للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قوانين التعليم الرسمي - انتقاد
النبذة الرابعة - تعليم اللغة والتاريخ والعلوم

انتقدنا في النبذة السابقة قانون التعليم الرسمي من حيث تعليم الدين وودَدْنا لو
نعلم لنِظَارة المعارف عذرًا نعذرها على تلك العيوب وضروب القصير ونتكلم في
هذه النبذة على تقصير القانون فيما يتعلق بتعليم اللغة العربية لغة الأمة والبلاد
وتعليم التاريخ والعلوم.
العيب العامّ الأكبر هو ما جاء في عرض كلامنا على اقتراح الجمعية العمومية،
أعني مزاحمة اللغة الأجنبية للبلاد في التعليم الابتدائي وقد خرجت نظارة معارف
مصر في هذا عن سُنة أئمتها الأوربيين كلهم، فهي لا تجد لها دولة أوربية تقتدي
بها. ولم تكتف بتعليم قواعد اللغة الأجنبية ومبادئها بل زادت على ذلك تعليم مبادئ
العلوم، فالتاريخ الطبيعي يُبتدأ به في السنة الثانية وله درس واحد في الأسبوع،
يقرأ بالعربية ثم يقرأ في السنتين الثالثة والرابعة باللغة الأجنبية وله فيها درسان في
كل أسبوع فكأن دروس السنة الثانية تمهيد لما بعدها فتكون لغة البلاد وسيلة لا
مقصدًا. وكذلك الحال في علم تقويم البلدان إلا أن دروسه في الثالثة والرابعة ثلاثة
في كل أسبوع.
ومَنْ نظر في جدول توزيع حصص الدروس في التعليم الثانوي لا يرى بإزاء
خطوط اللغة العربية من الجدول إلا النقط والأصفار، فالعلوم كلها تقرأ باللغة
الأجنبية وهي الحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان والتاريخ والطبيعة والكيمياء
والرسم. وكأن (الضمانات الخمس) التي قدمها ناظر المعارف لنواب الأمة في
الجمعية العمومية هي التي جعلت دروس الترجمة من حصص اللغة العربية في
الجدول الابتدائي والثانوي ليزيد العدد فتقتنع الأمة بأن لغتها قد اعْتُنِيَ بها وأدخل
فيها العلوم والفنون، ولكن هذا غش وخداع فإن الترجمة كما تكون من اللغة
الأجنبية إلى العربية تكون بالعكس والعناية الكبرى فيها باللغة الأجنبية ومعلموها هم
معلمو اللغة الأجنبية إلى العربية فكان الأقرب إلى الصواب أن تعد الترجمة من
دروس اللغة الأجنبية.
فدروس الأسبوع في التعليم الثانوي ٣٣ درسًا: ثمانية منها للغة العربية نفسها
(النحو والصرف والبلاغة) والباقي للغة الإنكليزية، تسعة لنفس اللغة وواحد
للترجمة والباقي للعلوم.ومما يدل على أن حصص الترجمة تعدّ من دروس اللغة
الأجنبية إهمال الكلام عليها في الفصل الذي يشرح كيفية تعليم العربية من القانون
وذِكْرها في الفصول التي يشرح فيها كيفية تعليم اللغة الأجنبية.
الأمور التي تهم الأمة في التعليم وتود الضمان عليها ثلاثة: الدين وهو في
المرتبة الأولى، واللغة وهي في المرتبة الثانية، والتاريخ وهو المرتبة الثالثة،
فأما الدين فقد بيّنا وجوه تقصير المعارف فيه وجعله كالرسم الدارس.
وأما اللغة العربية فتقصيرها فيها من وجهين أحدهما نسبي وهو جعلها دون
اللغة الأجنبية، والواجب أن تكون فوقها، وثانيهما عدم تعليم العلوم والفنون بها
والواجب أن تجعلها لغة العلم؛ لأن الأمة لا تحيا حياة حقيقية إلا بجعل لغتها لغة
العلم ليتسنى بذلك تعميم العلم فيها فتكون حياتها العلمية مُمِدّة لحياتها المعاشية
والقومية. وإذا نحن جعلنا للعلم لغة ولسائر الشئون لغة أخرى نكون قد جعلنا في
مقومات حياة الأمة تنازعًا بفصل العلم عن العمل ولا يمكن أن يكون العلم مرشدًا
إلى العمل، والعمل منبعثًا عن العلم إلا إذا كان العامل عالمًا، ونتيجة هذا من غير
تطويل بشرح المقدمات أن أحد الأمرين واجب لكمال الحياة؛ إما نقل العلم إلى لغة
الأمة وهو المعقول المقبول، وإما نقل الأمة إلى لغة العلم الطارئ وهذا إعدام الأمة
وجعلها غذاءً وممدة للأمة التي تنتقل إلى لغتها، وما أخال أن ناظر المعارف
ورجال (ضماناته الخمس) من أمته يرضون بذلك سرًّا وجهرًا فإن كان لهم من الأمر
شيء فليعلموا أبناء الأمة العلوم بلغتها وإن كانوا مغلوبين على أمرهم للمستر
دنلوب ومن ينصره فلا يعارض ناظر المعارف الجمعية العمومية في طلبها عَرْض
قوانين المعارف على مجلس الشورى ولا يكابر نفسه وقومه بزعمه أن قوانين
نظارته موافقة لمصلحة الأمة ومؤيدة منها (بخمس ضمانات) ! !
وأما التاريخ فهو عند جميع الأمم الحية قِوام التربية الاجتماعية به تنفخ روح
محبة الجنس والأمة والوطن في الناشئين فبتعليم التاريخ كانت ألمانيا ألمانيا
وإنكلترا إنكلترا وفرنسا فرنسا، فالغرض الأول من علم التاريخ معرفة الإنسان أُمته
أو معرفته نفسه من حيث هو أمة، ثم معرفته سائر الأمم ليعرف مكانه منها ومكانها
منه وبذلك يُحصِّل الإنسان العلم النافع الذي هو غاية كل تربية وتعليم وهو الذي
عرّفه حكيمنا الإمام بقوله: (العلم ما يعرّفك مَنْ أنت ممن معك) .
إذا كان هذا هو الغرض من التاريخ فقد أصابت الأمم الأوربية بتلقين الناشئين
في أول الأمر تاريخ أمتهم مفصلاً وجعلهم تاريخ بقية الأمم في الدرجة الثانية، فالتلميذ
عندهم لا يعرف شيئًا من عظمة غير قومه وأمته إلا بعد أن يُشْرب قلبه عظمة سَلَفه
وحبهم وحب بلادهم. ويقال إن أكثر الألمانيين لا يكادون يتعلمون شيئًا عن غير
بلادهم وأمتهم إلا إجمالاً؛ لأن الواجب في رأيهم على كل إنسان أن يعرف نفسه
وقومه الذين سعادته بسعادتهم وشقاؤه بشقائهم. وأما معرفة أحوال بقية الأمم فإنما
تجب على طائفة من الناس كالذين يتصدُّون للسياسة وللتعليم ونحو ذلك مما يحتاج
فيه إلى معرفة تاريخ الآخرين وأحوالهم.
على هذا كان الواجب على نظارة معارفنا أن تجعل تاريخ الإسلام والسيرة
النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين في مقدمته هو أول ما يغرس في نفوس تلامذتنا وأن
تتوسع في تاريخ جميع الدول الإسلامية وبيان أسباب تقدمها وتأخرها حتي تنتهي
بالدولة العثمانية والبلادُ المصرية جزء منها وبعد هذا كله تلقن التلامذة بالإجمال
تاريخ سائر الأمم لا سيما المجاورة للممالك الإسلامية ليعرفوا نسبتهم إلى قومهم ونسبة
قومهم إليهم.
ما أدت نِظَارة المعارف هذا الواجب ولا رَعَتْهُ حق رعايته فإنها لم تعتبر
جنسية قومها في الدين ولا في اللغة ولا في الحكومة (وهي العثمانية)
ولكنها اعتبرت أن جنسيتها نسبتها إلى مصر وأن سلف هذه الأمة الغربية هم
الفراعنة والرعاة واليونان والرومان والعرب وخَلَفها الترك فهي والأَوْشاب تعلم
التلامذة في الطور الابتدائي تاريخ هذه الأمم الكثيرة بهذا الترتيب.
وأما تعليم التاريخ في القسم الثانوي: ففي السنة الأولى منه يعلمون تاريخ
الرجال وذكرهم في قانون وليس فيهم مسلم ولا عربي إلا محمد على باشا
وإسماعيل باشا أميرَيْ مصر، وفي السنة الثانية أقسام (١) الدولة الرومانية (٢)
الدولة الإنكليزية (٣) الحروب الصليبية (٤) الدولة العثمانية (٥) عظم دولة
أسبانيا وفيها الإصلاح المسيحي (٦) عظم فرنسا (٧) ارتقاء الروسيا وفيه
تاريخ المسألة الشرقية وما فقدته الدولة العثمانية من أملاكها وتغلب روسيا عليها
وإضعافها.. (٨) ارتقاء بروسيا (٩) نابليون (١٠) المستعمرات الأوربية.
وفي السنة الثالثة أقسام أيضًا: (١) قيام أمم أوربا (٢) نمو الحرية السياسية
في أوربا (٣) المدنية عند جميع الأمم ماعدا المسلمين (٤) تقدم مصر (٥)
أسباب ارتقاء واضمحلال الأمم باختصار، وكل هذا يَعْلمه الأوربيون بلغتهم؛
فاعتبري أيتها الأمة المصرية (بضمانات ناظر المعارف الخمس) واطمئني له
ولها ما أجدر هؤلاء التلامذة بأن يشبّوا لا يعرفون لهم أمة ولا جنسًا ينتمون إليه
ويفتخرون به ويعملون على إحياء مجده وتجديد فخره. بل ما أجدرهم بفساد الفطر
التي نراها في بعض أحداثهم الذين ينادون بالوطنية المصرية بغير عقل. فإن قيل
لهم: هل الوطني المصري هو من يسكن مصر ويتخذها وطنًا؟ قالوا: لا لا إن
ممن يسكنها النزلاء الإفرنج وهؤلاء يحترمون في الظاهر ويبغضون في الباطن
ومنهم الدخلاء العثمانيون من سوريا وغيرها وهؤلاء يمقتون في الظاهر والباطن.
وإن قيل لهم: هل الوطني المصري ما كان من سلائل القِبْط والفراعنة فيجب أن
نبغض من يسكن مصر من سلائل العرب والترك الأرنؤود والجراكسة وإن كان
حكامنا منهم؟ قالوا: لا لا إن الجنس القبطي هو شر الأجناس فنسميه وطنيًّا ظاهرًا،
ولكننا في الباطن نفضل عليه المسلمين المصريين. فإن قيل لهم: إذن إن
جنسيتكم هي الإسلام فيجب أن تعتصموا مع كل مسلم من أي مملكة كان؟ قالوا: لا
لا إن هذا ينافي الوطنية الحقّة، وإننا لا نعتد إلا بالمسلمين المصريين الأصليين لا
الذين سكنوا مصر من عهد قريب. فهذه الذبذبة والحيرة عند هؤلاء الأحداث من
المسلمين لها سبب أقوى من هذا التعليم المذبذب. وظاهره أن نتيجة هذا التعليم الجناية
على الرابطة الدينية وعلى الرابطة اللغوية وعلى الرابطة الوطنية؛ لأن هؤلاء
الأحداث لا يحبون كل أبناء وطنهم بحيث يفضلونهم على سواهم. نعم إن مَضرّته
وفساده في القبط أقل منها في المسلمين فإن القبطي المتعصب يقول: إن المصري هو القبطي وكل من عداه دخيل، وغير المتعصب يقول: إن المصري هو من يقيم
في مصر ويتخذها وطنًا ينفعها وينتفع منها سواء كان شرقيًّا أم غربيًّا، مسلمًا أم مسيحيًّا. ولا يقول بهذا القول إلا أفراد قليلون على أنني أحكم بوجودهم بالرأي والتخيل، لا بالمعرفة والاختبار.
رُبّ قائل يقول: إن غرض الحكومة أن تربّي الناشئة على هذا الرأي
ونحن نقول: إن هذه غاية لا تُدْرك إلا بمحو الدين وذلك متعذر على الحكومة إذا
فقدت الدين وأرادت محوه ولكن حكومة البلاد إسلامية، والشعب الكبير إسلامي
وإذا وُجِدت آداب الإسلام الحقيقية فهي تقتضي الوطنية الحقيقية وهي اتفاق جميع
سكان البلاد على ما فيه خيرهم وخير بلادهم ومعاملة الجميع بالعدل والمساواة
بينهم بالحقوق وقد أوضحنا هذا في مقالة (الجنسية والديانة الإسلامية) فلتراجع
في المجلد الثاني، والله أعلم.