للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التقاضي والتخاصم في رسالة آدم

الحسد غريزة قديمة في الثقلين، كان أول مظهر عرف لها في التاريخ المأثور
حسد إبليس أبي الشياطين - لعنه الله - لآدم أبي البشر عليه السلام، وكان ينبغي
أن يكون أطهر البشر من هذه الخليقة الذميمة أهل العلم الديني، ولكن ثبت في بعض
الآثار أنهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها كما ثبت بالاختبار أنهم أشد تحاسدًا من
النساء الضرائر في بيوتها.
وقد لبس الحسد الإبليسي في هذا العام وما قبله ثوبي زور من الغيرة على
آدم عليه السلام. ثوبان ظهر بهما بعض محبي الظهور من شبان الأزهريين، وإنما
فصلهما وخاطهما بعض شيوخهم المعروفين، فأما الثوب الأول: فهو تكفير من
يقول بأن قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: ١) ليس نصًّا
قطعيًّا في كون هذه النفس (المنكرة) هي آدم، وفي كونه هو أصل جميع البشر -
وإن كان يقول بهذا عملاً بدلالة الظواهر - وعدم قبول إسلام أحد من القائلين بتعدد
أصول البشر، أو الشاكين في صفة تكوينهم، وقد بينا في المنار كيف كان عاقبة
المفترين في هذه المسألة (راجع ص ٦ م٢٠) .
وأما الثوب الثاني: فهو تكفير من يقول: إن رسالة آدم غير ثابتة بنص
قطعي، بل القول بها معارض بظواهر بعض الآيات، وبحديث الشفاعة المتفق
عليه؛ فإن خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم يروي فيه عن آدم أن نوحًا
أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ذكر هذه المسألة في مجلس خاص
بدمنهور الشيخ محمد أبو زيد من مريدينا طلاب دار الدعوة والإرشاد، فانبرى
لتكفيره والتشهير به صاحب الثوب المستعار، ثم ألبس الثوب من رفع عليه
دعوى حسبة إلى قاضي دمنهور الشرعي ليحكم بردته ويفرق بينه وبين زوجه،
فكان مَثَله مع مفصل الثوب ولابسه الأول كَمَثَل من تعلم السحر من هاروت ,
وماروت {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة: ١٠٢) .
نظر في الدعوى قاضي دمنهور، فكان فقهه فيها كفقه لابس الثوب وخائطه،
فحكم بردة الرجل وفرق بينه وبين زوجه، فأحدث هذا الحكم هزةً واضطرابًا في
القطر المصري كله، وأظهر الناس استنكاره في جميع الجرائد، وبيَّن أهل العلم
وجوه خطأه في المجالس والمدارس، وانزعجت له وزارة الحقانية، فحظرت النظر
في أمثال هذه الدعوى على المحاكم الشرعية، إلا أن يكون بعد اطلاع الوزارة على
الدعوى، وأخذ الإذن الخاص بالنظر والحكم فيها، وهذا ملخص الحكم المشار إليه:
صورة ملخص الحكم
الصادر في قضية الشيخ أبو زيد
سئل الشيخ عما يعتقده في رسالة ونبوة آدم فقال: (إن آدم ليس نبيًّا ولا
رسولاً بنص قطعي، وإنما نبوته ورسالته ظنيتان، هذا ما نطقت به وما أعتقده
إلى الآن) .
الحكم والأسباب
حيث إن نبوة سيدنا آدم - عليه السلام - ثابتة بالكتاب والسنة وبالإجماع
ومعلومة من الدين بالضرورة، لذا كفر جاحدها. قال في كتاب العقائد النسفية:
أول الأنبياء آدم عليه السلام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام. أما نبوة آدم
فبالكتاب والسنة والإجماع، أما بالكتاب الدال على أنه أمر ونهي، مع القطع بأنه لم
يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا بالسنة والإجماع، فإنكار نبوته
على ما نقل عن البعض يكون كفرًا، وفي الفتاوى الهندية، جزء ثاني: من يقول:
آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم أن آدم نبي أم لا: يكفر، كذا في العتبية، ولم يحك
خلافًا، وفيها أيضًا: رجل قال لغيره: إن آدم عليه السلام نسج الكرباس، فقال له
الغير: فحينئذ نحن أولاد النساج، فهذا كفر، وما ذاك إلا يكون استخفافًا بالنبي؛
لأن هذه العبارة لو قيلت لولي من أولياء الله ما ترتب عليها الكفر، وفي الجزء
الأول من (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر) ويكفر بقوله: لا أعلم أن آدم عليه
الصلاة والسلام نبي أم لا.
وحيث إن المنصوص عليه شرعًا أن المرتد عن دين الإسلام ينفسخ نكاحه في
الحال ويفرق بينه وبين زوجته وحيث إن الشيخ محمد أبو زيد قد نطق بما يوجب
الردة لإنكاره نبوة ورسالة آدم عليه السلام , وإن هذه عقيدته كما أقر بذلك، وبذا ارتد
عن دين الإسلام , وانفسخ نكاحه بزوجته فلانة , فوجب التفريق.
(لهذا) فرقنا بين الشيخ محمد أبو زيد المذكور، وزوجته.

(المنار)
هذا نص الحكم كما وصل إلينا، وهو على ما فيه من خطأ في العبارة
ظاهر البطلان بعدم انطباقه على الدعوى من جهة الصورة، وبعدم صحة ما استدل
به القاضي - فأما الأول: فإن الشيخ أبا زيد قد صرح بأن نبوة آدم ورسالته
ثابتتان بالأدلة الظنية، وهذا ليس إنكارًا لها كما زعم القاضي, وإلا كان القاضي
نفسه منكرًا لمعظم أحكام الشريعة التي يحكم بها بين الناس في مسائل الأبضاع
والأموال، والكفر والإيمان، فإن معظمها ظني بغير نزاع، وقد صرحوا في العقائد
النسفية وشروحها أن الأدلة الظنية كافية في العقائد، وأما الثاني: فهو أن الردة إنما
تكون بجحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما لا يخفى على أحد
من عوام المسلمين وخواصهم, ونبوة آدم ورسالته ليست كذلك، فما نقله عن الفتاوى
الهندية في التكفير بها غير صحيح، وقد قصر القاضي فيما يجب عليه من كشف
شبهة المدعى عليه ومن استتابته.
***
إلغاء الحكم في قضية سيدنا آدم
بحكم محكمة الاستئناف الشرعية الصادر في أول ديسمبر سنة ١٩١٨
منقول عن جريدة وادي النيل
عرضت قضية سيدنا آدم المعروفة على محكمة الإسكندرية الكلية الشرعية
أمس برئاسة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى سلطان , وكان الزحام شديدًا
جدًّا، وقد حضر الجلسة جمهور كبير من المحامين الأهليين والشرعيين والعلماء،
وكان المدعى عليه الشيخ محمد أبو زيد حاضرًا ومعه اثنان من المحامين، وكان
المدعي الشيخ محمد صالح الزواوي حاضرًا ومعه محامياه.
وبعد استكمال الإجراءات النظامية سمعت المحكمة كلام المحامين، ثم سألت
المدعى عليه:
تريد المحكمة أن تتبين رأيك في نبوة آدم.
- إن نفسي مطمئنة إلى أنه نبي, ونظري في النصوص هو الذي اطمأنت به
نفسي.
- قلتَ في مذكرتك في الصفحة التاسعة: (فما بال هؤلاء يطلبون حكمًا
شرعيًّا من قاضٍ مسلم يعتقد أن نبوة آدم ورسالته ليستا من العقائد في شيء؟)
- إنهما ليستا من العقائد التي تثبت بالنص القطعي، وهذا تعريف أصولي
اتبعته في جهات من المذكرة [١] .
- جاء في المذكرة ما يدل على أنك ترى الأدلة ظنيةً.
- إن كلامي لا ينافي اعتقاد النبوة، فإنه لا مانع من أن آخذ من الأدلة الظنية
شيئًا ترتاح به نفسي ويطمئن إليه ضميري، وإن أدلة نبوة آدم عليه السلام، وإن
كانت ظنيةً في اصطلاح الأصوليين، فإني مرتاح إليها، وليس هناك خلاف بين ما
أقوله الآن، وما قلته فيما مضى.
وبعد هذا أخذ فضيلة الرئيس يفيض في نصائحه، وكان الأسف والحزن
آخذين من نفسه فقال: أخجلتمونا أمام الناس أعظم خجل، فالإفرنج مشتغلون بما
يفيدهم، وأنتم مشغولون بما لا يفيد، ألستم ترون الكسل والكذب اللذين يتفشيان في
الأخلاق حتى كادا يقتلانا؟ أفما كان الأولى أن نعالج هذين الدائين وغيرهما من
الأدواء المنتشرة بيننا؟ لقد كان الأولى أن يكتب القلم الذي كتبت به هذه المذكرة
فيما ينفع الأمة فيقول لها: اتحدو، لا تحاسدوا، لا تتباغضوا, اعملوا كما يعمل
غيركم، اطلبوا العيش بعزة النفس، لا بالمذلة للأمراء وغير الأمراء، نرجو يا
رجال الدين أن تعالجوا الأدواء المنتشرة بين المسلمين.
وبعد أن فرغ من هذه النصائح الثمينة استحلف رجال الدين أن ينبذوا الشقاق
وصغائر الأمور، وقال: إنني أعرف الآن أنكم حزبان أتيا ليسمعا ما نقضي به
في هذه القضية، فأرجو أن تخرجوا متحدين، ثم قامت المحكمة للمداولة، ثم عادت
فأصدرت الحكم، وهذا نصه:
بعد سماع أقوال الخصوم والاطلاع على ملف القضية الابتدائية، وبعد
المداولة، وللأسباب التي هي:
- استئناف حاز شكله القانوني فهو مقبول.
- المقرر شرعًا أن الكفر هو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء مما
علم مجيئه به من الدين علمًا ضروريًّا بحيث يستوي فيه الخاصة والعامة، كالتوحيد
وأركان الإسلام , وألحقوا به كفر العناد , أو ما يدل على الاستخفاف لتضمن ذلك
معنى الجحود.
- نبوة آدم، وإن دل عليها الكتاب والسنة واتفق عليها العلماء، ولم يعرف
بينهم خلاف فيها , فإنكارها بأي شكل كان ضلال ومخالفة لما عليه المسلمون، إلا
أنها ليست من ضروريات الدين بحيث يعرفها الكافة، كالصلاة والصوم، بل هي
من الأمور النظرية , والقول بأنها معلومة من الدين بالضرورة دعوة غير مقبولة.
- منكر شيء من الأمور النظرية مستندًا إلى شبهة - ولو غير صحيحة - لا
يُحكم عليه شرعًا بالكفر على ما هو الحق الذي يجب العمل به في مذهب الحنفية،
ذلك لأن الكفر نهاية في العقوبة، فلا يكون إلا عن نهاية الجناية، وذلك بإنكار الثابت
بالنص القطعي الخالي من الشبهة والاحتمال من الكتاب والسنة المتواترة , أو الإجماع
القولي الثابت تواترًا، ولذلك قالوا: لا يُفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل
حسن، أو كان في عدم كفره رواية ضعيفة ولو في مذهب غيرهم، وأجازوا مع
الكراهة إمامة أهل البدع في الصلاة، وهم ممن يعتقدون خلاف المعروف عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بلا معاندة، بل بنوع شبهة إن كانت فاسدةً حتى الخوارج
الذين يستحلون دماء وأموال مخالفيهم من المسلمين , أو ينكرون صفات الله، وقالوا:
لا نكفر أهل البدع ببدعتهم لكونها من تأويل وشبهة وللنهي عن تكفير أهل القبلة
والإجماع على قبول شهادتهم، وذلك ما لم ينكر أحد منهم شيئًا من المعلوم ضرورة.
وفي الفتاوى الصغرى: (الكفر شيء عظيم) وفي جامع الفصولين: (لا
يُخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، وما يشك في أنه ردة لا يحكم بها؛
إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك، إن الإسلام يعلو) وقال صاحب نور العين: إن
المسائل الإجماعية تارةً يصحبها التواتر كوجوب الخمس، وقد لا يصحبها إلا بكفر
جاحدها (؟) لمخالفته التواتر لا الإجماع (ثم نقل أنه) إذا لم تكن الآية أو
الخبر المتواتر قطعي الدلالة , أو لم يكن الخبر متواترًا , أو كان قطعيًّا ولكن فيه
شبهة , أو لم يكن إجماع الجميع , أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة , أو لم
يكن قطعيًّا بأن لم يثبت بطريق التواتر , أو كان قطعيًّا لكن كان إجماعًا سكوتيًّا -
ففي كل هذه الصور لا يكون الجحود كفرًا.
ومن كل هذا ترى العلماء - رضوان الله عليهم - قد احتاطوا نهاية الاحتياط في
عدم تكفير المسلمين.
ما ورد من الآيات والأحاديث في نبوة آدم عليه السلام، وكذا الإجماع عليها،
كل ذلك لم تتوفر فيه تلك القيود، وهذا ما يجب التعويل عليه دون ما عداه،
وعليه يكون حكم محكمة أول درجة في غير محله، ويتعين إلغاؤه.
وكيل المستأنف قال: إنه مكتف بالأدلة الموجودة بمحضر القضية الابتدائية ,
وهي أدلة غير منتجة للدعوى خصوصًا وقد قرر المستأنف عليه اليوم أنه يعتقد تمام
الاعتقاد بنبوة آدم عليه السلام.
لهذا، تقرر قبول هذا الاستئناف شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء ما حكمت به
محكمة أول درجة، ورفض دعوى المدعي) اهـ.
(المنار)
هذا الحكم هو الحق وما ذكره القاضي الفاضل في أثناء كلامه من المواعظ
يرجى أن يزيد المدعى عليه المظلوم في تكفيره والتفريق بينه وبين زوجه، هدى.
فإنه قد عاهد الله- تعالى- على يدنا بوقف حياته على خدمة دينه وأمته بمثل هذه
المواعظ، وما كتب مذكرته إلا دفاعًا عن دينه, وهو أثمن شيء يحرص عليه،
فكانت كتابتها في وقتها أفضل مما استحسن القاضي إبداله بها، وأما المبطلون
المكفرون للمؤمنين مع علمهم بما ورد في ذلك، فلم يتعظوا - وهم أحوج إلى
الموعظة - إذ طلبوا إعادة النظر في الحكم مخطئين له، وذلك يتضمن تكفير قاضي
الاستئناف بزعمهم؛ لأنه قال بأن نبوة آدم مسألة نظرية لا قطعية، فهل
فقهوا هذا؟ أم يقولون إن أبا زيد يكفر بما لا يكفر به غيره؟
قالت جريدة وادي النيل:
عود إلى قضية آدم
لم يقنع المدعون في قضية آدم المعروفة بالحكم الذي أصدرته المحكمة
الشرعية الكلية فيها، ويظهر أنهم لم يتأثروا بتلك النصائح الثمينة التي أفاض بها
فضيلة رئيس المحكمة عليهم وعلى رجال الدين عامةً، ومن أغلاها وأثمنها ترك
الخلاف في توافه الأمور، والاتفاق لمعالجة الأدواء التي تضر الأمة في كل شيء ,
وإنا لا يسعنا إلا أن نأسف لهذه الحالة، فقد رفعوا التماس إعادة نظر إلى المحكمة،
وعرض عليها في جلسة أمس (أي: ٢٩ ربيع الأول سنة ١٣٣٧ -٢يناير
١٩١٩) فأصدرت الحكم الآتي:
صار الاطلاع على عريضة الالتماس المطلوب بها إلغاء ما حكمت به محكمة
الاستئناف في القضية نمرة ٤ سنة ١٩١٨ بتاريخ أول ديسمبر سنة ١٩١٨
وخلاصتها أنه لم يصادف (كما زعم الطالب) قبولاً في المذهب لبنائه على مجرد
استنتاجات من قواعد عامة؛ ولأن اتفاق العلماء على نبوة آدم (باعتراف المحكمة)
يدل على أنها معلومة من الدين بالضرورة , لا من الأمور النظرية، فضلاً عن
وجود نصوص قاطعة تدل على أنها معلومة من الدين بالضرورة، ولأن كل الأحكام
الشرعية نظرية , ولما اشتهر بعضها اشتهارًا تامًّا سمي ضروريًّا , وذلك لا ينافي
نظريته وأن الضروري متفاوت في الشهرة , ويكفي فيه أي شهرة، وعلى تسليم أنه
نظري - كما فهمت المحكمة - فإن منكره لا يعفى من التكفير إلا إذا كان خفيًّا،
والمنكر له شبهة، وإن عدول المستأنف إلى الإقرار بنبوة آدم أمر زائد عن الموضوع
الذي فصل فيه ابتدائيًّا، إلخ.
المحكمة: حيث إن الالتماس تقدم في ميعاده القانوني وحيث ما قررته
محكمة الاستئناف في بيان ما حكمت به في القضية المشار إليه لا عمل لها فيه
بشيء سوى جمع ما قاله علماء الحنفية في عدة مواضع في كتب الفروع المعول
عليها (كرد المحتار) وشرحه في باب الإمامة والردة و (البحر) في الردة،
و (فتح القدير) في باب البقاء، وغير ذلك، ومن كتب الأصول (كالتحرير)
و (مسلم الثبوت) القاضية تلك النصوص بأن مذهب أبي حنيفة: عدم تكفير أحد
من المخالفين فيما ليس من الأصول المعلومة من الدين بالضرورة , وإذن يكون ما
قضي به استئنافيًّا في هذه الحادثة ليس إلا بالتطبيق لما نصوا على أنه المذهب،
والذي يعلم منه أن ما جاء في (الهندية) و (مجمع الأنهر) مخالفًا له لا يمكن
الأخذ به في الأحكام التي لا تكون إلا بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة عملاً بما
قالوه في رسم المفتي (راجع مقدمة شرح الدر جزء أول) وجاء القانون نمرة ٣١
مقررًا له.
وحيث إن التطرف بدعوى أن نبوة آدم معلومة من الدين بالضرورة توصلاً
لتكفير مسلم بأي وسيلة انقيادًا لأحقاد نفسية، ثم الاستدلال عليها بما جاء بعريضة
الالتماس تعده المحكمة تهاترًا وشغبًا في أمر بديهي، ومثله مكابرة مردود من ذاته لا
يستحق التفاتًا.
وحيث إن حكم محكمة الاستئناف لم يُبنَ إلا على أن المستأنف أنكر لشبهة
غير صحيحة أمرًا نظريًّا ليس من الأصول المعلومة ضرورة، كما هو صريح في
أسباب ذلك الحكم , ولا دخل فيه مطلقًا لما قرره المستأنف بالجلسة، فالقول: إن ما
حصل منه أمر زائد لم يفصل فيه ابتدائيًّا، وجعل ذلك من أسباب الالتماس - قول
صادر بلا روية، ومما ذكر كله وما تبين في أسباب الحكم المستأنف، ومن الرجوع
إلى الكتب التي أخذت منها أسبابه، وإلى كتاب (فيصل التفرقة بين الإسلام
والزندقة) للإمام الغزالي - رضي الله عنه - يرى أن ما حكمت به محكمة
الاستئناف هو ما يجب الحكم به شرعًا، ويتعين لما ذكر رفض هذا الالتماس
موضوعًا عملاً بالفقرة الثانية من المادة ٣٣١ قانون نمرة ٣١ سنة ١٩١٠.
فبناءً عليه، تقرر قبول هذا الالتماس شكلاً وفي الموضوع برفضه وعدم
قبوله اهـ.
(المنار)
نشكر للقاضي الفاضل تصريحه بما ظهر له من أن هذه القضية لم تكن
صادرةً عن غيرة على الدين، ولا حرص على أعراض المسلمين، وإنما هي أحقاد
نفسية أثارها الحسد، وإلا فما بالنا لم نر أحدًا من هؤلاء المكفرين لأهل الصلاح
والإصلاح من المسلمين، لا يدافعون عن الإسلام بالإنكار على من يدعون إلى ترك
جميع نصوصه حتى نصوص الكتاب والسنة والإجماع بجميع أنواعه، وتفضيل ما
يضعونه هم من القوانين عليها كالذين يرد عليهم المنار من رجال القضاء الأهلي،
ولا بالإنكار على المستبيحين لجميع الفواحش والمنكرات؟