للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(١٤) من أراسم إلى هيلانة في ٨ أبريل سنة - ١٨٥
تلقيت مكتوبك أيتها العزيزة هيلانة، فذهب به روعي، وثابت إليّ سكينتي
واطمأن به قلبي عليك كثيرًا لشفيفه لي عما فيك من الإقدام والسلطان على نفسك ,
فأنت حقًّا أشرف صاحبة عرفتها في حياتي، قدر عليّ السجن وعليك النفي،
فاحتملتِ نصيبك من المقدور شريفة النفس، عالية الهمة.
إن نصيحة صديقنا الدكتور وارنجتون إليك بسكنى القرى صادرة عن حكمة
وسداد، فإن الإقامة بالأرياف أولى لك الآن من السكنى في المدن؛ لكثرة ما في هذه
من الصخب والشغب؛ ولأن الاعتكاف والرجوع إلى المعيشة الفطرية هما اللذان
يتيسر لك بهما - ولا شك - استجماع قواك بعد ما لاقيته من تلك الصدمات النفسية
التي أخشى أن تكون زعزعت صحتك فأوهنتها.
اعلمي أن من المفروض عليك أن تكوني صحيحة الجسم، سليمة من الأدواء
لأنك مسئولة من الآن عن الوديعة التي استودعك الله إياها، ولا تستغربي مني
مخاطبتي إياك باصطلاح العلماء بوظائف الأعضاء، فإني ماتعلمت الطب عبثًا بل
تعلمته للانتفاع به.
كل كائن دخل في بداية الحياة عرضة للمرض والهلاك، ولذلك كان للجنين
أمراض حقيقية، فما هي أسباب هذه الأمراض والعلل الخفية؟ لا شك أن بعضها
يعجز العلم عن إدراك كنهه، ولكن لنا كل الحق في أن نعتقد أن للمرأة دخلاً في
بعض ما يولد به الطفل من التشوه، لا أخالك نسيت تلك السيدة د ... التي فتنت
القلوب ببديع حسنها، فإنها لمَّا أصابها هوس المرقص، وبعثها على أن تقضي
فصل الشتاء كله رقصًا في قاعات باريس بل أداها إلى الاستمرار على ذلك حتى في
ساعة الوضع - قد وضعت بنتًا فيها شيء من الجمال إلا أنها حدباء.
إذا كان لأعمال المرأة تأثير في الجنين بما وصفنا، فهل يمكننا من جهة أخرى
أن نقف على علاقة بين انفعالاتها النفسية وبين أخلاق ذلك الجنين الذي يحيا بحياتها ,
ويشمله شخصها وتضمه أحشاؤها؟ نعم فقد كان الحكيم هوب [١] يعلل ما فيه من
خلق الخفر بما لاقته أمه من الأهوال أثناء حملها به حينما كانت العمارة الأسبانية
المسماة (أرماد) الشهيرة تهدد إنكلترا وتطوف حول سواحلها، وكان ما يتخيله
أهلها من صورة إغارة الأعداء عليهم يلقي الرعب في قلوبهم.
إنك قد طالعت وقائع (ينجل) فما أشد ما تجدينه فيها من مسكنة
الملك يعقوب الثاني المذكور فيها، فلشد ما كانت ترتعد فرائصه، ويصفرُّ لونه عند رؤيته السيفَ مجردًا من قرابه ألا إن جبن ذلك الملك يضحك الثكلى، على أنه قد
يجب أن يحرك في الإنسان عاطفة أخرى , إذا صح أن ضعفه هذا ناتج من مشاهد
المصائب والرزايا التي كانت تحيط بأمه مريم استوارت في أثناء حملها به.
إلى أي درجة يتأثر الجنين بتزعزع الشجرة العصبية التي تظله في بطن أمه؟
هذا أمر يصعب الحكم به قطعًا في حالة العلم الحاضرة، ويكفي وجود الشك في
تأثره من أجل إلزام أمه باتقاء أسباب الانفعالات الشديدة، والنظر إلى الأماكن
المشئومة، والابتعاد عن المتاعب وعما يجره الإخلاص في الولاء من الشدائد
والمحن.
المرأة هي قالب للنوع الإنساني يفرغ فيه، فيتشكل بشكله إلى حد محدود،
فيجب عليها لهذه الصفة رعاية صحتها والمحافظة عليها، فيلزمها في الحمل أن
تكون مستريحة الجسم والفكر، مستجمعة القوى، ولكن يندر أن يوجد بين ربات
الجمال من النساء من تصبر فيما جرى العرف بتسميته (الدنيا الكبرى) على ترك
اللذائذ ومجامع الأفراح ومراسح التمثيل لتنال شرف الإتيان بأولاد حسان، بل إن
من خسارة الصفقة لديهن أن يجدن أنفسهن عاجزات عن استئجار غيرهن لتأدية
وظائف الحبل كما يستأجرنهن للرضاعة، فإنهن لو وجدن لذلك سبيلاً لاستأجرت
المثريات منهن - من عهد بعيد - بطون نساء الطبقة السفلى لحمل أجنتهن.
أما هؤلاء، فإنهن لكدهن في وسائل المعيشة لا يجدن لهن من الزمن مايهتممن
فيه كثيرًا بأمر ذريتهن، فقد رأيت بعضهن، وقد أثقلن حتى كدن يشارفن الوضع
تلجئهن ضرورات المعيشة إلى غسل الملابس في نهر السين زمن الشتاء، فكن
يغمسن أذرعتهن في مائه المثلوج , أو تضطرهن إلى دفع عجلات محملة لتمشيتها،
أو إلى حمل أثقال باهظة يرتاع لها الأشداء من حمالي الأسواق، بهذا تعلمين ماجرَّ
علينا ما في أخلاقنا من الأثرة وحب الاختصاص من رداءة النسل، كل ما يضعف
المرأة التي هي قرينة الرجل وصاحبته يضعف الذرية ويحط من شرف الجنس،
فإذا أراد المجتمع الإنساني أن يضمن لنفسه الحصول على أولاد حسان الخلق
يكونون في المستقبل رجالاً أشدّاء، فلا يتسنى له ذلك إلا بتحري العدل في تقسيم
ثمرات العمل، وبأن يعرف للمرأة ما تستحقه من الاحترام والإجلال. اهـ
(١٥) من أراسم إلى هيلانة في ١٠ أبريل سنة - ١٨٥
ليست مكاتيبي إليك كغيرها مما يكتب الناس بعضهم إلى بعض، وإنما هي
أحاديث مسجون يناجي بها في عزلته أعظم شقيقة لنفسه وأحسن قسيمة لروحه،
لا بد أن يكون قد سبق إلى ذهنك ما أقصده منها ففطنت إليه , إني أريد أن
أعمل بقدر استطاعتي، وأنا في مطارح النوى لتحصيل السعادة لذلك الذي بشّرنا الله
به، فإنه ليعرض لفكري أن هذا الطفل قد لا يعرفني ولا يراني أبدًا، وقد يتهمني يومًا
ما بأني أهملت ما فرضه الله عليَّ من الواجبات التي تحفظ حقوقه بالقيام بها،
فيحرج لذلك صدري وينقبض قلبي، ولكن هل أكون مستحقًّا لهذا اللوم إذا كنت على
ما أنا فيه من العجز عن حياطته بضروب الرعاية وصنوف الملاطفة أدفع له دَين
الأبوية من نقد آخر؟
إني بمكاتيبى إليك سأؤدي على بعدي من ولدي ما فرض له عليّ من حقوق
التربية لإعواز غيرها من الطرق المثلى لأداء هذا الفرض، فقد درست شيئًا من
أحوال الإنسان في تطوافي حول الأرض بوظيفة طبيب بحري، ورأيته في أقاليمها
المختلفة، وفي أعمار مجتمعاته المتباينة، ولذلك أرى أن في قدرتي أن أستنتج من
أفكاري ومما تحفظه ذاكرتي من الحوادث طريقة للتربية مؤسسة على نواميس
الكون وتاريخ دقائقه، فعلينا الآن أن نتبادل الأفكار في ذلك، فسأكتب إليك بما يبدو
لي، وتكتبين إليّ بما يعنّ لك حتى تتحد روحي وروحك في السهر على مهد هذا
الولد العزيز رعاية له وعناية بشأنه، سأراه في منامي يشب وينمو، وأنت
ستحدثيني عنة في مكاتيبك، وستخبرينه بوجودي، ولا موجب لاهتمامك بمستقبله،
فإن تربية الطفل الأولى هي من خصائص والدته، وأنت أهل للقيام بها وحدك بما
فيك من يقظة القلب وتوقد الذكاء، وسننظر بعد فيما يلزم من أمور التربية المستقبلة.
لكنا يجب علينا أن نعين الغاية التي يلزمنا أن نرمي إليها في مساعينا، إني لا
أعلم مطلقًا بوجود قالب يفرغ فيه الناس فيخرجون من النابغين، ولئن كان فليس
هو للتربية قطعًا، بل إنه يكون بين يدي الخالق سبحانه يهيئ به من يشاء لما يشاء
فإذا كان ولدنا ذكرًا كان غرضي من تربيته أن يكون رجلاً حرًّا، ولا أقصد بحال
من الأحوال أن يكون من كبار الرجال وعظمائهم ٠ اهـ
(١٦) من أراسم إلى هيلانة في ١١ أبريل سنة - ١٨٥
أراك متطلعة إلى أخباري، راغبة إليّ في أن أوافيك بشيء منها، فها أنا ذا
أخبرك بأن السجن واحد في جميع البلاد، فليس بين المكان الذي تركته وبين هذا
الذي أسكنه الآن على رغمي كبير فرق، وإني من عهد وصولي إليه قد لجأت
إلى المطالعة، فإني وجدت الكتاب في غيبتك عني أحسن قرين لي، يؤنسني
ويُسرِّي عني الهم، ماذا أقول بعد ذلك؟ غاية ما أقول لك أني عائش راج الفرج
ثابت على حبك، والسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))