وثلهم عرش دولة آل عثمان وجعْلهم الخلافة الإسلامية سلطة روحانية أدبية
{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} (آل عمران: ١٤٠-١٤١) . إذا أراد الله أمرًا هيَّأ أسبابه {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٢١٦) . استخفَّ الظفر في الحرب الدولة البريطانية، فخانها حُلمها الراسخ، ورويَّتها وأناتها في الأمور، فأظهرت ما كانت تكتم من التعصب الديني، وعداوة الإسلام، وحاولت القضاء على ما بقي من السلطة الإسلامية الضعيفة، والاستقلال المضطرب في بلاد الترك والعرب، فتقسمت هذه البلاد بينها وبين حلفائها قسمة ضِئْزَى، وكان مما اصطفته لنفسها مصر، وسائر ما بقي من بلاد العرب - إلا مِفْحَص قَطَاة في سورية لحليفتها فرنسة - والقسطنطينية العظمى مع زقاقيها العظيمي الشأن (الدردنيل، والبوسفور) ، على ثقة منها بأن مملكتي إيران، والأفغان في قبضة يمينها، وبلاد القوقاس، وتركستان في قبضة شمالها، وصرح كبير وزرائها لويد جورج بأن هذه الحرب آخر حرب صليبية في الأرض، أي لم يبقَ فيها شعب إسلامي مستقل يمكنه أن يذود على حوضه بسلاحه؛ فإن الدولة العثمانية - آخر دولة حربية إسلامية - قد سقطت تحت السيطرة الأوربية المسيحية. فلما رأت أن أُسُود الترك في الأناضول قد جمعوا فلول جيوشهم، وأبَوْا الخضوع لما فُرض عليهم في معاهدات الصلح الجائرة - من إلقاء سلاحهم لأعدائهم، والخنوع لما أوجبوا عليهم في أنفسهم وأموالهم وإدارة بلادهم - أغرت بهم الدولة اليونانية، عدوتهم التاريخية، وقد زاد بفضلها عليها عددُها، وتضاعف بمساعدتها لها مددُها، فجاست خلال الديار، وسامتها الخَسَف والتَّبَار، وحكمت فيها السيف والنار، وقتلت الكبار والصغار، والوزير البريطاني الأكبر (لويد جورج) يمدها في غَيِّها، وينصرها في بغيها، فعزَّ على ليوث العرين، وشم العرانين، أن تلج الثعالب أغيالها، وتغتال فيها أشبالها، فبطشوا بزحوف اليونان البطشة الصغرى، فوقفوا لا يتقدمون، ولا يتأخرون، ثم صاح بهم العدل الإلهي: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} (الدخان: ١٦) . هجمت الليوث التركية الكمالية تلك الهجمة الصادقة على جيوشهم، فولَّوْا مدبرين {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} (الذاريات: ٤٥) ، فطردتهم في مدة أسبوعين، مما تبوَّؤه في مدى سنتين، فقتل منهم عشرات الألوف، وأَسْر عشرات الألوف، وفر الباقون من مصارع الحتوف، تعبث في أقفيتهم الحراب والسيوف، وما زال يطاردهم سيف النصر، حتى ألقى مَن سلم منهم عند سيف البحر، حيث تنتظر السفن كل شريد وطريد، فيما كانوا يحتلون من ثغرَيْ أزمير، وإزَميد، وغنم الترك ما لا يُحصَى من سلاحهم وعتادهم، ومتاعهم وزادهم، وناهيك بأسر مَن أخطأه الرَّصَاص من كبار قوادهم، وفشل تدبير لويد جورج، وفنزيلوس بتجديد القيصرية (الإمبراطورية) البيزنطية، وحُلم الملك قسطنطين الثاني بلبس تاج قسطنطين الأول في محراب جامع (أيا صوفية) ، وخاب كيد الإنكليز لإجلاء مسلمي الترك من شرقي أوربة بهمجية اليونان، كما أُجْلِيَ مسلمو العرب من غربيِّها - الأندلس - بهمجية الأسبان. لو كان كل ما في هذا النصر العزيز أنه سحْق جيش تركي مهاجم، لجيش يوناني مدافع، يفوقه في العدد والمدافع - لما كان بِدْعًا من النصر، ولا مما يعده الترك من موجبات الفخر، ولكنه كان أثرًا لهجوم عسكري لم يسبق له نظير في أعظم المعارك بتدبيره وإحكامه ونِظامه، واستيفائه لجميع الشرائط الفنية، وسرعة تأثيره في ميادين مختلفة، وكان على هذا عقب سلسلة حروب مع البلقانيين في البلقان، ومع إيطالية في طرابلس الغرب، ومع إنكلترة في فلسطين، والعراق، ومع روسية في الأناضول، ومع الإنكليز والفرنسيس جميعًا في غاليبولي، ثم مع فرنسا في كليكية، ومع الأرمن في القوقاس، وكان على هذا وذاك بعد انكسار الدولة، وطلبها الهدنة، والخضوع لشروطها القاهرة، ثم قبول حكومة السلطان في الآستانة لشروط الصلح القاضية بتقسيم بلاد الدولة بين الأحلاف، وسيطرتهم على الإمارة التركية الصغيرة التي أبقَوْها باسم سلطان الترك وخليفة الإسلام في ماليتها وعسكريتها وأحكامها القضائية، وكان على هذا كله بعد إلقاء الإنكليز المحتلين لعاصمة الدولة الفساد بين السلطان وحكومته، وبين أبطال الأناضول المدافعين عما بقي من بلادهم، قبل أن يعمَّها الاحتلال الأجنبي المذل بل المميت، والمطالِبين باستقلال ما رُزئ بالاحتلال منها، حتى حملوه على الحكم بعصيانهم، وإباحة إهراق دمائهم، بخروجهم على سلطانهم وخليفتهم، لكسر قوتهم المعنوية، بفتوى من شيخ الإسلام، تطبق عليهم حكم البغاة الخارجين على الإمام، المحاربين لله ورسوله، والساعين في الأرض بالفساد، ولو أنه أمر بهذا وهو حر في تصرفه، مستقل في حكومته - لما اكترثوا لأمره، فكيف وهم يعتقدون أنه واقع تحت أسر أعداء الإسلام، ومسيَّر بنفوذهم، فعصيانه واجب، وإسقاط حكومته ضربة لازب، ثم إنه كان على هذا كله ظفرًا بدولة بريطانية العظمى، وقضاءً على ما كان من نفوذها الأسمى، وإحباطًا لسعيها المعلوم، وهو إزالة ملك الإسلام من الشرق، والاستيلاء على جميع دول الغرب؛ ولذلك كان ضلع حليفتها فرنسة مع الترك الكماليين؛ مقاومة لمساعدتها هي لليونانيين. أصبح الترك الكماليون بهذا النصر أمام عدوتهم إنكلترة وجهًا لوجه بزوال تلك الواسطة التي كانت تحاربهم بها ومن ورائها، فطفقت تحشر أساطيلها أمام الدردنيل ووراءه، وتسوق جيوشها إلى (غاليبولي وشناق قلعه) ، وأهابت بحليفتيها المحتلين معها للآستانة أن تستعدا لقتال الترك، فَأَبَيَتا ذلك عليها، فصاح لويد جورج يستنجد الإمبراطورية كلها؛ لتحفظ له ثمرة النصر في الشرق؛ فكان جواب أكثرها خافتًا، فهبَّت الأحزاب البريطانية المعارضة تفضحه بأنه يريد إثارة حرب صليبية أخرى تنفرد بريطانية العظمى بها دون أوربة، وتوسطت فرنسة - بصداقتها للكماليين - فأقنعتهم بعقد الهدنة، وترْك الزحف على تراقية والآستانة، فعُقدت الهدنة في ثغر (مدانية) ، وهو ثغر تركي صغير، كان لهم بعقدها فيه شرف كبير، وضمن لهم الحلفاء فيه الحدود التي قرروها في ميثاقهم القومي. وكان هذا فشلاً لسياسة الوزير لويد جورج أدى إلى سقوط وزارته، وعرف العالم كله أن الذي أسقطها هو الغازي كمال باشا بقوته، وقد أصبح الترك - بعد ذلك الذل والنَّكَال - يخاطبون بريطانية العظمى مخاطبة الأنداد والأقتال، وهذا ما كانوا فقدوه منذ قرون وأجيال، فسبحان مَن يعز مَن يشاء، ويذل مَن يشاء. أذاع البرق أنباء هذا النصر في العالم، فاهتز لها الشرق، وشخصت أبصار دول الغرب، وكادت تصعق الدولة البريطانية خيبةً وخِزْيًا، كما صعقت اليونانية قهرًا وعجزًا. لله در الكهرباء فثغرها الـ ... بسام كم يبدو ويبشر بالجدا ولربما التهبت فكان وميضها ... نارًا فأحرق من بغى وتمرَّدا احتفل المسلمون بهذا النصر المبين في كل قطر من الأقطار، بقدر ما لأهله من الحرية ووسائل الاجتماع وإظهار السرور، وكان قصب السبق في ذلك لمصر والهند، ويليهما سورية والعراق على كراهة ملكها لذلك، ويليهما تونس، والجزائر فمراكش، وكان العهد ببلاد المغرب الأقصى أنها أقل بلاد الإسلام اهتمامًا بالدولة العثمانية، وما يجري فيها، فصارت - بسبب الحماية الفرنسية - كأمثالها أو قريبًا منها واتفق أن ضلع الدولة الحامية لها في هذه المرة مع الترك، حتى إن سلطان المغرب هنأ الحكومة الفرنسية - لا الحكومة الكمالية - بهذا النصر (!) وقد قرأنا في جريدة (السعادة) المغربية عدة قصائد لأدباء المغرب في الابتهاج به، وأنهم يعدونه نصرًا للإسلام على أعدى أعدائه، وقد كتب إلينا من اليمن أن كلاًّ من الإمام يحيى، والسيد الإدريسي قد احتفلا في بلادهما بهذا النصر، وأمر السيد الإدريسي بإطلاق واحد وعشرين مِدفعًا من المواقع العسكرية إيذانًا بالاحتفال، وقد يظن أن بلاد الحجاز هي التي شذَّت وحدها، وإنما الذي شذ وحزن لهذا النصر هو ملكها، وأما أهل الحجاز - ولا سيما البلدين المكرمين - فهم أشدُّ حبًا للترك ودولتهم من غيرهم، ولكنهم تحت ضغط حكم قاهر لا يملكون من حريتهم شيئًا لا يُرضي مالك أمرهم. هذا العطف الإسلامي العام، والمكانة السامية أمام دول الحلفاء - التي لا تُنال عندهن إلا بسفك الدماء - قد جرَّآ الكماليين على القبض على أعنَّة الإدارة في الآستانة المحتلة، والشروع في إنفاذ خطتهم في إسقاط الدولة، ومحاكمة رؤسائها، حتى السلطان المتحلِّي بلقب الخلافة، وقد أوعز إليه بأن يستقيل، فأبى، وظن أنه يستطيع أن يُحْدِثَ بقوة الإنكليز حدثًا، فلما رأى أن السواد الأعظم من أهل الآستانة عليه معهم، لا معه عليهم - اتفق مع السلطة البريطانية على الفرار من العاصمة بنفسه، ففعل، وقد نقلوه مع غلام له وبعض حاشيته على بارجة إنكليزية إلى مالطة، وشاع أنهم يريدون أخْذه إلى الهند رجاءَ أن يفرقوا به كلمة المسلمين فيها، وقد دعاه ملك الحجاز إلى مكة بلسان البرق بإيعاز من الإنكليز - كما يقال - لتدبير كيد في الخلافة يوقع في العالم الإسلامي الشقاق، أو ينفِّره من الترك الكماليين، فيكون عونًا لهم عليهم، وإلا فإن جريدة (القبلة) - لسان ملك الحجاز - لم يطُل العهد على تكفيرها لهذا الخليفة، فهل كان إظهاره العداوة لقومه، وإهانته لنفسه ولمنصبه بالالتجاء إلى عدوه رجوعًا عن الكفر إلى الإيمان، ومدعاة إلى التعاون على إقامة الإسلام؟ ! أم ثَمًّ كيد ككيد صواحب يوسف يريد به الإنكليز ضرب المسلمين بعضهم ببعض، ويريد صاحب الحجاز من أسير الإنكليز في مكة، مثل ما كان من أسير السلطان سليم في الآستانة؛ ليقول {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} (يوسف: ٦٥) ؟ ! إذن ينبغي أن يكون له قوة حجازية، كقوة سليم العثمانية، وأما قوة الدولة البريطانية - الموجهة إلى إماتة السلطة الإسلامية - فلن تكون مُحيية للخلافة النبوية، وإن تركت حكومة الترك الجديدة باب الفتنة مفتوحًا بما اخترعت من الخلافة الروحية، وحصرت السلطة كلها في جمعيتها الوطنية. اضطرب العالم الإسلامي لنبأة ابتداع خلافة ذات سلطة روحية، مجردة من كل سلطة حكومية، وهي بدعة جديدة من الجهتين الإيجابية والسلبية، لم يرمِ إلى مثلها أحد من مبتدعة المسلمين إلا الباطنية، فهم الذين جعلوا لإمامهم المعصوم سلطانًا روحيًّا، وأوجبوا اتباعه في كل ما يفسر به النصوص، وإن كانت قطعية، وفسرها بما يخالف معناها القطعي، ولكنهم لما قدروا على تأسيس دولة جعلوا الإمام الروحي هو السلطان السياسي والحاكم الشرعي، وليس في الإسلام سلطة روحية بالمعنى الذي ابتدعته الباطنية - والترك لا يريدونه - ولا المعروف عند النصارى، وهو نحو منه، حتى نهرب من الجمع بين السلطتين، ونقلد بعض النصارى في التفريق بينهما، وإنما سلطة الخليفة في الإسلام حكومة محضة، وهو مسئول عن عمله كغيره، وإن كان رئيسًا دينيًّا ودنيويًّا، فمعنى رياسته الدينية أنه هو صاحب الأوَّلية، والأولوية في مثل إمامة الصلاة، والخطبة من العبادات الاجتماعية، ولكن لا يكلَّف مسلم أن يتبعه في اجتهاده في أمور العقائد والعبادات الشخصية، وإنما تجب طاعته فيما يأمر به، أو ينهى عنه، من حيث هو حاكم إذا لم يكن معصية، وقد أمر بعض خلفاء العباسيين بالقول بخلق القرآن، فخالفهم أعظم أئمة أهل السنة كالشافعي، وأحمد، ولم يكونوا يخالفونهم فيما يحكمون به، أو يأمرون من الأمور السياسية والمدنية الموافِقة للشريعة، وسنبين أحكام الخلافة في مقال آخر. إننا نرى أن أهم مصالح المسلمين السياسية الآن أن يؤيدوا الترك الكماليين في موقفهم أمام دولة أوربة الطامعة في اغتصاب ما بقي للمسلمين من مِلْك ومُلْك، وهو دون ما اغتصبته من قبل، وأن لا نجعل خطأهم - في مسألة الخلافة - سببًا لإضعافهم في هذا الموقف، بل ندَعه إلى أن يتم الصلح، ويحق لهم الاستقلال الصحيح المطلق من قيود النفوذ الأوربي، فحينئذ ندلي إليهم بما لدينا من الحجج الشرعية والسياسية، على ما يجب أن يكون عليه مقام الخلافة الشرعية من سلطان ونفوذ، ومنه إثبات أن سلطة الخليفة مقيدة بالشرع والشورى، وأنه هو الممثل لسلطة الأمة ووحدتها، لا صاحب سلطة فردية مستبدة، وأن الاشتراط عليه عند المبايعة من سنن الراشدين، التي جرى عليها الصحابة؛ فإن عبد الرحمن بن عوف لما فوض إليه رجال الشورى الأمر، وأراد مبايعة علي، أو عثمان - اشترط على مَن ولاه اتباع سيرة مَن قبله، فقَبِل، والسلطة الحقيقية في الحكومة الإسلامية لجماعة أهل الحل والعقد، الذين لا يكون الخليفة خليفة إلا بمبايعتهم، كما فصلناه في تفسير قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) ، وسنلخصه في مقالة الخلافة التي وعدنا بها آنفًا. إن أُولِي الأمر وأهل الحل والعقد في الدولة التركية في هذا الوقت - هم الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة، وهم الذين إذا نجحوا تنجو الدولة، وإذا خذلوا وخابوا - لا سمح الله - تهلك الدولة! ، ولم يكن الخليفة - الذي ناوءهم وناوؤه - هو الإمام الحق المتحلي بشروط الإمامة والقائم بحقوقها حتى يجب نصره عليهم، بل كان جماهير المسلمين يقرون له بمنصب الخلافة لأجل تقوية الدولة والأمة بهذا المنصب أمام الأعداء، فإذا انقلب الأمر، وانعكس الوضع، وصار أعداء الملة هم الذين يستعينون بمنصبه على سلب سلطتها، والاستيلاء على بلادها - فهل يقول مَن له أدنى مسكة من الدين أو العقل بنصر أعداء الإسلام على المسلمين؛ لأجل مَن سَلَّحُوهُ بهذا اللقب؛ ليكون قوة للمسلمين على أعدائهم؟ ! لعل الإنكليز يظنون أن المسلمين قد سفهوا أنفسهم، حتى انحدروا إلى هذا الدرك الأسفل من الجهل بدينهم ومصالحهم، وأنه يمكنهم أن يتخذوا محمد وحيد الدين فتنة للمسلمين، ولا سيما إذا وضعوه في مكة، واتحد مع صنيعتهم الأول ملك الحجاز على إثارة هذه الفتنة في البلاد المقدسة، وهو على كونه قد حكم عليه بالمروق من الإسلام - لم يخرج عن سياسته بدعوته الآن إلى الإقامة عنده في المسجد الحرام، الذي حرم الله أن يقربه المشركون والكفار - فإن تكفيره أولاً خدمة للإنكليز، ونصر لهم على الدولة التركية، ودعوته الآن إلى مكة خدمة لهم كذلك، ولكنها خدمة خاسرة، في الأولى والآخرة. لو عرف جماهير المسلمين في الأقطار المختلفة الحقيقة - التي بينَّاها آنفًا - لما أكثروا الخوض في مسألة الخليفة الذي والى أعداء أمته وملته، ولا في مسألة خلَفه، ولا في تخطئة حكومة الجمعية الوطنية، أو تأييدها في أمره، ولحصروا تأييد هذه الحكومة بما يقوي مركزها أمام أعدائها، ونصحوا لها بأن ترجئ البت في مسألة الخلافة إلى الوقت المناسب لها، ولكن إقناع غير المحصورين بذلك متعذر، والظاهر لي أن الجمهور الأعظم على الرأي الذي ظهر لنا أنه الصواب، وإن جهر بعضهم بما يخالف في السلب أو الإيجاب، ومن المضحكات أن مسلمي سورية عظم عليهم أمر سلب السلطة من الخلافة، حتى انتقم بعضهم من صورة مصطفى كمال باشا التي كانوا يرفعونها تكريمًا لها! وأما الجرائد فقد جاءتنا بالنقائض، فمن الكُتاب فيها مَن أنكر ما حصل إنكارًا شرعيًّا، ومنهم مَن حاول جعْله شرعيًّا بالتأويل، ومنهم مَن بحث عن شواذ التاريخ، واعتداء الخارجين على الخلفاء، فأراد أن يجعله أمرًا مشروعًا يُحتذَى، ومنهم مَن أظهر سروره بإزالة سلطة الخلافة، بالفصل بين السياسة والحكومة، وبين الدين والشريعة! وهؤلاء من غلاة المتفرنجين الملحدين، الذي نرد عليهم في مقالات (مدنية القوانين) ، ونحن ندعو المسلمين إلى العطف على الدولة التركية الجديدة، وتأييدها بأشد ما كنا نؤيد به الدولة العثمانية التليدة، ولا نرى أننا محتاجون في سبيل ذلك إلى الانحراف عن شيء من أحكام ديننا، ولا إلى الإقرار بأن كل ما عملته هذه الدولة، أو تعمله صوابًا، فإنما نحن نؤيدها في مقاومة المعتدين عليها وعلينا، ولا نشترط لذلك أن تكون معصومة في أعمالها، لا في مسألة الخلافة ولا في غيرها، وقد ترجمت لنا الجرائد خطبًا وأقوالاً في هذا الموضوع لزعماء الكماليين، أهمها خطبة للغازي مصطفى كمال باشا نفسه، وسننشرها في الجزء التالي إن شاء الله تعالى. وجملة القول إن آخر ما جاء من أنباء هذا الانقلاب إلى سلخ هذا الشهر - بعد كتابة ما تقدم - أن الكماليين قد أمضوا أمر محو الدولة العثمانية من لوح الوجود، وجعْلها من قصص ألواح التاريخ، وأنهم انتخبوا عبد المجيد بن السلطان عبد العزيز خليفة على شرطهم، لا أمر له ولا نهي في حكومتهم، ولعلهم يستفيدون بذلك تخفيف ضغط الإنكليز عليهم، وشدة تأييد الروس لهم؛ فإنهما أشد الدول خوفًا من عاقبة سلطة الخلافة الدينية، الأولى تخاف على مستعمراتها الإسلامية، والثانية تخاف على دعوتها البلشفية، ولا ضرر على الإسلام فيما وقع؛ فالخلافة العثمانية كانت اسمية، فائدتها انتفاع الدولة العثمانية بنفوذها السياسي، فلتنتفع الدولة التركية الآن بإعلان التخلي عنه، إلى أن تقتنع ثانية بالانتفاع به، وليس من البعيد أن تقتنع في زمن قريب بوجوب إقامتها على حقها، وقيامها بكل ما يمكن من وظائفها: كإحياء الدعوة إلى الإسلام، ومقاومة تيار الإلحاد والابتداع، وإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وجباية الزكاة، وتوزيع الصدقات، وتلافي ضرر التفرق باختلاف المذاهب، والاجتهاد بجمع الكلمة على قواعد الإجماع، ووضع نظام للتعليم الديني والوعظ والإرشاد؛ حتى تعترف جميع الحكومات الإسلامية بها، وتأخذ التفويض بإقامة الدين، وتنفيذ الشرع من ممثلها، وطالما خطر في بالنا أنه يجب أن يكون لها ديوان خاص، مؤلَّف من عقلاء العلماء وأُولِي الاختصاص، المختارين من جميع المذاهب الإسلامية في الأقطار المتفرقة، ومن ممثلي حكوماتها المختلفة، وقد كاشفنا بهذا الرأي، مَن يعدون أَوْلَى أولي الأمر وأرباب الشأن، ولله الأمر من قبل ومن بعد.