بقلم: السر هنري جونستون (مقالة مهمة عنه في العدد الأخير من مجلة القرن التاسع عشر الشهيرة) يذكر قراء الأفكار الكرام أن السر جونستون هذا قد كتب مقالات شتى عن السياسة الشرقية خصوصًا، وعن الإسلام والمسلمين عمومًا، فكانت كتاباته تقيم الدوائر السياسية في أوروبة وتقعدها، ليس لأنه ضليع بالمواضيع الهامة فقط، بل لأنه ذو مكانة سامية أيضًا في عالم الأدب والاجتماع والسياسة فضلاً عن سعة معارفه الجيوغرافية؛ لأنه قضى نحوًا من عشرين سنة في البلدان الإسلامية يبحث وينقب ويراقب. والسر جونستون هذا هو أول من جهر بأسرار مقابلة ريفال بين المرحوم الملك إدوارد والقيصر نقولا الروسي واتفاقهما على أملاك تركيا في أوروبة حلاًّ لمشاكل مقدونيا والآستانة. وهو من كتب في العام الماضي يمتدح من أعمال فرنسة وإنكلترة التمدينية في المستعمرات الإسلامية بقارة أفريقيا ويقول بوجوب تسليم ألمانيا لفرنسة في إعلان حماية هذه على مراكش حتى يصبح العالم الإسلامي كله في أفريقيا تحت رايات الدول الإفرنجية القادرة على ترقيته وتمدينه [٢] بعكس الحكومات الإسلامية التي لا تتمكن من ذلك لمجرد كونها إسلامية - على قوله - وأخيرًا رأيناه يجهر بعبارة صريحة قائلاً: إن العالم كله سوف يعترف بعد مئة سنة بحقيقة واضحة وهي أن ظهور النبي محمد كان أعظم ضربة على التمدن في كل الممالك التي استولى عليها المسلمون [٣] . وليس المقام مقام أخذ ورد في هذه المقالة ولا هو مقام انتقاد وتخطئة فإن المستشرقين النزيهين من علماء الفرنجة ذواتهم يسفهون هذه الآراء ويقولون: إن الأديان كلها كانت في كثير من الأزمنة آلات بيد السياسة الخدّاعة تهدم هياكل العمران والرقي بمعاول التعصب الذميم فتترك وراءها الجهل العميم. والجهل أبو المصائب كلها وأولها التأخر والانحطاط. بَيدَ أن نشر مقالات كهذه بين معاشر الشرقيين تخطها أقلام الباحثين من علماء الإفرنج وكبار ساستهم له فوائد جلية لا تخفى على أحد. وطالما رأينا كثيرًا من وصيفاتنا الجرائد العربية المعتبرة تنقل عن الأفكار تعريب هذه المقالات الهامة علمًا منها بفائدة نشرها بين عموم المشارقة سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين وأمامنا اليوم العدد الأخير من مجلة القرن التاسع عشر وفيها مقال عنوانه (أوربة والعالم الإٍسلامي) بقلم السر جونستون ذاته هذا تعريبه باختصار وتصرف (ليت الجريدة لم تتصرف) : - إن الحرب الإيطالية العثمانية الحاضرة قد جدَّدت المباحث عن الشرق والغرب وعلى الخصوص عن علاقة الدول العظمى بملايين عديدة من البيض والصفر والسود يدينون بدين الإسلام , وهؤلاء المسلمون متحدون بعض الاتحاد - وليس اتحادًا كاملاً كما يزعم فريق من الكتاب بجهل حقائق الأمور؛ لأنه لم يبرح بلاده قط، أي أن هذا الفريق لا يكتب عن تحقيق واختبار - واتحاد المسلمين الجزئي هذا مُوَجَّه ضد أوروبة النصرانية وخصوصًا ضد الدول المستعمرة منها. وإذا نظرنا إلى عمل إيطالية الأخير في غزوتها طرابلس الغرب نظرة عمومية نرى أنها مخطئة خطأ فاحشًا؛ لأنها شهرت الحرب على تركيا فجأة ومن دون سابق مفاوضات تجيز لها هذا العمل، فضلاً عن أن جنودها بعد احتلالهم طرابلس أجروا من الفظائع البربرية على النساء والأولاد ما ذعر له العالم المسيحي قبل العالم المحمدي، ولا عذر للإيطاليين سوى قولهم إن امتلاكهم ولاية طرابلس الغرب ضروري لكيانهم كأمة مستقلة , وهذا العذر غير مقبول منطقيًّا، ولا جائز شرعًا، أو في عرف الدول , بيد أن الصحافة الطليانية وساسة الإيطاليين الذين حادثتهم في هذا الموضوع كانوا يقولون لي: إن النمسا وألمانيا كانتا عاقدتين اتفاقًا سريًّا مع تركيا على امتلاك طرابلس الغرب برضاها وإنهما إذا امتلكتا هذه الولاية القريبة منا تصبح حياتنا القومية مهددة بالأخطار المميتة ويصير استقلالنا تحت رحمة ألمانيا والنمسا , وسواء صح هذا القول أو لم يصح فإن إيطاليا تظل مخطئة لدى الشرائع والحقوق الدولية؛ لأنها فاجأت تركيا بهذه الحرب من دون أن تمهلها ريثما تُكذب هذه الإشاعة أو تثبتها [٤] . على أن الطليان ما برحوا يؤكدون مزاعمهم قائلين: (إن الألمان كانوا أشد الناس حنقًا علينا وأكثرهم تهجمًا، وليس ذلك حبًّا بسواد عيون الأتراك، بل لأننا منعناهم من تحقيق آمالهم ألا وهي بسط نفوذهم السياسي والتجاري من طرابلس الغرب شمالاً حتى الكونغو والقمران جنوبًا) . وإيطالية غير قادرة على تمدين الغير بعد، فلذلك لم يتجاسر أحد من ساستها الذين باحثتهم على القول أمامي بأنهم غزوا طرابلس بقصد تمدينها وترقيتها. فإن كثيرًا من السياح الألمان وسائحين من الإنكليز قد كتبوا مرارًا أن إيطالية لم تأتِ عملاً تمدينيًّا هامًّا لا في مصوع ولا في مقاطعة إرترية بالحبشة، ليس ذلك فقط، بل إن السائح في بلاد الصومال يرى البون شاسعًا بين الصومال الطلياني والصومال الفرنسوي مثلاً. فالبلاد الأولى باقية على ما كانت عليه قبل الاحتلال الإيطالي من حيث الفقر والجهل والتأخر. أما الصومال الفرنسوي ففيه الخطوط الحديدية والمزارع الجميلة وكل آثار الارتقاء والتمدن في العلم. ومثل فرنسة في إسعادها مستعمراتها مثل الإنكليز في السودان وألمانيا في زنجبار. ولكن تسرع إيطالية الأخير في طرابلس الغرب لا يحوج أوربة أنْ تناوئها وتقاومها في أعمالها الاحتلالية هذه، بل بالعكس، يجب على أوربة أن تناصرها وتؤيدها بكل قوتها؛ لأن إيطالية إذا عادت خاسرة من هذه الحرب، فالعار لا يلحق بها وحدها بل يعم كل الدول الأوربية النصرانية. فالمسلمون إذا نجحوا يصيرون يضمرون طرد الإنكليز من مصر والسودان وطرد الفرنسيين من تونس والجزائر ومراكش وطرد الروس من أواسط آسيا الإسلامية. وعليه فمن الواجب على إيطالية خصوصًا وعلى أوروبة كلها عمومًا أن تبقى ساعية جهدها في الحرب الحاضرة كي ترسخ قدم الإفرنج في شمالي إفريقية من دون نظر إلى كميات الخسائر الباهظة من المال والرجال في سبيل تحقيق هذه الأمنية [٥] . يعسر على الباحث الغربي أن يقترب من موضوع المسألة الإسلامية من دون حذر زائد. فإن المسلمين يعدون اليوم ٢٣٠ مليونًا بينهم أقوام من البيض تجمعنا وإياهم جامعة الأصل الأبيض الواحد (الأصل الآري) و٦٠ مليونًا منهم هم مثل الإفرنج تمامًا من حيث جمال الهيئة وقوة البنية والاستعداد الكامل للارتقاء العقلي , وبعض المسلمين هو من أصل أوروبي بحت؛ لأن كثيرًا من الغوط والإيطاليين والأروام والسلاف، والأرناؤط والقوقاسيين اعتنقوا الدين الإسلامي سابقًا بحكم أحوال قاهرة وهم الآن في مقدمة أتباع محمد رقيًّا وتهذيبًا لا يقلون عن إخوانهم نصارى الإفرنج قوة ونشاطًا وجمالاً وحسن استعداد لقبول التمدن الصحيح وفي الهند وحدها ٦٤ مليونًا من المسلمين هم أرقى الشعوب الهندية على الإطلاق. ومجرد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين في الرعية البريطانية يجعل الحكومة الإنكليزية أن تكون أكثر حكومات الأرض اهتمامًا بالحرب الحاضرة. فإن إنكلترة إذا رفضت السعي لأجل مصلحة تركية مركز الخلافة الإسلامية العظمى تكون قد أحدثت سببًا لإغضاب رعاياها مسلمي الهند الذين تعتمد إنكلترة عليهم وحدهم عند الخطوب في تلك البلاد، وإذا هي سعت لمصلحة تركية فتتضرر إيطالية وبضرر الإيطَالْيَانِ يزيد المسلمون حركة وهياجًا ضد الإفرنج النصارى ويعلق في أذهان زعمائهم سهولة النجاح في محاولتهم التخلص من حكم النصارى الإفرنج في تركستان ومصر وتونس والجزائر، وعندي أن إنكلترة وغيرها من دول الاستعمار العظمى تفعل حسنًا إذا سعت بضمير صالح في سبيل تعليم المسلمين العلوم الطبيعية التي تحارب العلوم الدينية علمًا منا بأن آفة الإسلام العظمى هي العلوم الدينية المبنية على القرآن وحده وهذه سدوتها الجمود ولحمتها التقيد بقيود الخرافات والأوهام [٦] . وحالما يتحرر المسلمون من ربقة الاستعباد للعلوم الدينية عندهم يصيرون قادرين على إدراك الحقائق السياسية بأكثر جلاء ووضوح أي إنهم يصيرون يميزون بين المصالح السياسية والأغراض الدينية كما صارت أوربة تفهم ذلك بعد أن تحررت من ربقة الاستعباد للتعاليم الدينية التقليدية التي كانت ضاغطة على حرية القول والعمل والفكر. ولما يصل المسلمون إلى هذه الدرجة من الارتقاء العلمي فتصير مساعدتنا لهم نافعة للفريقين أي إنهم لا يعودون يمزجون الدين بالسياسة وبكل شيء بل يصبحون عالمين أسرار المنافع الاقتصادية والسياسية فيصادقون من ينفعهم نصرانيًّا كان أم مسلمًا ويعادون من يضرهم بقطع النظر عن دينه ومعتقده. *** كلامه عن الأديان الثلاثة والقرآن ليس سوى مجموعة أقوال مقتبسة عن التوراة والإنجيل وبعض تعاليم المجوس [٧] . ولما كان محمد يكره يهود بلاد العرب كرهًا شديدًا صارت آياته في القرآن أشد وطأة عليهم مما هي على النصارى. وتعاليم القرآن فيها بعض المنافع مثل النظافة وعدم وأد البنات والامتناع عن المسكر والزكاة والصدق في المعاملات ولكن ازدراءه بالنساء وإباحة تعدد الزوجات وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالمرأة تجعل تلك التعاليم الإسلامية حجر عثرة في سبيل الارتقاء العقلي والاجتماعي كيف لا والقرآن يحتقر المرأة والمرأة هي أم الرجل [٨] . نعم إن الدين اليهودي لم يحسن التصرف تجاه النساء وهن نصف الجنس البشري، ولكن التوراة صارت اليوم مرنة بيد الحاخاميين يفسرونها كما يشاءون مما يطابق روح العصر ولا يخالف التمدن. وكذا الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى على الخصوص فإنها كانت تضطهد العلم وتعيق مسير العرفان ولكنها لم تمكث على هذا الاضطهاد زمنًا طويلاً بل رأيناها بعد ذلك تبني المراصد الفلكية وتنشط نشر العلوم الطبيعية والطبية واللغوية والجيوغرافية وبالاختصار فإن التعاليم المسيحية في أي مذهب من المذاهب لا تبقى جامدة بل نراها تتكيف وتتبدل حتى تطابق مجرى الأحوال بمرونة وليونة تامة. ليس ذلك فقط بل إننا نرى الكنيسة الباباوية كانت ومازالت تؤيد الفنون الجميلة كالنقش والتصوير والموسيقى والكنائس البروتستانتية تؤيد الأعمال الخيرية الآئلة إلى منفعة بني الإنسان وتخفيف ويلات المصابين وسد عوز المحتاجين وذلك في إنشائها الجمعيات الخيرية لبناء المستشفيات والمدارس والملاجئ، والكنيسة الأرثوذكسية نراها على أشدها في روسيا والرُّوس رغمًا عن شيوع السكر بينهم شيوعًا عامًّا معيبًا وعن تفشي الرشوة والمحسوبية وسائر ضروب الفساد في محاكمهم فهم أرقى بكثير من جيرانهم الأتراك علميًّا واجتماعيًّا وأفضل آدابًا وأخلاقًا هذا مع علمنا بأن روسيا حديثة العهد نوعًا في العمران. وإذا أمعنا النظر جيدًا نرى البون شاسعًا بين الممالك المسيحية والممالك الإسلامية من حيث العلوم والصنائع والفنون والاقتصاد والتدابير الصحية والعلاقة الزوجية بين الجنسين - أي أننا نرى البلدان المسيحية والبلدان التي هي تحت حكم النصارى أرقى بكثير من البلدان الإسلامية [٩] ليس ذلك فقط بل إننا إذا نظرنا إلى المجر مثلاً نرى أن المجريين والأتراك هم من أصل واحد قدِموا إلى أوروبة من أواسط آسيا في بدء القرون الوسطى وكانت لغتهم واحدة وبعد أن حلّ المجر في النمسا واعتنقوا الدين المسيحي صاروا على تمادي الأجيال أرقى من إخوانهم الأتراك الذين حلوا في مقدونيا وعلى ضفاف البوسفور وبقوا معتنقين مذهبهم المحمدي، وترى الفرق كبيرًا اليوم بين المجر والأتراك من حيث الارتقاء والتمدن، فالأولون نبغوا في الموسيقى والشعر والنقش والبناء والآداب والاقتصاد بينما الأتراك لا يزالون على حالة واضحة من التأخر في كل هذه الفنون. ورُب معترض يقول: إن الإسلام أبقى على كثير من العلوم والصنائع التي كانت النصرانية تحاربها على زمن الروم والأقباط والسوريين والرومان، فالإسلام أبقى آداب الروم والرومان وعلومهم وأنعش العلوم الطبية والفلكية والرياضية وزاد في فنون البناء والهندسة وزخرفة القصور والجوامع وكان صلة متينة بين علوم الشرق والغرب بل كان الحلقة الوحيدة التي وصلت علوم اليونان والرّومان بالإفرنج في القرون الوسطى، ولولا هذه الحلقة لضاعت العلوم الطبية والفلكية وغيرها كثير، نعم إنني أعترف بصحة هذا الاعتراض ولكني أجيب عليه قائلاً: إن علماء المسلمين الذين عنوا بالعلوم والمعارف ونشطوا الحركة الفكرية والعقلية من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر للميلاد لم يكونوا عربًا ولا أتراكًا بل كانوا يهودًا أو فرسًا أو قبطًا أو أروامًا جبروا على اعتناق الدين المحمدي [١٠] وبعضهم بقي على دينه؛ لأن أميره أنعم عليه في إمكانية ذلك البقاء منة وكرمًا، (وهنا يسهب السر هنري جونستون في وصف البلدان الإسلامية وما هي عليه من التأخر كمصر وتونس وطرابلس الغرب والجزائر ومراكش وأواسط أفريقيا وتركيا وبلاد العرب زاعمًا أن علة هذا التأخر الوحيدة هي الدين الإسلامي، إلى أن يأتي إلى مسألة طرابلس الغرب فيقول: إن سبب انحطاطها هو حكم المسلمين عليها أيضًا؛ لأنها من الزمن الذي دخلت به في حوزتهم من القرن الثامن للميلاد حتى الساعة لم ترَ إلا عوامل التخريب والتدمير فتركيا لذلك غير محقة بمحافظتها على هذه الولاية من النظرة الأدبية كما أن إيطاليا غير محقة في اعتدائها عليها) ثم يستأنف الكلام فيقول: ويظهر من كل ذلك أن الأديان كلها قاومت التقدم الإنساني زمنًا من الأزمان ولكن الدين الإسلامي اشتهر بكونه غير قابل التكيف لما يطابق أحوال الزمان والمكان كالدين النصراني والدين اليهودي [١١] ولو فقه المسلمون ذلك، وصار علماؤهم يبحثون عن طريق لحل تعاليمهم الدينية من قيود الجمود هذه لما تأخروا عن اللحاق بإخوانهم المسيحيين في السير نحو الارتقاء والنجاح، أي من عليهم البحث في إيجاد طريقة لجعل دينهم مرنًا لينًا يقبل التكيف والتأويل والتفسير لما يطابق روح الزمان والمكان. أما من حيث قضية طرابلس الغرب فأكرر القول: إن إيطاليا مخطئة في اعتدائها عليها من دون مسوغ شرعي أو أدبي قط، ولكن غيرها من دول الاستعمار فعل ذات الشيء عينه إنما بهيئة مختلفة، فإطلاقنا القنابل على الإسكندرية سنة ١٨٨٢ واحتلالنا وادي النيل وغزو فرنسا مراكش الآن وزحف روسيا على شمالي العجم وامتلاك ألمانيا جزءًا من شرقي أفريقيا - كل ذلك يؤيد حجة إيطاليا في قولها للدول: إنها فعلت ما فعلته تلك الدول ذاتها، وعندي لو كانت طرابلس الغرب سهلت دخول الأجانب إليها واستثمار أموالهم فيها لما أقدمت إيطاليا على غزوتها، فإن البرتوغال وأسبانيا أقفلتا باب مستعمراتها الأمركانية في وجه الأجانب وكانت النتيجة أن العلمين الإسباني والبرتوغالي اختفيا عن القارة الأمريكية، وأملاك البرتوغال الباقية لها في أفريقيا مهددة بالضياع إلا إذا كانت البرتوغال ترعوي فتفتح باب الاتجار والاستثمار أمام المتمولين وأصحاب الشركات الأجانب. ورغمًا عن كل ذلك فإن الأمم الضعيفة والدول الصغيرة لم تتمكن من المحافظة على كيانها أو على أملاكها إلا لأنه يوجد في هذه الدنيا شيء يُدعى (الضمير الأدبي) هي وحدها التي منعت فرنسا وألمانيا من تقسيم سويسرا وبلجيكا بينهما، وهي التي منعت النمسا من ابتلاع الصرب وإنكلترا من زيادة أملاكها في غينيا على حساب فنزويلا، وليس من يريد موت هذه المحكمة الأدبية أو ضعفها وخصوصًا نحن المسيحيين الذين نعتقد أن للأديان علاقة مهمة في ارتقاء البشر وتمدنهم. نعم إن بالدين المسيحي كثيرًا من الخرافات والزوائد المضرة، وبالدين المحمدي كثيرًا من الحسنات والفضائل، ولكن البلدان التي تدين بالنصرانية لم تضطهد المسلمين وخصوصًا في القرنين الآخرين كما أنها لم تجبرهم على رفض طقوسهم وعاداتهم مطلقًا، فالمسلمون لهم تمام الحرية في السفر إلى أية جهة أرادوها في أربعة أقطار المسكونة ولهم تمام الحرية في الدخول إلى معابد النصارى واليهود في كل مدن الأرض ولكن النصراني لا يقدر حتى هذه الساعة على الدخول إلى مكة والمدينة كما أنه لا يقدر على الدخول إلى جوامعهم إلا ويكون معرضًا في أغلب الأحيان إلى الإهانة، وماذا نقول عن نوع المعاملة التي يلاقيها النصارى الموجودون تحت حكم دولة مسلمة حتى في هذه الأيام، فإن حالة أقباط مصر الآن كحالة مسيحية سوريا وأرمينيا ومكدونيا - ليست مما تشرح الصدر وتفرح القلب. نعم إنني لا أعتقد بإمكانية صيرورة المحمدي مسيحيًّا وخصوصًّا في هذه الأيام كما أنني لا أتوقع من اليهودي في القرن العشرين أن يعود فيعترف بالمسيح حالة كون المسيح يهوديًّا من النظرة البشرية بل هو أعظم يهودي على الإطلاق ولكني أعتقد أن عقلاء المسلمين وعلماءهم يقدرون على اقتفاء خطوات علماء النصارى واليهود في القرون الأخيرة وأعني حذف الزوائد المضرة من دينهم والاستغناء عن كثير من تقاليدهم وعاداتهم وخرافاتهم العديدة حتى يجعلوا دينهم أهلاً لكل حالة وصالحًا للاتباع في كل زمان ومكان - أي حتى يفكوا عنه قيود الجمود كما فككناها نحن عن ديننا من قبلهم فيصير من السهل عليهم السير في سبيل الارتقاء والتقدم اهـ.