للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجامعة الإسلامية

تكلم اللورد كرومر في تقريره الأخير عن الجامعة الإسلامية كلامًا يؤيد الذين
أظهروا يقظة المسلمين في غير شكلها، فرأينا أن ننشر ما كتبه الأستاذ الإمام عن
ذلك في رده الثاني على موسيو هانوتو، وهو لم ينشر في الرسائل المتداولة، ناقلين
ذلك عن الجزء الثاني من تاريخه قال رحمه الله:
شأن المسلمين اليوم، وظهور دعوة فيهم إلى توحيد كلمة المسلمين، وجمع
السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية.
أؤكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد
المسلمين، ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه، ما خطر بباله أن
يشير إلى هذه الدعوى، فضلاً عن أن يبني عليها حكما، وإن ما علق بالأوهام منها
فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحيي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسيي
المغرب، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها.
وإني أعرض الحقيقة كما هي، لا يغشاها ستار من تمويه، ولا غطاء من
تلبيس، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين
اليوم في كلامهم عن الدين، وما يَرُد أمثال صاحب الجريدة التي نشرت حديثه [١]
إلى رشدهم؛ حتى يتقوا الله في أنفسهم وأهل بلادهم، ولا يتخذ بعضهم من السلم
حربا، ولا من السكون شغبا.
لا أنكر أن طائفًا من الدين؛ طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض
المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض، وإن نسمة من نفس الرحمن مرت بأنفس
قليل من أهل الفضل فيهم فحركت ساكنهم، وأثارت هممهم إلى النظر فيما كان
عليه أهل هذا الدين، وفيما صاروا إليه، وإن منهم من يتكلم بما يرى؛ إذا وجد
سبيلاً إلى الكلام، ومنهم من ينشر رأيه في كتاب أو جريدة؛ إذا تهيأت له الوسائل
لذلك. ثم يوجد مقلدون لهؤلاء يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ولا
كلام لنا في هذر المقلدين، وإنما كلامنا فيما يرمي إليه غرض أولئك الناظرين.
ظهر الإسلام لا روحيًّا مجردًا، ولا جسدانيًّا جامدًا، بل إنسانيًّا وسطًا بين ذلك
أخذ من كل القبيلين بنصيب، فتوفر له من ملائمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره.
ولذلك سمى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعدُّوه المدرسة
الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية. ثم لم يكن من أصوله أن يدع ما
لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في
عمله. جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالا، وألان قاسيًا، وهذب
خشنًا، وعلم جاهلاً، ونبه خاملاً، وأثار إلى العمل كسلاً، وأقدر عليه وكلا،
وأصلح من الخلق فاسدا وروج من الفضيلة كاسدا ثم جمع متفرقا ورأب منصدعًا
وأصلح مختلاًّ، ومحا ظلمًا، وأقام عدلاً، وجدد شرعًا، ومكن للأمم التي دخلت
فيه نظامًا امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله
كمالا للشخص وألفة في البيت، ونظاما للملك. وظهرت به آثار النعمة عليهم في
جميع شؤونهم، ولم يفت العلم حظ من عنايته، بل كان قائده في جميع وجوه سيره.
فإن شاء قائل أن يقول: إن الدين لم يعلمهم التجارة، ولا الصناعة، ولا
تفصيل سياسية الملك، ولا طرق المعيشة في البيت لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم
السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه
وأباح لهم الملك، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة، وما ظنك بدين يقول خليفته
الثاني - وهو في المدينة من بلاد العرب - (لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب
لسئل عنها عمر) ويقول خليفته الرابع: (أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا
أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش) أي خشونته، يريد
بذلك أن يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الإحسان، وأسوة الفقراء
في حسن الصبر.
هكذا كان الإسلام مهمازًا للمسلمين؛ يحثهم إلى جلائل الأعمال، ومصباحًا
لبصائرهم يسترشدون به في استغراق الأحوال، وتقويم الأفكار، وعاطفًا يعطف
قلوبهم على الأمم بالعفو، والمرحمة، وحسن المعاملة، حتى رضيتهم الأرض
سادة لها، وقادة لسكانها، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم.
أفبعد هذا يعجب عاقل إذا رأى المسلم يرضى ما رضيه هذا المرشد الحكيم،
ويمقت ما مقته؟ أيدهشه أن يرى المسلم يهزأ بكل ما لم يعتقده سائغًا في دينه، وإن
كان ملك الأرض أو ملكوت السموات، بعد ما شهد المسلم من أثر نعمة الله عليه في
هذا الدين ما شهد؟ لا عجب في ذلك فإنه نتيجة ضرورية ينساق إليها الأمر بنفسه
بحكم سنة الله في خلقه.
واأسفا، لم يبق للمسلم من الدين إلا هذه الثقة فيه، أما الدين نفسه فقد انقلب
في عقل المسلم وضعه، وتغير في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته،
وانطمست في نظره وحق فيه قول علي -كرم الله وجهه - (إن هؤلاء القوم قد
لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا) .
لا أبحث اليوم في الأسباب التي وصلت بالدين في نفس المسلم إلى ما ذكرت.
ولكن أقول ولا أخشى منكرا لما أقول: قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه،
وتسرب في عقائده من حيث لا يشعر ما لا يتصل بأصلها، بل ما يهدم قواعدها
ويأتي على أساسها، عرضت البدع في العقائد والأعمال، وحلت محل الاعتقاد
الصحيح، وأخذت مكان الشرع القويم وظهرت آثارها في أعماله، وعم شؤمها
جميع أحوالها.
إن صح لفظ الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) أو لم يصح
فالقرآن يؤيد معناه، وعمل الأولين من المسلمين يحقق صحة ما حواه، فالرجل
والمرأة سواء في الخطاب التكليفي، وكانا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض
الإسلام، وخصال الإيمان، وفي طلب العلم بما يلزم لصلاح معادهما ومعاشهما
وبما تحسن به المعاملة مع من يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في
كتاب الله، وسنة رسوله، وعمل الصالحين من بعده، حتى لم يبق باب من أبواب
العلم إلا دخل منه بقدر الاستطاعة وما يسمح الزمان. ضل المسلم بعد ذلك في معنى
العلم، فظن الرجل أن غاية ما يفرضه الدين منه معرفة: فرائض الوضوء،
والصلاة، والصوم، في صورة أدائها، أما ما يتعلق بسر الإخلاص فيها، ووسيلة
قبولها عند الله، فذلك مما لا يخطر له ببال إلا القليل النادر.
أما آداب الدين، وتهذيب الروح، واستكمال الخصال الجليلة، مما جعله
الإسلام غاية العبادات، وثمرة الأعمال الصالحات، فهو مع أنه أهم علوم الدين مما لا
تتوجه إليه عزيمة، ولا تنصرف نحوه، اللهم إلا من أشخاص قلائل منثورين في
أطراف الأرض، لا ترقى بهم أمة، ولا تسمو بهم كلمة. أما من ينقطعون لطلب
العلوم؛ ليحصلوا جملة منها، فقد انقسموا إلى فريقين:
الأول - من يظن أنه وارث علوم الدين والقائم بحفظها، وقد قل أفراده في
معظم البلاد الإسلامية، ولم يبق منه إلا رسوم، لا يكاد يدركها نظر الناظر،
والمشتغلون منهم في بعض البلاد، كمصر والآستانة فإنما حظ الذكي منهم وقليل
ما هو، أن ينظر في كتب مخصوصة عينها له الزمان وضعف العرفان، ويفهمها
بمعنى أن يثق بأن هذا اللفظ دال على ذاك المعنى، ومتى تم له ذلك فقد استكمل
العلم، سواء سلم له عقله ودينه وأدبه بعد ذلك أم لم يسلم، فكان مثلهم مثل من ورث
سلاحا، فكان همه أن ينظر إليه، ويملأ عينه منه، ولا يمد يده إليه يستعمله أو
يزيل الصدأ عنه، فلا يلبث أن يأكله الصدأ ويفسده الخبث، ويزعمون أن الدين
يصد عما وراء ما عرفوا من العلوم النافعة، ومن رأي هؤلاء أن لا شأن لهم مع
العامة، ولا يجب عليهم أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، وقد ارتكبوا
بذلك خطأ في فهم دينهم، لا يساويه في سوء عاقبته خطأ، وللكثير منهم بل الأغلب
من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده ولا يخفى أن ما يحصله هذا الفريق في
العلم، لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود.
والفريق الثاني من يهيؤه أولياؤه لنيل منصب من مناصب الحكومة عال أو
سافل، وأفراد هذا الفريق إن كثروا أو قلُّوا، يحصِّلون مبادي العلوم المعروفة
بالعلوم العصرية. ثم يحصِّل كل واحد ما به ينال المنصب الذي يعده له والده،
على أن ما يحصل إما لفظ يحفظ، أو خيال يخزن. والمدار على الوصول إلى
ورقة الشهادة. ومن هؤلاء من يذهبون إلى أوربا؛ لاستعمال التربية فيها، ولا غاية
لهم سوى هذه الغاية. فمن أصاب منهم بعد ذلك وظيفة قنع بها، وحصر همه على
العمل فيها، ومن لم يجد وقف على الأبواب ينتظرها، فإذا مل الانتظار أو تقضى
زمن العمل، وجدته في قهوة أو ملهى يسرف في أوقاته، ويفسد في أدواته.
والصالحون منهم - وقليل ما هم - لا يهمهم شأن العامة شقيت أو سعدت، هلكت أو
قامت، فأي أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة؟ وأستثني منهم شواذ في كل بلد
على ضعفهم يرجى أن ينمو عددهم، وتجني الأمم ثمار أعمالهم. هذا شأن الرجال
مع العلم.
أما النساء فقد ضُرِب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن
بستار، لا يدرى متى يرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة، أو يؤدين فريضة
سوى الصوم، وما يحافظن عليه من الفقه؛ فإنما هو بحكم العادة، وحارس الحياء
وقليل جدا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام، وحشو أذهانهن الخرافات،
وملاك أحاديثهن الترهات، اللهم إلا قليلاً منهن، لا يستغرق الدقيقة عدهن، وكل
من الرجال والنساء يعد نفسه مسلما، يعدها الجنة، ويمنيها السعادة.
أخطأ المسلم في فَهْم معنى التوكل والقدر، فمال إلى الكسل، وقعد عن العمل
ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرضي ربه
ويوافي رغائب دينه.
أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم، وأن العزة
والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، وأن رفعة
الشأن تابعة للفظه، وإن لم يتحقق شيء من معناه، فإن أصابته مصيبة أو حلت به
رزية تسلى بالقضاء، وانتظر ما يأتي به الغيب؛ بدون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ،
أو ينهض إلى عمل؛ لتلافي ما عرض من خلل، أو مدافعة الحادث الجلل،
ومخالفًا في ذلك كتاب الله، وسنة نبيه.
أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر، والانقياد لأوامرهم، فألقى
مقاليده إلى الحاكم، ووكل إليه التصرف في شئونه ثم أدبر عنه، حتى ظن أن
الحكومة؛ يمكنها القيام بشئونه جميعها من إدارة وسياسة؛ بدون أن يكون لها منه
عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه، ومن رأى حزن الآباء إذا طلب أبناؤهم
لأداء الخدمة العسكرية، وما يبذلونه من السعي في تخليصهم منها، حكم بأن مما
يعقله أكثر المسلمين من معنى الحكومة، لا يمكن انطباقه على شيء من أوليات
العقل، وعرف أن ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه؛ من حيث ظنوه قادرًا على
كل شيء بدون عون من أحد، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار والتخلي عنه، من
حيث أنهم تركوه وشأنه، لا يساعدونه في حادث، ولا يعينونه فى أمر مهم، اللهم
إلا إذا أرغموا على ذلك، ومن ذا الذى يحسن عملاً إذا ألجئ إليه بالرغم؟ ومن
هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها
وقبيحها، اللهم إلا ما يمس شخصه منها.
أما الحكام وقد كانوا قدر الناس على انتياش الأمة مما سقطت فيه، فأصابهم
من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم؛ ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة،
ولم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة
سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها في إرضاء شهواتهم، لا يرعون في ذلك عدلا،
لا يستشيرون كتابًا، ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على
النفاق والكذب والغش والاقتداء بهم في الظلم، وما يتبع ذلك من الخصال التي
ما فشت في أمة، إلا حل بها العذاب.
هذا كله إلى ما حدث من بدع أخرى من مذاهب شتى في العقائد، وطرق
متخالفة في السلوك، وآراء متناقضة في الشرائع، وتقليد أعمى في جميع ذلك،
فتفرقت المشارب، وتوزعت المنازع، وعظم سلطان الهوى على أرباب النزعات
المختلفة، كل يجذب إلى نفسه، لا ينظر إلى حق، ولا يفزع من باطل، وإنما همه
أن يظفر بخصمه، وذلك الخصم هو ما يدعوه أخا له في الإسلام في معرض التشدق
بالكلام.
وزد على ذلك؛ وهذا أكبر بدعة عرضت على نفوس المسلمين في اعتقادهم،
وهي بدعة اليأس من أنفسهم ودينهم، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له، وأن ما
نزل بهم من الضر لا كاشف له، وأنه لا يمر عليهم يوم إلا والثاني شر منه.
مرض سرى في نفوسهم، وعلة تمكنت من قلوبهم؛ لتركهم المقطوع به من كتاب
ربهم وسنة نبيهم، وتعلقهم بما لم يصح من الأخبار، أو خطأهم في فهم ما صح منها،
وتلك علة من أشد العلل فتكًا بالأرواح والعقول، وكفى في شناعتها قوله جل شأنه
{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: ٨٧) .
تبع هذه البدع جميعها وأخرى يطول ذكرها، هزال في الهمم، وضعضعة في
العزائم، وفساد في الأعمال، ويبتدئ من البيت، وينتهي إلى الأمة، يمر في كل
طبقة، ويجول في كل دائرة خصوصًا من دوائر الحكومات، وما يُرمى به
المسلمون من التعصب الديني الأعمى، فإنما عرض على أقوام في البلاد الإسلامية
تبعًا لهذه البدعة الضالة، على أنني لا أسلم أنهم بلغوا فيه أدنى درجاته في الأمم
المسيحية شرقية كانت أو غربية، والتاريخ شاهد لا يكذب.
هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وعزائمهم وأعمالهم بسبب ابتداعهم في
دينهم، وخطأهم في فهم أصوله، وجهلهم بأدنى أبوابه وفصوله، لهذا سلط الله عليهم
من يسلبهم نعمة لم يقوموا بشكرها، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قبل لهم
بدفعه، إلا إذا تداركهم الله بلطفه، وقد ابتلاهم بمن يلصق بدينهم كل عيب ويقرنه
إذا ذكره بما يتبرأ منه، ويعده حجابا بين الأمم والمدنية، بل يعده منبع شقائهم
وسبب فنائهم.
تنبه لذلك أفراد من عقلاء المسلمين في أواسط القرن الماضي من سني
الهجرة، في أقطار مختلفة من بلاد فارس والهند وبلاد العرب ثم في مصر، وكل
منهم بحث في الداء، وقدر له الدواء بحسب فهمه على تقارب بينهم، ولعلهم يلتقون
يومًا من الأيام عند الغاية إن شاء الله.
مقصد الجميع ينحصر في استعمال ثقة المسلم بدينه في تقويم شئونه، ويمكن
أن يقال: إن الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد، وإزالة ما
طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع،
تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد،
واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات
السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة. فإذا سمعت داعيًا يدعو إلى العلم بالدين
فهذا مقصده، أو مناديا يحث على التربية الدينية فهذا غرضه، أو صائحا ينكر ما
عليه المسلمون من المفاسد فتلك غايته، وهذه سبل لمريد الإصلاح في المسلمين لا
مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين،
يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من
عماله أحدا، وإذا كان الدين كافلاً بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل
النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه، وهو حاضر
لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من أحداث ما لا إلمام لهم به لا - فلم
العدول عنه إلى غيره؟
لم يخطر ببال أحد ممن يدعو إلى الرجعة إلى الدين؛ سواء في مصر أو
غيرها، أن يثير فتنة على الأوربيين أوغيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين، غير
أن بعض المسيحيين إذا سمع قولاً في الدين أعرض عن فهمه، وأنشأ لنفسه غولاً
من خياله، يخاف منه ويخشى غائلته، يسميه باسم الدين. وبعضهم يظن أنه لو
انتبه المسلمون إلى شؤونهم، ورجعوا إلى الأخذ بالصحيح من دينهم، لاعتصموا
بجامعتهم، واستعانوا على تقويم أمورهم بأنفسهم، واستغنوا عمن أدخلوه في أعمالهم
من غيرهم، فيحرم الكثير من المسيحيين تلك المنافع التي نالوها بغفلتهم، وهو
سوء ظن من الزاعم بنفسه، فإنه بظنه هذا يعتقد أنه غاش مغرر، وسالب متلصص،
وسوء ظن بالمسلمين أيضا، فإن أهل الوطن الواحد لا يستغني بعضهم عن بعض
مهما ارتقت معارفهم، وعظم اقتدراهم على الأعمال. وغاية الأمر أن ما كان ينال
اليوم بدون حق يصبح وهو لا ينال إلا بحق، والأجنبي الذي كان ينفق الواحد
ويربح المائة، يرجع إلى الاعتدال في الكسب، ويحتاج إلى شيء من التعب في
استيراد الربح، وقد كان المسيحيون عاملين في الدول الإسلامية؛ وهي في عنفوان
قوتها، والأجانب يطلبون الكسب في أرجائها؛ وهي في أرفع مقام من عزتها.
نعم يعرض في طريق الدعوة إلى الدين على هذا الوجه، أن يلتمس مسلم
بمصر معونة من مسلم آخر بسوريا أو بالهند أو بالعجم أو بأفغانستان أو بغير
هذه الأقطار؛ لأن مرض الجميع واحد وهو البدعة في الدين، فإذا نجح الدواء في
موضع كان السليم أسوة للمريض في موضع آخر، أما السعي في توحيد كلمة
المسلمين، وهم كما هم، فلم يمر بعقل أحد منهم، ولو دعا إليه داع لكان أجدر به
أن يرسل إلى مستشفى المجانين.
يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج، ويقول: إنه صلة
بين المسلمين في جميع أقطار الأرض، ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم، فعليهم
أن يستفيدوا منه. وهو كلام حق، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه، فإن
الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين، حتى يستعين بعضهم
ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم، أو أضل من أعمالهم، وفي مدافعة ما
ينزل بهم من قحط، أو ظلم، أو بلاء، وهو أمر معهود عند جميع الأمم التي تدين
بدين واحد؛ خصوصًا عند الأوربيين.
يكثر المسلمون اليوم من ذكر الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد، ويعلقون
آمالهم بهمته، وكثير منهم يدعو إلى عقد الولاء له، وهذا أمر لا ينبغي أن يدهش
أحدا؛ فإن هذه الدولة هي أكبر دول الإسلام اليوم، وسلطانها أفخم سلاطينهم، ومنه
يرتجى إنقاذ ما بين يديه من المسلمين مما حل بهم، وهو أقدر الناس على إصلاح
شؤونهم، وعلى مساعدة الداعين إلى تمحيص العقائد، وتهذيب الأخلاق؛ بالرجوع
إلى أصول الدين الطاهرة النقية. فأي شيء في هذا يزعج أوربا حتى تتحد على
هضم حقوق المسلمين؟ إذا حدثت حوادث مثل الحوادث الماضية، كما يقول موسيو
هانوتو.
بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد، يقول فيه
موسيو هانوتو: إن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية من السلطة
المدنية، وهو كلام صحيح. ولكنه لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند
المسلمين. لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت
للبابا على الأمم المسيحية؛ عند ما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقرر
الضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية. وقد قررت الشريعة الإسلامية
حقوقًا للحاكم الأعلى؛ وهو الخليفة أو السلطان، ليست للقاضي صاحب السلطة
الدينية. وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب أو
السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس له عليهم إلا التولية
والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن، وهذه
الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرعت نظامًا لطريقة الحكم،
وعدد الحاكمين، ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين
وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها. وكذلك حكومة مصر أُنشئت فيها محاكم
مختلطة ومحاكم أهلية، بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم،
ولا دخل لشيء من ذلك في الدين، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى، كما
يطلب مسيو هانوتو. ولكن مع ذلك لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين، بل
كان الأمر معكوسًا، فإن أمراءنا السابقين لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين، لما
استطاعوا المجاهرة بمخالفته في ارتكاب المظالم، والمغالاة في وضع المغارم،
والمبالغة في التبذير الذي جر الويل على بلاد المسلمين، وأعدمها أعز شيء كان
لديها وهو الاستقلال.
إن فرنسا تسمي نفسها حامية الكاثوليك في الشرق، وملكة إنكلترا تلقب بملكة
البروتستانت، وإمبراطور الروسيا ملك ورئيس كنيسة معا، فلم لا يسمح للسلطان
عبد الحميد أن يلقب بخليفة المسلمين، أو أمير المؤمنين.
لا أظن أن مسيو هانوتو، يسيء الظن بدعوة دينية على الوجه الذي بيناه،
وأظنه يكون عونًا للمسلمين على تعضيدها في البلاد الإسلامية الفرنساوية، إذا وجد
فيها من يقوم بها، وأنا أضمن له بعد ذلك أن تتفق مصالح المسلمين مع مصالح
الفرنساويين، فإن المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين سابقوا الأوربيين في
اكتساب العلوم، وتحصيل المعارف، ولحقوا بهم في التمدن، وعند ذلك يسهل
الاتفاق معهم إن شاء الله.
سوء ظن المسلمين بسياسة أوربا كلها، وعدم ثقة سياسييهم بدولة من الدول،
واعتقاد المسلمين بأن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية،
وعدم اطمئنانهم إلى سياسة الدول المسيحية، حتى أدى بهم فقدان الثقة بالمسيحيين،
إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة، وصدق معهم، سمع
بذلك كله موسيو هانوتو من صاحب الجريدة المعروفة؛ ومن بعض العثمانيين في
الآستانة وباريس؛ ثم أخذ يبرهن على أن سياسة أوربا اقتصادية ملكية، لا دينية
لاهوتية.
لا أدري من هم المسلمون الذين وصفهم موسيو هانوتو، ومن أبلغه أخبارهم،
أهم الهنود؟ وهم في حكم دولة أجنبية، ولا نزال نرى في خطبهم وجرائدهم ما يدل
على طاعتهم لحكامهم، وتعليقهم الآمال بعدلهم، والتماسهم الحق من طرقه.
هل هم مسلمو روسيا؟ وثقتهم بحكومتهم وثقة حكومتهم بهم لا تخفى على أحد
حتى إن الدولة الروسية تفضلهم على المسيحيين من غير المذهب الأرثوذكسي.
هل هم الأفغانيون؟ وإخلاص أميرهم في مصافاة الإنكليز أشهر من أن يذكر،
ولا ينفي إخلاصه حرصه على بلاده ومحافظته على مصلحتها.
هل هم الفرس؟ واستنامتهم إلى السياسية الروسية لا يجهلها أحد؟
هل هم المراكشيون، وهم بمعزل عن كل ما يسمى سياسة، بل هم في غفلة
عن الدين والدنيا جميعا، شغل بعضهم ببعض، فلا ينفكون يتقاتلون ويتسالبون،
حتى يقضي الله فيهم بقضائه.
هل هم التونسيون؟ وقد أثنى عليهم موسيو هانوتو بما هم أهله، وثبت له
ارتياحهم إلى السلطة الفرنساوية؛ لمجرد ما أطلقت لهم الحرية في دينهم.
لعله لم يقصد إلا العثمانيين كما يدل عليه بقية كلامه، وكما يفيده قوله: أن لا
يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا، والعثمانيون منهم المصريون ومنهم غيرهم. فأما
المصريون فلا شيء عندهم يدل على عدم الثقة بالأوربيين وبالمسيحيين العثمانيين
فإنهم يشاركون في العمل مواطنيهم من الأقباط في جميع مصالح الحكومة، ما عدا
المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين، وهم معهم على غاية الوفاق، خصوصًا أهل
الإخلاص وسلامة النية منهم، ولكل من الفريقين أصدقاء وأحبة في الفريق الآخر،
ثم شأنهم هو ذلك الشأن مع سائر الطوائف المسيحية، إلا من ظهر منهم بالتعصب
البارد للدين، وآذاهم في دينهم أو فى منافعهم الخاصة بهم؛ لا لشي سوى التعصب
الأعمى، ولا نطلب على ذلك شاهدًا أقرب من صاحب الجريدة الذي يحادثه موسيو
هانوتو؛ إنه بعد أن كان على المسلمين أثناء الحرب الروسية العثمانية، وبعد أن
أتى ما أتى عقب الحوادث العرابية، شهد له المسلمون بأنه صديقهم والساعي في
خيرهم، كما افتخر بذلك مرارًا فى جريدتة، وإن كانت له إليهم هنات لا تزال
تبدو من فيه إلى وقت ذلك الحديث. فأين فقد هذه الثقة بالعثمانيين المسيحيين في
مصر؟ هل طرد أحد من خدمة الحكومة؛ لأنه مسيحي عثماني؟ هل حرم أحد حق
المحاماة، أو إنشاء الجرائد، أو المطابع، أو إقامة المصانع، أو تأسيس البيوت
التجارية؛ لأنه مسيحي عثماني؟ فليأت صاحبنا بشاهد واحد.
أما حالهم مع الأوربيين، فإنا نراهم إذا أحسوا بعدل من إنكليزي ذكروه، أو
وصل إليهم معروف من أي عامل أوربي شكروه، بل أزيدك على هذا أن المستغيث
منهم بالحكومة، يطلب منها أن يتولى تحقيق مظلمته إنكليزي، كما شوهد ذلك كثيرًا
في شكاياتهم، وليس بقليل من يعرض شكواه على جناب اللورد كرومر، وهو ليس
بحاكم رسمي. فأي دليل على الثقة أكبر من هذا.
ليس بقليل فى مصر من يثق بالفرنساويين ومن له بينهم أصدقاء يركن إليهم
ويعتد بولائهم، ومسيو هانوتو وصاحب الجريدة يعرفان ذلك.
كثيرًا ما أغرى الأوربيون من فرنساويين وأمريكيين من أرباب المدارس في
مصر شبانًا من المسلمين بالمروق من دينهم؛ والدخول في الديانة المسيحية، وفروا
ببعضهم من القطر المصري إلى البلاد الأجنبية؛ وأحرقوا كبد والديه، ومع ذلك لا
نزال نرى المسلمين يرسلون أولادهم إلى مدارسهم، وناظر المعارف عندنا وزير
مسلم وأولاده يتربون في مدارس الجزويت، وكثير من أبناء الأعيان في مدارس
الفرير، فأي ائتمان يفوق هذا الائتمان.
زادت ثقة المصريين من المسلمين بالأوربيين؛ خصوصًا في المعاملات،
حتى أساء أولئك الأوربيون استعمالها، وانتهزوا فرصتها، وسلبوا كثيرًا من أهل
الثروة ما كان بأيديهم، ومع ذلك فهم لا يزالون يأمنونهم، ويغالون في الاستنامة
إليهم، ويقلدونهم فيما يخالف دينهم وعوائدهم، فماذا يطلب من الثقة فوق هذا؟ !
هل يشكو عقلاء المسلمين في مصر من شيء مثل ما يشكون من الثقة
العمياء بالأجنبي من غير تمييز فيما هو عليه، من إخلاص أو غش، من صدق أو
كذب، من أمانة أو خيانة، من قناعة أو طمع، حتى آل الأمر بالناس إلى ما آلوا
إليه من خسارة المال وسوء الحال، فهل هذا هو فقد الثقة بالأوربيين والعثمانيين
المسيحيين؛ الذي يعنيه حضرة صاحب الجريدة وجناب موسيو هانوتو؟
وأما العثمانيون من غير المصريين، فإذا ارتقينا إلى الدولة وسلطانها - أيده
الله - وجدنا أن نظام الدولة قاض باستعمال المسيحيين في إدارتها ومحاكمها في
كل بلد فيه مسيحيون، والمأمورون من المسيحيين ينالون من النياشين والرتب ما
يناله المسلمون على نسبة عددهم أو فوق ذلك، وكثير من المسيحيين نالوا من
الامتيازات والمنافع في الدولة ما لم ينله مسلم، وسفارات الدولة ومناصبها العالية لا
تخلو من المسيحيين.
إقبال السلطان على رؤساء الطوائف المسيحية، وإنعامه عليهم بوسامات
الشرف، واختصاصه لبعضهم بشرف المثول في حضرته، والإحسان إليه برقيق
المخاطبة، لا ينقطع ذكره من الجرائد، صاحب الجريدة التي نقلت الحديث أمثل
شاهد على مثل ذلك، فقد جاهر زمنًا ليس بالقصير بما لا ترضى الدولة بمثله ولا
بأقل منه من مسلم، ثم سهل عليه وهو مسيحي؛ أن يكون موضع ثقة للجانب
السلطانى، حتى أدناه منه وقبله فى مجلسه، وسمع منه أمير المؤمنين تلك النصيحة
المفيدة التي نشرها في جريدته من نحو شهرين، إثر هبوبه لنصرة مسيو هانوتو،
ثم والى عليه إحسانه بالرتب والنياشين وغيرها، فما هي الثقة إن كان هذا فقدها.
أما سياسة الدولة الخارجية: فالفرنساويون يشكون من مصافاة السلطان؛
وثقته بدولة ألمانيا وهي دولة مسيحية، ولا أظنهم يشكون من ثقة أخرى لدولة
إسلامية، وكانت للدولة ثقة لا تتزعزع بالسياسة الإنكليزية، ثم حدثت حوادث
أهمها نشأ من ضعف سياسة موسيو غلادستون، فأعقبها اضطراب في تلك الثقة مدة من الزمان بحكم الضرورة، ثم إنا نراها اليوم تتراجع، وفي رجال
الدولة من لهم ثقة بصداقة روسيا، ويودون لو مالت إليها سياسة الدولة وهم
مسلمون.
والذي أحب أن يعرفه موسيو هانوتو؛ أن سياسة الدولة العثمانية مع الدول
الأوربية ليست بسياسة دينية، ولم تكن قط دينية من يوم نشأتها إلى اليوم. وإنما
كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة، وفي أخرياتها دولة سياسة ومدافعة، ولا
دخل للدين في شيء من معاملاتها مع الأمم الأوربية.
إمبراطور ألمانيا جاء إلى سوريا؛ للاحتفال بفتح كنيسة، فبالغ السلطان في
الاحتفال به إلى الحد الذي اشتهر وبهر. يجيء الأمراء المسيحيون من الأوربيين
إلى الآستانة، فيلاقون من الاحتفال ما لا يلاقونه في بلاد مسيحية، وينفق في تعظيم
شأنهم من المال، ما المسلمون في حاجة إليه، أليس ذلك لمجاملتهم واكتساب مودتهم؟
وهل بعد المودة إلا الثقة بصاحب المودة؟ كان يمكن للسلطان أن يكتفي
بالرسميات ولا يزيد عليها. ولكن عهد في معاملته ما يفوق الرسمي بدرجات، فإن
سلمنا أن سياسة أوربا ليست بدينية من جميع وجوهها. فسياسة الدولة العثمانية مع
أوربا هي كذلك، ومسلموها تبع لها.
فإن قال قائل: إن حوادث الأرمن لم تزل في ذاكرة أهل الوقت، وينسبون
وقائعها إلى التعصب الديني، بل يقولون: إن أسبابها مظالم جَرَّ إليها ذلك التعصب
أمكن أن يجاب بأن العداوة مع طائفة مخصوصة لا تدل على فقد الثقة بكل مسيحي
منها ومن غيرها، ومع ذلك فإن كثيرًا من الأرمن في خدمة الدولة إلى اليوم، وهم
بذلك موضع ثقتها، وهذا وذاك يدل على الريب فيما يزعمون من أن منشأ تلك
الوقائع التعصب الديني. فإن المسيحيين سواهم في الممالك العثمانية أنعم حالاً من
المسلمين، كما شاهدناه بأنفسنا، ولو أنصف الأوربيون لأمكنهم فهم أسباب هذا
الاضطراب الذي يظهر زمنًا بعد زمن في تلك الأقطار، ولسهل عليهم أن يعرفوا أن
منبعه في أوربا لا في آسيا.
لا يغث عليَّ أن أقول: إن المسيحيين في الممالك العثمانية متمتعون بنوع
من الحرية في التعليم والتربية وسائر وجوه الخير، يتمنى المسلمون أن يساووهم
فيه. فهل هذا عنوان سوء الظن بالمسيحيين وعدم الثقة بهم؟ لا يليق بكاتب مثل
صاحب الجريدة؛ أن يروي عن المسلمين كافة مثل ما رواه؛ فإن ذلك مما يحزن
المسلمين والمسيحيين جميعا، وإني أعتقد أنه عند الكلام على المسلمين، لم يكن في
ذهنه إلا بعض أشخاص لم تعجبه آراؤهم فيه، فاستحضر في صورهم جميع
المسلمين وسياسييهم.
ليعلم موسيو هانوتو أن جميع ما يقال له أو يكتبه بعض العثمانيين، لا حقيقة
له إلا في ذهن القائل أو الكاتب، فلا ينبغي أن يعول على مثله في أحكامه، وعليه
أن يحقق الأمر بنفسه؛ إن كان يهمه أن يتكلم فيه.
وأما أن المسلمين أخذوا عليه فيما كتب عن الإسلام؛ مع أنه خدمهم. وقوله:
فكيف بحالهم مع من لم يخدمهم - فنبين له الوجه فيه؛ ليزول عنه ما سبق إلى فهمه
لو اقتصر على الكلام في السياسة، وبحث في علاقة المسلمين مع حكومته، ولم
يسط على الدين نفسه في أصلين من أهم أصوله، لما أخذ عليه أحد إلا من ينتقد
رأيه من جهة ما هو صحيح أو غير صحيح. ولكنه لم يكتف بذلك، وطعن في عقيدة
التوحيد، وبَيَّن رداءة أثرها في المسلمين، واستل سلاحه على عقيدة القدر، وبَيَّن
سوء ما جَرَّت إليه فيهم، وهو بذلك يثبت أن المسلمين لا يزالون منحطين، ما
داموا مسلمين، وهو ما لا يرضاه أحد منهم.
لو لام على المسلمين فيما هم عليه اليوم وفي انحرافهم عن أصول دينهم،
واكتفى بتعنيفهم على إهمالهم لشؤونهم، وغفلتهم عن مصلحتهم، كما جاء في حديثه
الذي نحن بصدده، لما وجد من المسلمين إلا معتبرًا بقوله، متعظًا بنصيحته والسلام.
***
قول اللورد كرومر
في
الجامعة الإسلامية والشريعة
(مأخوذ من ترجمة إدارة المقطم لتقريره الأخير عن سنة ١٩٠٦)
إذا قلنا: إن الحركة الوطنية المصرية الحالية ليست إلا حركة إلى الجامعة
الإسلامية، لم يطابق قولنا الواقع من كل وجه. ولكن لا ريب في كون هذه الحركة
مصبوغة صبغاً شديدًا بصبغة الجامعة الإسلامية. وهذا الأمر كان معلومًا عندي منذ
زمان طويل، وقد علمه كثيرون من الأوربيين الآن، كما يظهر مما يرد في
الجرائد المحلية؛ ولكن علمهم به أبطأ كثيرا. ويسهل عليَّ إيراد كثير من الشواهد
والأدلة على صحة هذا القول، إذا اقتضى الأمر إيرادها [٢] . ولكن أقول الآن:
إن الحوادث التي حدثت في الصيف الماضي، إنما كشفت عنصرًا جديداً من
عناصر الحالة المصرية؛ لأنه ولو سلَّم الإنسان بما لا ريب في صحته؛ وهو أن
الدين أعظم قوة محركة في الشرق [٣] وأن الشرقيين لا تحلو لهم حكومة كالحكومة
الثيوقراطية [٤] فقد كان يجوز له مع ذلك أن ينتظر.
إن تذكر المصريين لما أصابهم في الماضي واعتبارهم؛ لتقدم بلادهم في
الثروة واليسر في الحال تقدمًا عظيمًا جدًّا بالنسبة إلى ما جاوروها من الولايات
العثمانية، يحولان دون نمو الجامعة الإسلامية في بلادهم أكثر مما حالا في الظاهر،
وإنما قلت في (في الظاهر) لأني رغمًا عن كل الظواهر، لا أزال غير مقتنع بأن
الميل إلى الجامعة الإسلامية متأصل كثيرًا في الهيئة الاجتماعية المصرية، بل إني
واثق أنه لو كان المصريون يعتقدون إمكان إخراج الآراء المتعلقة بتلك الجامعة من
القوة إلى الفعل، لانقلب الرأي العام عليها انقلابًا عظيمًا سريعًا.
ومهما يكن من ذلك، فقد اتضح أن الجامعة الإسلامية عنصر من عناصر
الحالة المصرية؛ التي يجب حفظها في البال، فلذلك يحسن بنا فهم المقصود منها.
المقصود من الجامعة الإسلامية بوجه الإجمال؛ اجتماع المسلمين في العالم كله
على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فإذا نظر إليها من هذا الوجه، وجب
على كل الأمم الأوربية التي لها مصالح سياسية في الشرق، أن تراقب هذه الحركة
مراقبة دقيقة؛ لأنها يمكن أن تؤدي إلى حوادث متفرقة، فتضرم فيها نيران
التعصب الديني في جهات مختلفة من العالم. وقد أوشكت هذه النيران أن تضطرم
بمصر في الربيع الماضي. على أني أرى قومًا يقولون: إن القلق الذي جرت
الإشارة إليه في مجلس النواب في الصيف الماضي كان وهميا، فأنا لا أوافقهم على
هذا القول مطلقا؛ لأن طبع الطبقات الدنيا من أهل مصر ولا سيما سكان المدن
متقلب كثيرا. فهاجوا من قراءة المقالات التي كانت تصدر في الجرائد الإسلامية
طافحة بالإغراء والكذب هيجانا شديدا دفعة واحدة، وسكنوا دفعة واحدة، كذلك
عندما زيدت عساكر جيش الاحتلال، ولطَّفت الجرائد الإسلامية لهجتها بتشديد
العقلاء من أهل بلادها النكير عليها. ولكن لا ريب عندي أن البلاد كانت عرضةً
لخطر حقيقي برهة من الزمن، فقد جاءتني أخبار وتقارير عديدة عن تهديد
المسيحيين والأوربيين. ثم إن الأخبار الغامضة المبهمة التي تشيع قبل حدوث
الفتن والقلاقل في الشرق عادة؛ شاعت شيوعًا يستحق الاعتبار، حتى تولى الرعب
الأوربيين الساكنين في القطر، فجعلوا يتقاطرون من القرى إلى المدن، ولم
يعترِهم هذا الرعب لغير سبب معقول، فقد شرحت في تقريري عن سنة ١٩٠٥
(وجه ١٧-١٩) ما جرى في الإسكندرية أواخر سنة ١٩٠٥، حين أفضى وقوع
الخصام بين رجلين يونانيين إلى شغب عظيم، لم يلبث أن انقلب هيجانًا على
المسيحيين. فلو اتفق حدوث حادثة من هذا القبيل في إبان الهيجان الذي حصل؛
بسبب حادثة الحدود بين تركيا ومصر- وحدوثها لم يكن أمرا بعيدا - لأمكن، بل
لترجح أنها كانت تفضي إلى عواقب وخيمة.
أما ما يقوله قوم آخرون من أن ذلك القلق أتي عن سياسة الحكومتين البريطانية
والمصرية في أمور مصر الداخلية، فخالٍ من كل أثر للصحة؛ لأن
القلق كله وليس بعضه فقط نتج عن تصديق خلق كثير من الأهالي الذين كانوا
تحت تأثير الجامعة الإسلامية، لما كان يقال لهم من أن ما كان يجري حينئذ، إنما
كان يقصد به التعدي على رأس الديانة الإسلامية.
ولنعد إلى ما كنا عليه فأقول: إني إن كنت لا أصدق أن الجامعة الإسلامية
تنتج غير اضطرام نيران التعصب في أمكنة متفرقة؛ كما سبقت إليه الإشارة،
فذلك:
أولاً - لأني لا أصدق أن المسلمين يتَّحدون معا ويتعاونون، متى خرجت
المسألة عن القول إلى الفعل.
وثانيًا - لأني واثق بقوة أوربا واقتدارها عند الاقتضاء على تلافي هذه
الحركة من الجهة المادية، وإن كانت غير قادرة على ذلك من الجهة الروحية.
والجامعة الإسلامية أيضًا عبارة عن معانٍ أخرى غير معناها الأصلي. ولكنها
لا تخلو من علاقة به. وهذه المعاني أهم بالنظر إلى ما نحن فيه من المعنى الأعم
الذي سبقت الإشارة إليه.
فمنها أولاً في مصر، الخضوع للسلطان وترويج مقاصده، وهذا المعنى يدل
على دخول عنصر جديد في حالة مصر السياسية. فقد كانت الحركة الوطنية
المصرية دائرة على مضادة التُّرك إلى عهد قريب؛ إذ الثورة العرابية كانت في
الأصل على تركيا والتُّرك، أما الآن فيبلغني أن زعماء الحركة الوطنية يقولون
إنهم لا يقصدون توثيق عرى الاتحاد بين تركيا ومصر، وإنما يقصدون حفظ سيادة
السلطان على مصر. ولكن قولهم هذا يختلف عما كانوا يقولونه منذ عهد قريب
جدًّا اختلافًا جليًا، بحيث لا يتمالك الإنسان عن الظن بأن قولهم الآخر إنما خطر
على بالهم بعدما علموا أنهم إذا وسعوا نطاق العلائق التركية، أبعدوا عنهم أميالا
يتمنون قربها منهم ودوامها معهم. ولكن ليس من الإنصاف تقييد الحزب الوطني
جملة بأقوال يلقيها أفراد قليلون غير مسؤولين على عواهنها. فإذا سلمنا بأن القول
الأخير هو رأي الحزب الوطني الصحيح، فعندي عليه أن سيادة السلطان على
مصر لم ينازع فيها قط على ما أعلم، ولا يحتمل أن يصيبها شيء، ما دام كل ذوي
الشأن في الفرمان - الذي هو اتفاق بين فريقين كما لا يخفى - لا يفعلون شيئًا
خارجا عن دائرة حقوقهم. فحادثة سيناء، إنما بلغت ما بلغت من الأهمية وعظم
الشأن؛ لما خيف من خرق حرمة الفرمان، وما يتصل به من المستندات الرسمية
المحسوبة جزأ منه على وجه يعود بالضررعلى القطر المصري.
وثانيًا إن الجامعة الإسلامية؛ تستلزم بالضرورة تهييج الأحقاد الجنسية
والدينية إلا في ما ندر. فلا شك أن كثيرين من أنصارها ينصرونها عن حرارة
دينية حقيقية، وآخرين يودون لو أمكنهم أن يفرقوا بين القضايا السياسية والدينية،
وبينها وبين الجنسية أيضا؛ إما لأن مبالاتهم بالدين قد قلَّت، حتى أوشكوا أن يحكوا
(اللاأدريين) أو لكون أغراضهم سياسية، أو لكونهم يقصدون تحين الفرص للانتفاع
بها، أو لكونهم اتبعوا الآراء الحديثة عن وجوب التسامح في الدين كما هو مأمولي.
ولكن متى كانت هذه رغبتهم ومقاصدهم، فلا شك عندي أنهم يعجزون عن تنفيذها؛
لأنهم إن لم يقنعوا عامة المسلمين بأفعالهم أنهم من المسلمين المجاهدين، لم
يستطيعوا أن يحولوا انتباههم إليهم، ولا أن يكتسبوا ميلهم أيضا. فالضرورة تقضي
عليهم بتهييج الأحقاد الجنسية أو الدينية: إما ظاهراً أو خفية؛ ليرقوا بيانهم السياسي.
وثالثًا: إن الجامعة الإسلامية تستلزم تقريبًا السعي في إصلاح أمر الإسلام
على النهج الإسلامي، وبعبارة أخرى السعي في القرن العشرين في إعادة مبادئ
وضعت منذ ألف سنة [٥] هدًى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة، وهذه
المبادئ منها ما يجيز الرق، ومنها ما يتضمن سننًا وشرائع عن علاقات الرجال
والنساء؛ مناقضة لآراء أهل هذا العصر، ومنها ما يتضمن أمرًا أهم من ذلك كله؛
وهو إفراغ القوانين المدنية، والجنائية، والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا
تحويرًا، وهذا ما وقف تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام.
فلهذه الأسباب؛ وبقطع النظر عن كل الاعتبارات السياسية، لا يجد المهتمون
بإصلاح مصر بدًّا من استنكار الدعوة إلى الجامعة الإسلامية. ويجب أيضًا بذل
أقصى العناية في السهر على كل ميل طبيعي جائز إلى الجامعة الوطنية؛ لكيلا
تجتذبه على غير انتباه من صاحبه هذه الحركة -حركة الجامعة الإسلامية - التي
هي من أعظم الحركات المتقهقرة، فلا تستحق أن يميل أحد إليها؛ لأنه قد يعسر
على الإنسان أن يميز شبح الجامعة الإسلامية؛ إذا تجلبب بجلباب الجامعة الوطنية
اهـ. كلام اللورد.
(المنار)
إن البحث في هذا الفصل الذي أقام المسلمين هنا وأقعدهم بحق ينحصر في
ثلاث مسائل: (١) الجامعة الإسلامية نفسها وما عده من أسباب استنكارها
وهو (٢) إجازة الرق، و (٣) مناقضة علاقات الرجال بالنساء لآراء أهل العصر
(٤) الجمود على قوانين وضعت لأهل السذاجة.
(١)
الجامعة الإسلامية
يعرف اللورد كما يعرف جماهير القراء أن السيد جمال الدين الأفغاني كان
أشهر دعاة ما يسمونه الجامعة الإسلامية ذكرا، وأقواهم صوتا، وأكثرهم سعيا،
وأشدهم اضطلاعا، وقد اشتهر عنه أنه كان يحاول جمع كلمة المسلمين على خليفة
واحد أو سلطان منهم، والصحيح أنه لم يكن يدعو إلى ذلك، ولم يخطر له على بال
أن هذا مما تتناوله يد الإمكان، بل قال في معرض تنبيه المسلمين وحثهم على
الوحدة (ولست أعني أن يكون لهم إمامًا واحدًا، فإن هذا ربما كان متعذرًا، وإنما
أعني أن يكون إمامهم القرآن) .
وكان الأستاذ الإمام أعظم أنصاره في عمله بمصر وأوربا، وقد استقر رأيه
بعد السعي معه، والعمل من طريق السياسية والدين معًا على قاعدة (ما دخلت
السياسة في عمل إلا وأفسدته) وكثيرًا ما قال لنا: إن السيد جمال الدين كان أقدر
من عرفنا على الإصلاح، وأنه لولا افتتانه بالسياسة لعمل عملاً عظيما، وأن
الأساس الذي يجب أن يبنى عليه إصلاح حال المسلمين هو تحرير الفكر من قيد
التقليد، وفهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف والبدع، واعتباره من
موازين العقل البشري التي وضعها الله - تعالى - لترد من شططه وتقلل من
خبطه، وأنه بهذا الاعتبار يعد صديق العلم، وباعثًا على البحث في أسرار
الكون , ويتوقف هذا على إصلاح أساليب اللغة العربية وإحيائها في الألسنة
والأقلام.
وقد عرف اللورد الأستاذ المرحوم، وحمد طريقته هذه، وشبهها في بعض
تقاريره بطريقة السيد أحمد خان في الهند، وقال: إن حزبه جدير بالمساعدة
والتنشيط من الأوربيين. والذي نعرفه نحن بعد السيرعلى هذه الطريقة تسع
سنين وأشهرا، أن طلاب الإصلاح الإسلامي في مصر وسوريا وتونس كلهم على
طريقة الشيخ محمد عبده، كما أن معظم المصلحين في الهند على طريقة السيد أحمد
خان، ولا يوجد في غير هذه الأقطار حركة إسلامية إلى الإصلاح إلا في روسيا
وإيران.
فأما مسلمو روسيا فقد ثبت لدولتهم في الحرب الأخيرة وما أعقبته من
الثورة، أنهم خير رعاياها وأسلمهم قلوبا، وهم الآن لا يطلبون من حكومتهم
إلا العدل والمساواة، ومن أنفسهم إلا العلم والثروة.
وأما الفرس فحركتهم محصورة في إصلاح حال حكومتهم، وليس بين هؤلاء
ولا أولئك وبين سائر المسلمين صلات سياسية، ولا أحد منهم يقاوم
الأوربيين؛ وهم يسكنون الأحقاد لا يهيجونها.
فالجامعة الإسلامية بالمعنى الذي يفهم من كلامه لا وجود لها في الأرض،
وإنما يوجد في المسلمين دعوتان: دعوة إسلامية وتنحصر فيما بيَّناه آنفًا وهو ترك
البدع والجمع بين الدين وبين العلم والمدنية، ودعوة وطنية أو سياسية؛ وهي
تنحصر في مطالبة أصحاب السلطة فيهم بما يرقي بلادهم، ويحفظ حقوقهم فيها،
ولا علاقة لهذه الدعوة بالدين، بل كثيرًا ما تخالفه.
نعم إنه يوجد في كل بلاد من القوَّالين أفراد؛ يتخذون اسم الإسلام، والجامعة
الإسلامية، والخلافة الدينية، والخليفة الأعظم، والعالم الإسلامي، وغير ذلك من
الكلمات أناشيد تستمال بها النفوس؛ لتعظيم القائل أو لبذل المال له، وقد يوهم
كلامهم شيئًا مما أشار إليه اللورد، وإننا جازمون بأن هؤلاء لا عمل لهم في الإسلام
يخشى أو يرجى، ولا دعوة لهم تطاع أو تعصي، وإنما مثلهم كمثل أصحاب تلك
الأناشيد في مدح الأولياء، وفي الزهد في الدنيا التي يستعطفون بها الناس ويستندون
بها أكفهم، ومن خشي منهم لغطه. وقد أغنانا عن التطويل في هذه المسألة ما نقلناه
عن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- وهو القول الفصل فيها.
(٢)
مسألة الرق
يقول اللورد: إن الشريعة الإسلامية تجيز الرق، ونقول: نعم إنها أجازته
ولكنها ما فرضته فرضا، ولا أوجبته إيجابا، ولا ندبت إليه ندبا، ولا استحبته
استحبابا، بل نقول بعبارة أوجز: إنها لم تجعله كما يخشى اللورد دينا يتقرب به
إلى الله. فيقال: إن المسلمين لا يتركونه، بل أقرت البشر- وكلهم كانوا
يسترقون - على ما في أيديهم من الأرقاء، وشرَّعت لهم العتق وتحرير الرقيق،
وجعلت ذلك دينًا ويُتقرب به إلى الله عز وجل. فتارة على سبيل الوجوب والحتم
الذي لا بد منه، وتارة على سبيل الندب.
ما أجازت الشريعة الإسلامية الرق إلا لأنه قد يكون موافقًا لمصلحة من
يُسترقون: كأن يقتل الرجال في حرب شرعية، ويبقى النساء والأطفال بدون عائل
ولا كافل، فقد يكون من الخير والمصلحة في مثل هذه الحالة أن يسترقوا للعجز
عن الاستقلال في الحياة، فإذا تسرى الرجال بالنساء وولدن لهم كما هو الغالب،
زال رقهن إذ يمتنع انتقالهن إلى ملك آخر، ويعتقن بموتهم، ولا يكون حالهن معهم
في الحياة دون حال الزوجات بالعقد.
وأما الأطفال فإنهم يكونون بمثابة الأولاد؛ إذ المشروع في هذا الدين أن
يكون الرقيق مساويًا لمولاه وأهل مولاه في أكله ولبسه وعمله، وورد في الحديث
النهي عن تسميتهم بالعبيد والإماء، ثم حثت الشريعة على العتق حثًّا شديدا؛ وجعلته
كفارة لكثير من الخطايا، ومن أفضل النذور، ومحللا للحنث باليمين، وهي مع
تضييقها في الاسترقاق، جعلت الرق خلاف الأصل، حتى أن أي رقيق ادعى أنه
حر عدته حرًّا بمجرد دعواه، إلا أن يثبت مدعي ملكه أصل رقيته (ومن أراد زيادة
البيان في هذا فليرجع إلى المجلد الثامن من المنار) .
وجملة القول: إن الإسلام لم يأمر بالاسترقاق. ولكنه أمر بتحرير الأرقاء
وعتقهم، ولم يوجب ذلك على الناس دفعة واحدة؛ لما فيه من الحرج الشديد على
المالكين والأرقاء جميعا، فإن السادة الذين تعودوا أن يقوم عبيدهم بجميع شؤونهم،
لا يمكنهم أن يتركوا هؤلاء العبيد دفعة واحدة؛ لأن نظام معيشتهم يختل، وشمل
مصالحهم يتفرق، كما أن العبيد الذين تعودوا على كفالة غيرهم لهم وكفايتهم أمر
المعاش، يصعب عليهم أن يعيشوا بالاستقلال إذا هم أعتقوا مرة واحدة، كما حصل
في أمريكا، فإن الحكومة لما أبطلت الرق، تحير كثير من الأرقاء في أمر معيشتهم
ورضي كثير منهم بأن يظلوا عند مواليهم كما كانوا، ما كانوا يعاملون بما يأمر به
الإسلام، في مثل حديث الصحيحين وغيرهما، عن أبي ذر - رضي الله عنه -
قال: (إني ساببت رجلاً (يعني بلالاً) فعيرته بأمه - وفي رواية فقلت له:
يا ابن السوداء - فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أي بعد أن شكا إليه بلال
ذلك: يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم
الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما
يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) وقد أورد البخاري
هذا الحديث في كتاب الإيمان؛ للإشارة إلى أن معاملة الرقيق بهذه المعاملة
من شُعب الإيمان، وأورده أيضا في العتق والأدب.
أما والله لو وجد الرق الذي يجيزه الإسلام، وعومل الرقيق بما يأمر به
الإسلام؛ لتمنى ألوف من الناس الذين يموتون جوعا في مثل شوارع لوندره فما
دونها من المدن والقرى في كل مملكة - أن يكونوا أرقاء يشاركون أهل النعمة
والثراء في أكلهم ولبسهم وعملهم، كما أمر الإسلام في مثل هذا الحديث.
أين هذا من أمر التوراة بالرق، ومن سكوت السيد المسيح عليه السلام عن
الوصية به بمثل ما أوصى بعده أخوه محمد عليه السلام؟ بل بعشر معشاره، على
ما كان عليه الأرقاء في عصر المسيح من الظلم والاضطهاد. يقول (بطرس) :
في رسالته الأولى (٢: ١٨) أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة، ليس
للصالحين المترفقين فقط، بل للعنفاء أيضا؛ لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل
ضمير نحو الله؛ يحتمل أحزانًا متألمًا بالظلم؛ لأنه أي مجد إن كنتم تلطمون
مخطئين فتصبرون، بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون، فهذا فضل عند
الله، لأنكم لهذا دعيتم) وقال (بولس) في رسالته إلى أهل أفسس (٦: ٥ أيها
العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم للمسيح) إلخ
وفي رسالته إلى أهل كولوسي (٣: ٢٢ أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم حسب
الجسد لا بخدمة العين؛ كمن يرضي الناس، بل ببساطة القلب خائفين الرب)
وغاية ما أُمر به السادة أن يقدموا للعبيد العدل والمساواة، فلا يفضلوا بعضهم على
بعض. فأين هذا من أمر الإسلام بالمساواة بينهم وبين السادة أنفسهم؟ وبجعل
الطاعة في المعروف لا في كل شيء؟ وقد نص الإسلام على كون الطاعة لا
تكون إلا بالمعروف، حتى للنبي صلى الله عليه وسلم. ففي آية المبايعة {وَلاَ
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوف} (الممتحنة: ١٢) ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا
بالمعروف؛ كما وصفه تعالى في قوله {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَر} (الأعراف: ١٥٧) .
وجملة القول: إن الإسلام أجاز الرق ولم يأمر به. ولكنه أمر بالعتق
والتحرير. وأن الديانتين اليهودية والنصرانية أجازتا الرق أيضا، ولم يرد فيهما من
الأمر بالعتق، وتحرير الرقيق، ولا بحسن معاملته ما دام موجودا، بمثل ما أمر به
الإسلام. فإذا سهل على الدول النصرانية إبطال الرق، ولم يمنعها الدين فهو على
المسلمين أسهل؛ لأن الدين لا يكتفي بعدم منعهم منه، بل يحثهم عليه. فدينهم أقرب
إلى هذه الفضيلة المدنية من جميع الأديان؛ فلا خوف عليها منه، وإنما الخوف على
كل فضيلة من الحكام الظالمين الذين يسيئون التصرف بالشرائع والقوانين.

(٣)
علاقة النساء بالرجال
جاء الإسلام وجميع الأمم تهضم حقوق النساء على تفاوت بينها في ذلك، فكان
أكثر الرجال يعدون المرأة كالأمة أو المتاع. ومذهب علماء الاجتماع أن الناس
كانوا في أمر الزواج كالبهائم في أطوارها المختلفة، فكانوا أولاً يبيحون كل أنثى
لكل رجل، وكان أول الاختصاص بزوجة أو زوجات، بالسبي واحتكار القوي
من تعجبه من النساء، واستئثاره بها وعدم السماح لغيره بملامستها، إلا أن يكون
ذلك بإذنه، ولا يزال في البشر من لا يرى بمثل هذا الإذن بأسا. ولما صار للزواج
روابط وأحكام دينية أو عرفية، قُيِّدت المرأة فيها بقيود لا ترفعها عن مرتبة الأمة عند
الأكثرين، وبقي في تقاليد كثير من الشعوب والقبائل ما يدل على أصل السبي
وخطف المرأة، وكان كثير من الرجال يتزوجون بنساء كثيرات، لا يتقيدون بعدد،
ويُطلِّقون من شاءوا متى شاءوا، بلا تأثم ولا حرج، وما جاء في اليهودية
والنصرانية من الأحكام والوصايا، لم يرفع قدر المرأة، ولم يقربها من مساواة
الرجل في الحقوق والاستقلال بشؤونها، وقصارى ما تفاخرنا فيه النصرانية منع
تعدد الزوجات، وتحريم الطلاق إلا بعلة الزنا.
أما الإسلام فقد جاء بإصلاح لم يُسبق إليه، ولم تبلغ كنهه أوربا في مدنيتها
حتى اليوم. إذ لا تزال تحجر على المرأة أن تتصرف حتى بمالها بدون إذن
الزوج، ويرجع هذا الإصلاح إلى آيات من الكتاب العزيز:
(إحداها) قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: ٢١)
وعلى هذه الآيات بنينا مقالات الحياة الزوجية التي نشرناها في المجلد الثامن،
وتكلمنا فيها عن الطلاق وتعدد الزوجات.
(الآية الثانية) قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى
أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: ١٩) .
(الآية الثالثة) قوله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: ٢٢٨) وليراجع تفسيرها في ص ٣٦٨ م ٨.
(الآية الرابعة) قوله جل شأنه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ
أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: ٣٥) .
(الآية الخامسة) قوله وسعت رحمته: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} (البقرة: ٢٢٩) .
(الآية السادسة) قوله تبارك اسمه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: ٣) الآية ويلاحظ مع هذه
الآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: ١٢٩) .
(الآية السابعة) قوله جل ثناؤه: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَّفْرُوضاً} (النساء: ٧) فجعل المرأة تملك وتتصرف كالرجل وفي الحديث أن
المرأة تملك، ولا يحل للرجل أكل شيء مما تملك إلا بإذنها وطيب نفسها.
فهذه الآيات يشبه أن تكون هي أصول الإصلاح؛ وفي معناها آيات مفصلة،
وإن أوربا المدنية على مبالغتها في تكريم النساء، لم تقم هذه القواعد، ولم تأت بكل
ما أمر به الإسلام في ذلك، بل لم تصل إلى درجة جماهير فقهائنا الذين يفرضون
على الرجل للمرأة كل شيء تحتاجه بحسب الاستطاعة، ولا يفرضون عليها له إلا
مواتاته بالاستمتاع بها، وعدم خروجها من داره بدون رضاه، وهما واجبان سلبيان
فكأنما لا يوجبون على المرأة عملاً ما لزوجها، بل يعدون كل عمل تعمله في
إدارة بيته فضلا منها وإحسانا، فهل وصل الأوربيون إلى هذه المبالغة في تكريم
المرأة؟
كلا إنه ليس في شريعة المسلمين من أحكام الزوجية وآدابها؛ إلا ما لابد منه
لسعادة البيت، وإن بيان هذه الأحكام التي وَضَعَت أساسها تلك الآيات منذ ثلاثة
عشر قرن وربع قرن آية على كون الإسلام شرعًا إلهيا، لا وضعًا بشريًّا.
بيان ذلك أنها قد خوطب بها الناس في عصر كانوا أقرب فيه إلى البداوة،
فأفادهم رقيًّا وتهذيبًا بحسب استعدادهم، ثم إننا نرى أن أعلى ما وصل إليه البشر
من الرقي في الحضارة؛ هو دون ما تهدي إليه تلك القواعد والأحكام من الكمال
الاجتماعي، ولعلهم يصلون إليه في يوم من الأيام. وما منع الإفرنج الذين استعدوا
لهذا الكمال من رؤيته في القرآن إلا ذانك الحجابان الكثيفان دونه وهما: المسلمون
الذين صاروا بأعمالهم وأفكارهم حجة عليه، وغلبة الأفكار المادية على أكثر
الباحثين.
يظهر أن الشعور الذي كان مستوليًا على اللورد عندما أفلتت تلك العبارة من
قلمه، كان مزيجًا متولدًا من الفكر في اعتقاد جمهور العالم الأوربي في الإسلام
والمسلمين، والفكر في كثرة الشكاوي التي ترد عليه في خلل المحاكم الشرعية، وما
يقاسيه فيها النساء المطلقات، والضرائر المهجورات، وطوالب النفقات، وما
يلاقين في باب القاضي من الإهانات، وما يقاسين من جمود القضاة على التقاليد
والعادات، وإنها لحالة تحرك عصب الرحمة في الفؤاد، وعضل اللسان بالانتقاد.
ولكن تسعة أعشار الذنب في ذلك على المسلمين؛ وعشره على بعض آرائهم الفقهية
والإسلام نفسه بريء من كل لائمة يشكو منهم بلسان كتابه المنزل أضعاف ما
يشكو جميع المنتقدين، وأنى يسمعون شكواه، وقد ضربوا دونه سوراً من التقليد؛
له باب يسمى باب الاجتهاد؛ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب؟ قد أقفلوه
بأيديهم، فمنعوا بذلك رحمة الله أن تصل إليهم.
طالما انتقد الأوربيون على الإسلام نفسه مشروعية الطلاق وتعدد الزوجات،
وهما لم يُطلبا، ولم يحمدا فيه، وإنما أجيزا؛ لأنهما من ضرورات الاجتماع كما
بينا ذلك غير مرة، وقد ظهر لهم تأويل ذلك في الطلاق فشرعوه، وإن لم يشرعه
لهم كتابهم إلا لعلة الزنا، وأما تعدد الزوجات فقد تعرض الضرورة له، فيكون من
مصلحة النساء أنفسهن؛ كأن تغتال الحرب كثيرًا من الرجال، فيكثر من لا كافل له
من النساء فيكون الخير لهن أن يكن ضرائر، ولا يكن فواجر يأكلن بأعراضهن،
ويعرضن أنفسهن بذلك لمصائب ترزحهن أثقالها، وقد أنشأ القوم يعرفون وجه
الحاجة، بل الضرورة إلى هذا، كما عرفوا وجه ذلك في مسألة الطلاق، وقام من
نساء الإنكليز الكاتبات الفاضلات يطالبن في الجرائد بإباحة تعدد الزوجات؛ رحمة
بالعاملات الفقيرات، وبالبغايا المضطرات. وقد سبق لنا في المنار ترجمة بعض ما
كتبت إحداهن في جريدة (لندن ثروت) مستحسنة رأي العالم تومس في أنه لا
علاج لتقليل البنات الشاردات إلا تعدد الزوجات، وما كتبت الفاضلة مس إني رود
في جريدة (الإسترن ميل) والكاتبة اللادي كوك في جريدة (الايكو) في ذلك
(راجع ص ٤٨١ م ٤) .
إن قاعدة اليسر في الأمور ورفع الحرج من القواعد الأساسية لبناء الإسلام
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: ١٨٥) و {مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّيْنِ مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: ٦) ولا يصح أن يبنى على هذه
القاعدة تحريم أمر تلجئ إليه الضرورة أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة
(كما بينا ذلك في مقالات الحياة الزوجية وغيرها) وهو مما يشق امتثاله دفعة
واحدة لاسيما على من اعتاد المبالغة فيه كتعدد الزوجات، كذلك لا يصح السكوت
عنه، وترك الناس وشأنهم فيه على ما فيه من المفاسد، فلم يبق إلا أن يقلل العدد
ويقيد بقيد ثقيل؛ وهو اشتراط انتفاء الخوف من عدم العدل بين الزوجات؛ وهو
شرط يعز تحققه، ومن فقهه واختبر حال الذين يتزوجون بأكثر من واحدة، يتجلى
له أن أكثرهم لم يلتزم الشرط، ومن لم يلتزمه فزواجه غير إسلامي.
وجملة القول في هذه المسألة: إن القرآن أتى فيها بالكمال الذي لابد أن
يعترف به جماهير الأوربيين، ولو بعد حين كما يعترف به بعض فضلائهم
وفضلياتهم الآن. أما المسلمون فلم يلتزموا هدايته؛ فصاروا حجة على دينهم.
ونحن أحوج إلى الرد عليهم والعناية بإرجاعهم إلى الحق منا إلى إقناع غير المسلمين
بفضل الإسلام، مع بقاء أهله على هذه المخازي والآثام؛ إذ لو رجعوا إليه لما كان
لأحد أن يعترض عليه.
(٤)
الأحكام المدنية والجنائية
في الشريعة الإسلامية
يُفَرِّق كُتَّاب العصر بين الدين والشريعة، فيعنون بالدين الاعتقاد والعبادات
والفضائل؛ أي ما يراد به إصلاح الأرواح وإعدادها لسعادة الآخرة أولا وبالذات،
وإن كان يفيد في سعادة الدنيا أيضا، ويعنون بالشريعة ما يسوس به الحكام الناس،
ويُفْصِلون به بينهم في الخصومات؛ أي ما يراد به إصلاح أحوال الاجتماع السياسية
والمدنية والجنائية، ومن المعروف أن موسى جاء بدين وشريعة، ومعظم ما جاء به
أحكام دنيوية. وأن عيسى جاء بدين فقط، وأقر اليهود على شريعة موسى، وأن ما
جاء به محمد (عليه وعليهم الصلاة السلام) جمع بين الأمرين، ويعتقد الإفرنج أن
المسلمين لا يفرقون بين الدين والشريعة؛ لأن كلا منهما إلهي عندهم، ولما كانت
الأمور الدنيوية تختلف باختلاف الزمان والمكان حتما، كان من المحال أن توضع
لها شريعة تامة توافق مصلحة الناس في كل زمان ومكان، وهذه مسألة لا يختلف
فيها عاقلان، ومن ثم يعتقد الإفرنج أنه يستحيل على المسلمين أن يجاروهم في
مدنيتهم، ماداموا يعدون شريعتهم التي عليها مدار أمور دنياهم إلهية، لا يجوز فيها
التغيير والتبديل، ولا يفرق فيها بين حال البدو في الصحراء، وحال من بلغوا من
الحضارة ذروة الارتقاء، ويعدون حكامهم رؤساء يتقرب إلى الله بطاعتهم، فلا
يعارضونهم في استبدادهم بهم، ولا يأنفون من استعبادهم إياهم.
لو اعتقد القوم فينا أننا لا نرتقي ما دمنا على شريعتنا وتركونا وشأننا لما
بالينا. ولكنهم يعرضون لنا في شؤوننا ويفتاتون علينا في خاصة أنفسنا، زاعمين
أن المدنية التي سفكوا في وسائلها دماءهم، ووقفوا على مقاصدها حياتهم، وبذروا
بذورها في الشرق بعد أن جنوا ثمرتها في الغرب - لا يرجى أن تنمو لها نبتة ولا أن
تحفظ لها بذرة في مكان للشريعة الإسلامية فيه سلطة، ينشرون هذه الآراء بالكتابة،
ويبثونها في النفوس بالتعليم والخطابة، وقد يضيفون إليها الطعن في قسم العقائد
حتى التوحيد والقدر كما فعل موسيو هانوتو وغيره، منهم من ينطقه الاعتقاد
ومنهم من تملي عليه السياسة، والسياسة تبيح المحرم، وتحل الكذب، وتقلب
الأوضاع، وتأتي المنكرات.
ويقول العارفون بحقيقة ما عليه الشعوب الأوربية من التربية العالية: إن
السواد الأعظم منهم لا يكابر الحق، ولا يرضى بالظلم والهضم، وإن رجال
السياسة في كل شعب منهم قد يحتالون في إقناعه بما تقضي به السياسة من مخالفة
الحق والعدل أحيانا؛ ليجيز عملهم. وإن من أمكنه أن يقنع هذه الشعوب بحق من
الحقوق العامة، فإنه يجد له منهم خير نصير، وأقوى ظهير.
على هذه الطريقة، جرى شيخنا الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) في مناظراته
القولية والكتابية لعلماء الإفرنج وساستهم كرنان وهانوتو وغيرهما، فقد
حجَّ وأقنع منهم جِبِلاًّ كثيرا بأن الإسلام جاء بإصلاح يوافق مصلحة البشر في كل
زمان. وكذلك فعل في ردوده على الشاذين من أهل الشرق الذين يقولون في الإسلام
بغير علم. ويعلم قراء المنار أننا لا نألو جهدًا في بيان التوفيق، بين عقائد الإسلام
وآدابه وأحكامه، وبين العقل والفطرة والمصلحة، وإننا نبني هذا التوفيق على
ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي مضت بالدوران مع
المصلحة في كل حال، بحسبها لا على ما جاء في كتب الفقهاء من الآراء التي أداهم
إليها اجتهادهم، ومنهم المخطئ فيها والمصيب، ونحن عاجزون عن الانتصار لكل ما
في كتب الفقه؛ كما ننتصر لكل ما جاء في الكتاب، ومضت به السنة السنية. على
أن ما ينتقد على الآراء الاجتهادية في فقهنا، ينتقد مثله على القوانين الوضعية. ولكن
المنتقدين يقولون لنا إن ما يظهر خطأه في القوانين يسهل الرجوع عنه، وما يظهر
خطأه في الفقه يتعذر الرجوع عنه؛ لأنه في عرفكم من الدين، وهو قول لا يمكن
دفعه مع الجمود على التقليد، فهدم التقليد شرط يتوقف عليه كل إصلاح ويطلبه
عقلاء المسلمين مع المحافظة على الإسلام، ونشره في عالم المدنية العصرية،
والجمع بينه وبين العلوم والمعارف التي عليها مدار العمران والعزة. وإن طريقتنا
هذه يؤيدها خيار المسلمين من أهل الدين والدنيا؛ كالسلفيين، والقائلين بوجوب
الاجتهاد في الدين، وأكثر المتعلمين على الطريقة العصرية سواء منهم المتدين
حقيقة، والمتدين جنسية وقد صار الذين يصرحون بذلك كثيرين. وأذكر من
الشواهد عن العصريين، قول أحمد شوقي بك شاعر الأمير عباس حلمي باشا في
منظومته التي رفعها إليه؛ يهنئه فيها بميلاد ولي عهد الإمارة (الأمير محمد عبد
المنعم) .
ويا جيل الأمير إذا نشأنا ... وشاء الجد أن تعطي وشئنا
فخذ سبلاً إلى العلياء شتى ... وخل دليلك الدين القويما
وضن به فإن الخير فيه ... وخذه من الكتاب وما يليه
ولا تأخذه من شفتي فقيه ... ولا تهجر مع الدين العلوما
فهذه وصية من شاعر الأمير إلى ولي عهده، يأمره فيها باتباع الكتاب والسنة
وعدم اتباع الفقهاء، وقد رضيها الأمير أعزه الله، ولم ينكرها.
ليست طريقتنا هذه بخفية على الإفرنج، فقد كتبت الجرائد الفرنسية عن رحلة
الأستاذ الإمام إلى تونس والجزائر، ما يدل على أنها عارفة بخطته راضية بها،
وذكرت أن آراءه في الإصلاح الديني تنشر في بعض المجلات المصرية؛ تعني بها
المنار، وقد كتب في الجرائد الفرنسية في تونس وأوربا وفي غيرها من الجرائد
الأوربية شيء عن مذهب المنار، ومنه ما كتب في المجلة الفرنسية في أوائل سنة
١٩٠٥ وهذا نصه:
(المنار)
أُسِس في القاهرة سنة ١٨٩٧، أسسه الشيخ محمد رشيد رضا أحد كتاب
المسلمين المشهورين؛ تلميذ الفيلسوف المصري الكبير الشيخ محمد عبده مفتي الديار
المصرية، وهو لا يبحث في الجملة إلا في المسائل الدينية والفلسفية، وغايته التي
يرمي إليها هي تعليم المسلمين دينهم على أنقى صورة له، نافيًا عنه الأوهام
والخزعبلات والبدع القديمة وقد قال الشيخ محمد عبده: إن دين الإسلام في شكله
الحقيقي هو غاية ما يطلبه الإنسان من الكمال - هذه هي خطة المنار؛ وهو مجلة
تصدر في الشهر مرتين.
وجاء في عدد آخر منها:
(المنار)
الصادر بالقاهرة في شهر فبراير (أي من سنة ١٩٠٥) أهم مقالة في
هذا العدد تبحث عن مثال للحكومة الإسلامية، وكاتب هذه المقالة صالح بن علي
اليافعي وهو كاتب هندي [٦] قد بين فظائع الحكومة المطلقة التي مقتها القرآن والنبي،
وقد بين هذا الكاتب أن الحكومة الإسلامية كانت في زمن الخلفاء الأولين ديمقراطية
محضة وأن الخليفة نفسه كان ينتقده نواب الأمة الذين كانت مهمتهم مراقبة سيره
مراقبة شديدة.
الإسلام لا يقبل من شكل الحكومة إلا الملكية المقيدة والجمهورية، والجملة أن
كل ضرب من ضروب الحكومة المطلقة يديره أي حاكم مسلم كائنًا من كان، ليس
من الإسلام في شيء. جاءت هذه المقالة عقب جزء من تفسير القرآن للشيخ محمد
عبده اهـ.
والمراد مما تقدم أن الباحثين في أمور الشرق من الأوربيين عارفون بمرامي
طلاب الإصلاح من المسلمين، وأنهم يريدون الرجوع بالدين إلى ما كان عليه في
أول نشأته، غير متقيدين بما وضعه العلماء من التقاليد التي قد تحول دون مجاراة
أهل هذا العصر، بل مسابقتهم في علومهم ومدنيتهم؛ لأنهم يرون أن الكتاب
والسنة يحثان على ذلك، لا يحولان دونه، والمقلدون للفقهاء يرون غير ذلك.
ولا يُعقَل أن يكون اللورد كرومر غير عارف ما عرفه كثير من الأوربيين الذين
لم يقيموا في الشرق كما أقام، ولم يكتنهوا أمر المسلمين كما اكتنهه، فإن كان بعد
هذا الاختبار كله يقول للأوربيين: إن رجوع المسلمين إلى أصول شريعتهم
المدنية وعملهم بها، يرجع بهم إلى طور السذاجة المضادة للحضارة، فإن قوله
هذا أعظم صدمة للإصلاح الذي ندعو إليه؛ لأن كلامه في ذلك يؤخذ بالقبول
عند الأمم الأوربية كلها، ويخشى أن يناهضوا الدعوة إلى الإصلاح في بلادهم؛
ولا شيء يدفع ذلك إلا كلام من اللورد نفسه.
لهذا وقعت علينا عبارة التقرير في القوانين الإسلامية كالصاخة، وأخذنا نجيل
قداح الفكر فيها، فرأينا بعد طول التأمل أن العبارة وإن كان المتبادر منها أنها في
الإسلام نفسه، كتابه وسنته وفقهه، وكل شيء فيه يتعلق بالمعاملات - يجوز أن
تُحمل على الفقه وحده؛ لأن حكام المسلمين لا يحكمون إلا به، إذا هم أرادوا
الرجوع إلى الإسلام، وإنما قلنا: يجوز أن يكون هذا هو مراد اللورد، وإن كانت
عبارته مطلقة تفيد ما هو أعم من هذا، وتشمل الأحوال الشخصية؛ لأن التمسك
بالفقه هو الذي رآه المانع من إصلاح المحاكم الشرعية. كما بينا ذلك بالتفصيل في
مقالة نشرت في المجلد السابع من المنار (ص٢١٢) استشهدنا فيها بما قاله في
تقريره عن سنة ١٩٠٢ وسنة ١٩٠٣ وبشيء من محاضر مجلس شورى القوانين.
من ذلك أن أحمد بك يحيى (أحمد باشا الآن) اقترح تأليف لجنة لوضع
تقرير في إصلاح المحاكم الشرعية. فقال الشيخ حسونة النواوي " إني لا أعلم أن
المحاكم الشرعية تحتاج إلى الإصلاح في أمر من أمورها " قال في محضر الجلسة:
(تقرر بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي) وقد ذكر اللورد هذا في
كلامه عن المحاكم الشرعية في تقريره سنة ١٩٠٣؛ وهو مع ذلك أعلم الناس بكثرة
شكوى المسلمين من هذه المحاكم.
ومن ذلك أن قاضي مصر قال لما طرحت مسألة إصلاح المحاكم الشرعية
في الجمعية العمومة سنة ١٩٠٤ ما نصه: (قد سمعنا المقترحات المتعلقة بالمحاكم
الشرعية، ونقول: إن أعمال تلك المحاكم ترجع أولا إلى الشرع الشريف، وهذا
لا يمكن لمسلم أن يقول إنه يحتاج إلى إصلاح) ... إلخ.
فأمثال هذه الأقوال من كبار الفقهاء؛ هي التي جعلت اللورد كرومر يعتقد أن
هذا الفقه الذي يحكمون به، قد صبغ كله بصبغة الدين، فلا يمكن تنقيحه، وهو
يعتقد قطعًا أنه لا يوافق مدنية هذا العصر، ولا ينطبق على مصالح أهله. أما أصل
الدين وهو الكتاب العزيز والسنة النبوية، فقد يعتقد فيه ذلك، وقد يكون مصدقًا
لطلاب الإصلاح في قولهم لا ينافي المدنية، ويدل على الأخير حثه الأوربيين على
مساعدة حزب الشيخ محمد عبده الذين يطلبون الإصلاح من غير مس لأصول الدين.
وقد حدثني الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أنه كان يكلمه مرة في هذا الموضوع
بمناسبة مقاومة الجامدين لإصلاح المحاكم الشرعية، فأقام المرحوم له الدلائل على
أن الإسلام يدعو إلى كل صلاح، ويناسب كل زمان، فقال له اللورد: أتصدق يا
أستاذ أنني أعتقد أن دينًا أوجد مدنية جديدة، وقامت به دول عظيمة لا يكون أساسه
العدل؟ هذا محال. ولكنني أعلم أن هذه المقاومات أمور (إكليركية) أي: تقاليد
كتقاليد الكنيسة.
تذكرنا هذا، فقلنا في نفسنا: لعل اللورد لا يقصد بعبارة التقرير ما يتبادر منها
لئلا يتناقض ذلك مع ما ذكرنا آنفا. ولكن هذا لا يمكن أن يعرف إلا من - قبله
فكتبنا إليه كتابًا نسأله، أي الأمرين يعني بعبارته: هذا نصه:
القاهرة في ٢٠ ربيع الأول سنة ١٣٢٥
جناب اللورد العظيم:
أحييك بما يليق بمكانتك؛ وإن لم يسبق لي شرف المعرفة لحضرتك، وأرجو
أن تمن علي ببضع دقائق من وقتك الثمين تجيبني فيها عن السؤال الآتي الذي
يهمني، من حيث أنا صاحب مجلة إسلامية، تدافع عن الدين، وتبحث في فلسفته
وهو:
هل عنيت بما قلت في تقريرك الأخير عن الحكم بالشريعة الإسلامية التي
وضعت منذ أكثر من ألف سنة الدين الإسلامي نفسه؛ الذي هو عبارة عن القرآن
الحكيم والسنة النبوية؟ أم عنيت بذلك الفقه الإسلامي الذي وضعه الفقهاء؟ فإن كنت
تعني الثاني فهو من وضع البشر؛ وقد مزجت فيه آراؤهم بما يأخذونه عن الأول،
وخَطَّأ فيه بعضهم بعضا، وقد ترك حكام المسلمين أنفسهم العمل بكثير منه، ولطلاب
الإصلاح من المسلمين انتقاد على كثير من تلك الآراء في كل مذهب.
وإن كنت تعني الأول، فهذا العاجز مستعد لأن يبين لجنابكم أن معظم ما
جاء في الدين نفسه من الأحكام القضائية والسياسية هو من القواعد العامة؛ وهي
مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درء المفاسد وجلب المصالح
وبحكم الشورى - وما فيه من الأحكام الجزئية (وهو مقابل المعظم) راجع إلى
ذلك، وأختم رقيمي مودعًا لجنابكم بالتحية والاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار بمصر
... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

كتبنا إليه هذا ونحن نتمنى لو يجيبنا؛ بأنه يبرئ أصل الدين من معارضة
المدنية ونخشى أن لا يفعل، ذلك بأننا نعتقد أن كلامه في الإسلام يؤثر في جميع
الشعوب الأوروبية، ما لا يؤثر كلام غيره، فإذا هم اعتقدوا بشهادته أن الإسلام
نفسه يتفق مع المدنية، ويسير مع العدل، وأن السبب فيما يرى من سوء حال أهله
هو ما ألصقوا به من التقاليد والآراء؛ وجعلوه بهذا الإلصاق دينا، فإن هذا الاعتقاد
يكون أكبر عون لنا على خدمة الإسلام؛ والدفاع عن أهله الذين أصبح معظمهم
تحت سلطة الأوربيين. وإذا هم اعتقدوا بالعكس كان ذلك أشد منفر لهم عن الإسلام
وحامل لهم على إلزام حكوماتهم بالضغط على رعاياهم. وكنا عازمين على أن
نكتب إليه رسالة في بيان أن ما جاء في الإسلام من الأصول الأساسية للأحكام
الدنيوية، يوافق مصالح البشر في كل زمان، ونقدمها إليه مترجمة بالإنكليزية،
ونسأله باسم العدل والإنصاف أن يبدي رأيه فيها، كنا عازمين على هذا لو أجابنا
بأنه يعني بما كتب الإسلام نفسه؛ أو مجموع ما عليه المسلمون من كتاب وسنة وفقه
لأنه يعتقد ذلك، ولا يخاف في إظهاراعتقاده أحد. ولكنه تفضل بالجواب الآتي
بنصه العربي موقعاً ومؤرخًا بخطه الإفرنجي وهو:
حضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار؛
جوابا على خطابكم أقول: إني عنيت بما كتبت مجموع القوانين الإسلامية التي
تسمونها الفقه؛ لأنها هي التي تجري عليها الأحكام، ولم أعن الدين الإسلامي نفسه
ولذلك قلت في هذا التقرير الأخير وفي غيره بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي
الذي يطلب الإصلاح، ويسير مع المدنية من غير أن يمس أصول الدين. ولعل
العبارة التي كتبتها بتقريري كانت موجزة، فلم تؤد المراد تماما، واقبلوا يا حضرة
الأستاذ احترامي الفائق.
... ... ... ... ... ... ... ... في ٤ مايو سنة ١٩٠٧
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كرومر

والقارئ المنصف يرى أن ما استدل به على كونه لا يريد بما كتب الدين
الإسلامي نفسه معقول لا يمكن دفعه بعد تصريحه بأن عبارة التقرير لم تؤد
مراده تمام الأداء، والإنسان أعلم بمراده نفسه. غاية ما كان يقال: إن مراد القائل
يعرف من قوله، وقول اللورد في التقرير يشمل الفقه وينابيعه من الكتاب، ويقال
الآن: إنه استثنى تلك الينابيع بقول آخر مبين لمراده من القول الأول، فليعتبر هذا
القول تصحيحًا، أو تخصيصًا لسابقه، أو استداركًا عليه. ولعل أهل الغيرة
الصحيحة على الإسلام ينشرونه في الجرائد الأوربية؛ ليطلع عليه الأوربيون
الذين قرءوا التقرير، فإنه خير لنا من شهادة بعض المستشرقين بفضل الإسلام؛
لأن المستشرقين يُتهَمون في أوربا بالتعصب للشرق وأهله.
ولا يعذر من يعدون اللورد كرومر عدوًا إذا هم قصروا في نشره؛ إذ يقال لهم
إن شهادة العدو لك أقوى من شهادة الصديق، على أنه بلغنا من مصدر يوثق به،
أن شيخ الأزهر قال للورد عند ما زاره مودعًا له: إننا قرأنا العبارة التي ترجمت
عن تقرير جنابكم في الإسلام، فلم نجد طعنًا فيه ولا مسًّا لكرامته، أو ما هذا معناه.
ولعل مراد الشيخ أن ما ذكر من إجازة الرق، ومناقضة أحكام الزوجية لآراء أهل
العصر، وكون الأحكام المدنية الجنائية لا تتغير، كل ذلك صحيح وحسن عند
المسلمين، فإن لم يستحسنه المخالفون فذلك لا يعيبه، فإذا كان مناقضا لآرائهم فهو
موافق لآراء أهله. ونحن معاشر طلاب الإصلاح لا نقول بهذا، ونعده طعنًا نبرئ
منه الإسلام دون الفقه، ووافقنا اللورد على ذلك.
أما ما يجب أن يعتبر به المسلم العاقل في هذا المقام؛ فهو أننا نعلم علم اليقين
أنه لو تيسر للمسلمين إنشاء حكومة إسلامية، لما رضي جمهور علمائهم ومن
ورائهم العامة، أن يحكم بغير هذه الكتب الفقهية بما فيها من أحكام الرق والزوجية
وغير ذلك على علاته، ومن أكبر علاته الخلاف الكثير في المسألة الواحدة،
واختلاف التصحيح والترجيح فيها، حتى ورد في بعضها بعد ذكر تصحيح قولين
متناقضين في مسألة من مسائل الطلاق (نحن مع الدراهم قلة وكثرة) أي إن
المرجح لأحد القولين المصححين في المذهب هو الدراهم التي يأخذها المفتي من أحد
المستفتين.
بلغ من جمود فقهائنا على هذه الكتب التي يوجد فيها مثل هذه الفضيحة،
أنهم يعدون العدول عنها إلى كتاب يوضع خاليًا من مسائل الخلاف، موافقًا لحال
الزمان جناية على الدين نفسه. ومن عجائب هذا الجمود أن شيخ الإسلام العثماني
لا يفتي بمجلة الأحكام العدلية، ولا يأذن لأحد من المفتين الذين يعينهم بالفتوى منها
وإذا ذكر شيء منها في فتوى، فإنما يذكر بعد النص الفقهي من الكتب المعتمدة
عندهم. على أن الدولة لم تعمل عملاً شرعيًّا أفضل من وضع هذه المجلة، فمن لنا
بجمعية من العلماء العقلاء، تدرس بعد التمكن من علم الكتاب والسنة والفقه وقوانين
الأمم، ثم تستخرج من هذه الشريعة كتابًا يفوقها عدلاً وسهولة، وموافقة لمصالح
البشر في هذا العصر، يكون حجة ناطقة على كل من ينسب القصور إلى الشريعة
أو الدين. وينبغي أن تعزل فيه الأمور الدينية عن القضائية، أو يذكر في أول كل
باب من أبواب المعاملات أو كتبها، ما هو ديني منها، كأن يقال في كتاب
المعاملات المالية: إن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل والغش والخيانة، وأكل
الربا أضعافا مضاعفة، وأوجب الوفاء بالعقود، وأداء الأمانات إلى أربابها.
ويذكر في أول بابا القضاء تحريم الظلم والرشوة، وكون حكم القاضي بالشيء
لا يحله للمحكوم له؛ إذا كان يعلم أنه ليس له. أما هذا الفقه فهو على ما فيه من
محاسن حجة علينا لا لنا، بما فيه من المساوي، وإلى الله المشتكى.
إنا نحن المسلمين قد أمسينا؛ ولا مثل أصدق علينا من قول ابن دريد:
نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارتعى
إذا أحس نبأه ريع وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها
فنحن نرتع في غفلات الزمان ما وجدنا مرعى، فإذا صاح بنا نذير تقلبات
الزمان، نراع ونجفل، وقد نصرخ من الذعر، أو ننتفج انتفاج الهر، فإذا سكنت
نبأة النذير، عدنا إلى سابق التقصير، نرتع ولا نعمل، وإذا وُجِد العامل لإحياء
الدين وإقامة حجته على المخالفين، فإننا نخذله مع المخذولين، أفنرضى أن نكون
في حكم القرآن من الممقوتين الذين يقولون ما لا يفعلون، أو المنافقين الذين يفتنون
في كل عام مرة أو مرتين؛ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون! !