر النفوس، وطهارة الأرواح، وعلو الهمم
مما يحول دون الموت؛ لما مات أبدا، ولكن كل حي يموت إلا الحي القيوم
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: ١٥٦) .
مات الأستاذ الإمام؛ فمات ذلك العلم الواسع، والحكمة البالغة، والحجة
الناطقة، والمعارف الكونية والإلهية، والعلوم الكسبية واللدنية، مع البيان الساحر
والأدب الباهر، والبلاغة التي تمتلك العقول والقلوب، والفصاحة التي تستهوي
الأسماع والنفوس.
مات الأستاذ الإمام، فماتت تلك الأخلاق القدسية، والشمائل المحمدية،
والصدق في القول والفعل، والإخلاص في السر والجهر، والوفاء في القرب والبعد،
والسخاء في العسر واليسر، والعفة في الشباب والكهولة، والحلم عند الغيظ
والمغاضبة، والعفو مع القدرة على المؤاخذة، والتواضع وخفض الجناح للمخلصين،
والشهامة والترفع على المنافقين والمستكبرين، واللين للحق وأهله، والشدة على
الباطل، وجند الشجاعة التي تهابها الأمراء والعظماء، والقناعة التي رفعت رأسه
فوق الرؤساء.
مات الأستاذ الإمام؛ فماتت تلك الأعمال النافعة، والمشروعات الرافعة،
والمساعي الجديدة، والوسائل المفيدة، والاجتهاد في ترقية الأمة، والدفاع عن الملة،
والدعوة إلى التوحيد والتأليف، والاشتغال بأفضل التعليم والتأديب، والتربية
الصحيحة للمريدين، والجمع بين علوم الدنيا والدين، ومواساة البائسين والمعوزين،
وكفالة أولاد الفقراء والمساكين.
مات الأستاذ الإمام فماتت تلك الآمال البعيدة، والمقاصد الحميدة، التي كانت
مطوية في ذلك الجرم الصغير، الذي انطوى فيه العالم الكبير، تلك الآمال التي
تتضاءل دونها همم الملوك والأمراء، وتتصاغر أمامها نفوس الزعماء والأغنياء
الذين هم عن استعمال مواهبهم مصروفون، وعن الثقة بربهم محجوبون، وعن سنته
في خلقه غافلون.
مات الأستاذ الإمام فراع موته الناس، من جميع الطوائف والأجناس، فعلم
علماء الدين، أنهم فقدوا ركنهم الركين، الذي تحمل عنهم رد الشبهات، وغير ذلك
من فروض الكفايات، وعلماء الدنيا، أنهم خسروا ركنهم الأقوى، الذي يدفع عنهم
مطاعن المتعصبين، وتكفير الجامدين، ويثبت أن الإسلام جمع بين المصلحتين،
ولا يتم ذلك إلا بالجمع بين العلمين، وشعر طلاب الإصلاح بأنهم فقدوا إمامهم
العظيم، الذي كملت فيه صفات الزعيم، وأحسَّ الفقراء والمساكين بأنهم رزءوا
بكافل اليتامى وغوث العاجزين، ولم يجهل القائمون بالشؤون العامة شدة وقع هذه
الطامة، وأنهم نكبوا بصاحب الرأي الثاقب، والعمل النافع، مربي الرأي العام في
الشورى والجمعية العمومية، صاحب اليد البيضاء في الأوقاف الإسلامية،
المضطلع بإصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية، الناهض بأعباء الجمعية الخيرية،
الموفق بين الحكومة والرعية، واعترف أهل الملل بأن مصابه مصاب الإنسانية،
والخسارة الكبرى على العلم والمدنية.
مرض هذا البر الرحيم؛ فكان على فراش الموت يسأل عن بعض الضعفاء،
ويبحث عن مساكن القواعد من النساء، ليواسيهم بالبر من وراء الستر، وقال لي:
إن فلانًا الغريب قد انقطع عن السفر بدَيْن عليه، وإنني مستغن الآن عن مائة جنيه
فإن كانت كافية أرسلتها إليه، ولكنه غاب عن الوجود، قبل أن يقضي لبانته من
البر والجود.
مرض هذا المصلح العظيم فاضطربت الأمة المصرية لمرضه فكانت الدار
التي يمرَّض فيها كعبة العائدين من العلماء والأمراء، والوزراء، والأدباء والفضلاء،
والفقراء، والأغنياء وكان البرق يناجيها كل يوم مع البريد، بالنيابة عن العاجز
والبعيد، سائلين عن صحته، أو مهنئين بما يقال عن راحته، فكان يحمد الله أن
جعل الدهماء من أمته يعرفون لخادمها خدمته، ويشكرون للعامل لها عمله، ويقول
لئن شفيت لأجهدن النفس في خدمتهم أجمعين؛ حتى أكون حرضًا أو أكون من
الهالكين.
مرض الأستاذ الإمام، فلم يعقه المرض عن خدمة المسلمين والإسلام،
واحتضر الأستاذ الإمام، وهو يلتهب غيرة على المسلمين والإسلام.
نقول: مات الأستاذ الإمام؛ فنبدئ القول ونعيده ننصر الحس، ونكابر النفس
فقد كادت تحسب أن موته رؤيا منام، وأضغاث أحلام، وما هو إلا الحق اليقين
ومصير الأولين والآخرين، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ} (الأنبياء: ٣٤) ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: ٣٥) .
مات أستاذنا وإمامنا، ولك اللهم البقاء فلا تفتنَّا بعده، ولا تحرمنا أجره،
واغفر اللهم لنا وله.
نعم، إنه قد مات ولكن لم تمت علومه ومعارفه، ومآثره وعوارفه، فلقد ربى
أرواحًا، وأصلح إصلاحًا، وألف كتبًا، وترك علماء وأدبًا، وأمات سننًا سيئة له
أجْرُ إماتتها، وأحيا سننًا حسنة له أجرها وأجر من يعمل بها، وعلمنا كيف نفهم
القرآن، ونقيم شرائع الإسلام، مع توخي نفع الناس أجمعين، والإخلاص لله رب
العالمين.
مات أستاذنا وإمامنا فكبر علينا موته، ولكنه ربانا على الصبر وعلمنا كيف
نتعزى عنه حتى في مرض موته، فقد كان هجيراه في تلك الكربات والسكرات،
كلمة الله التي أمرنا بتكرارها في الصلوات. (الله أكبر) فلئن كان بفضل الله كبيرًا
فينا فالله أكبر، ولئن كان مرضه وموته كبيرًا علينا فالله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: ١٠١) .
لبى دعوة ربه برمل الإسكندرية في الساعة الخامسة بعد الزوال من يوم
الثلاثاء ثامن جمادى الأولى؛ فنعاه البرق بآلاته الناطقة والكاتبة إلى العاصمة
وغيرها من مدن القطر؛ فاضطربت لنعيه القلوب، وذرفت العيون، واسترجعت
الألسنة وحوقلت، وطفق الناس يعزي بعضهم بعضًا متفقين على أن المصاب به
عام، وأشد وقعه على المسلمين والإسلام، وما كنت تسمع من القريب والغريب،
والبغيض والحبيب، والوطني والأجنبي، والرشيد والغوي، والعالم والجاهل،
والمفضول والفاضل إلا كلمة (خسارة لا تعوض) أو كلمة (عوض الله الأمة
به خيرًا) أو قول الشاعر:
وما كان قيسًا رزءه رزء واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
أو قول الآخر:
ولكن الرزية فَقْد حُرٍّ ... يموت لموته خَلق كثير
وقد اجتمع مجلس النظار فقرر أن تحتفل الحكومة رسميًّا بتشييع جنازته في
الإسكندرية ومصر، وأن تنقل جثته على قطار خاص إلى العاصمة، ففعلت،
وشاركتها الأمة ونزلاؤها والمحتلون بهذا التشييع الذي لم يسبق مثله لغيره حتى كان
يخيل للمشيع أنه لم يبق أحد من سكان الإسكندرية ولا من سكان القاهرة إلا وقد
حضر ليودع هذا الإمام الوداع الأخير، وقد صُلي عليه في الجامع الأزهر، ودفن
في قرافة المجاورين تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته.
ولما كان المنار هو الداعي إلى الانتفاع بهذا الإمام المصلح في حياته، فجدير
به أن يرشد إلى الاستفادة بسيرته بعد مماته، فلا نطيل في الرثاء والتأبين وإن كان
بالحق، ولكننا نقص على القراء مخلص سيرته مع التزام الصدق؛ ليظهر لهم كيف
تعلم وتربي حتى صار إمامًا حكيمًا، وماذا عمل حتى صار مصلحًا عظيمًا،
وسنضع له تاريخًا مطولاً نفصل فيه ما أجملنا، ونشرح فيه ما لخصنا، ونودعه
كثيرًا من رسائله ومكاتباته، وخطبه ومقالاته، وما كتب به إليه بعض العلماء
والعظماء، وما قاله فيه نوابغ الكتاب والشعراء، وما أبَّنَتْه به الجرائد، وما رثي به
من غُرَر القصائد، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاء الأمة فيه، ويوفقنا
في مصابنا لما يحبه سبحانه ويرضيه.
((يتبع بمقال تالٍ))