للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الصلح بعد سوء العاقبة
بسقوط يانية وأدرنة

كان زعماء الاتحاديين يزعمون أن سبب خذلان الجيش العثماني وانكساره في
حرب البلقانيين هو أن وزارة مختار ووزارة كامل لم تحسنا إدارته، ولم تكلا قيادته
إلى القادرين عليها، وأنه لو تعين محمود شوكت باشا مفتشًا للجيش؛ لتحولت
الحال، وكان الظفر للعثمانيين مضمونًا، ثم عمدوا إلى إسقاط وزارة كامل باشا
لرضائها بالصلح، وزعموا أنهم لا يصالحون إلا بعد أن ينقذوا أدرنة ويعيدوا شرف
الجيش إليه بالظهور على البلقانيين، وأن قوته ومعداته كافية لذلك لا ينقصها إلا أن
تكون الإدارة والقيادة في أيدي الاتحاديين، وقد نقلنا بعض مزاعمهم هذه وبيَّنا أنهم
لا غرض لهم إلا الاستيلاء على الدولة بهذه الفرصة وأنهم لا يستطيعون أن يصلوا
إلى صلح شريف كالصلح الذي كان يريده كامل باشا، وهو به زعيم: بأن يجعل
أدرنة ولاية إسلامية مستقلة فاصلة بين البلقان والآستانة، ثم صدقت الحوادث
آراءنا ففتحت اليونان يانيا عنوة وفتحت البلغار أدرنة عنوة، وفقدنا كل ما فيهما من
السلاح والذخائر؛ وهو معظم ما بقي عند الدولة، وأخذ منا عشرات الألوف أسرى؛
فهل هذا هو الشرف العسكري الذي أرجعوه بجعل الصدارة مع الحربية بيد محمود
شوكت باشا؟
كان المنافقون للاتحاديين يعظمون أمر أدرنة على عهد الوزارة السابقة
ويزعمون أنها إذا سقطت في أيدي البلغار حربًا أو صلحًا فقد سقطت الآستانة
وسقطت وراءهما الدولة والإسلام.
فلما أُخذت أدرنة عنوة وحصونها أمنع من جميع حصون البلاد المحصَّنة في
الدولة، وعلم جميع الناس أنه لا يوجد في هذه المملكة حصن يمتنع على حكومة
صغيرة كالبلغار - قام هؤلاء المنافقون يجعلون سقوط أدرنة وأخذها عنوة من قبيل
الظفر للدولة؛ لأن الأعداء علموا أن أخذ بلادها لا يمكن إلا بخسارة كبيرة! !
وأين البلاد المحصنة كأدرنة في الدولة؟ ومثل هؤلاء المنافقين لا يُكَلَّمُون ولا
يُخَاطَبُون، وإنما يُتمثل عند ذكر تهافتهم هذا بالحديث الصحيح المتفق عليه: إن مما
أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت.
ومنهم من يقول: إن أخذها عنوة أقل ذلاًّ من أخذها صلحًا بالنزول على حكم
الدول الكبرى؛ لأن الرضاء بما تقترحه الدول يطمعها فينا ويجعلنا تحت سيطرتها.
وكان يمكن تسليم هذا الكلام على علاته لو أن الدولة سَلِمَتْ بعد أخذ أدرنة من
سيطرة الدول وتحكيمهن في أمر الصلح وأمر الجزر، ولكنها لم تسلم بعد ذلك؛ بل
عادت بعد أخذ أعظم بلادها وأكثر ذخائرها بالقوة القاهرة إلى تفويض أمر الصلح
إلى أولئك الدول بلا شرط ولا قيد؛ وذلك شر ما وصلنا إليه من تسليم الأمر إلى
الدول وقبول سيطرتها، وما بعده أعظم منه، وسيرى القراء صدق رأينا في هذا
كما رأوا مثله كثيرًا.
وجملة القول أن هؤلاء الاتحاديين قد عجلوا على هذه الدولة ما لم يعجل
عبد الحميد، فهم الذين استبدوا بالأمر كل هذه المدة لم يخرج الأمر من أيديهم إلا شهورًا لم يتجدد فيها شيء لم يكن من آثارهم وعمل أيديهم، ولا يزالون يمنون علينا
بكلمة الدستور أو (مشروطيت) فلا كانوا، ولا كان دستورهم الخادع، ولا
مشروطيتهم الخاطئة الكاذبة.