للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإسلام دين العقل

كنا ولا نزال نصرح بأن دين الإسلام هو دين العقل وحجتنا الكتاب والسنة
وكلام الأئمة، ولكننا ابتلينا بمن يشكك المسلمين في دينهم وفي الدعاة إليه بإيهامهم
أن ما نقول ليس من الدين وأنه ضار به؛ ولأن الإسلام يجب أن يكون كسائر
الأديان التقليدية عدوًّا للعقل وأن بناءه على العقل مُؤذن بهدمه كغيره، وأنه لو كان
معقولاً لكان علمًا ولم يكن دينًا إلى غير ذلك من التشكيك، وإنما نأخذ ديننا عن الأدلة
العقلية والنقلية من كتاب ربنا لا عن المخالفين المشككين.
***
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ
الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ
وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا
كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الجاثية: ١-٨) .
فهذا كتاب الله يقيم الأدلة والبراهين مطالبًا بها أهل العقل باليقين في الإيمان؛
واليقين لا يكون إلا بالبرهان، ومعرفة الشيء ببرهانه هو أعلى العلم وأقواه، ولذلك
قال تعالى بعد آيات ذَكَرَ فيها أهل الكتاب: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الجاثية: ١٨) .
وقال بعد آية {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: ٢٠)
والبصائر جمع بصيرة وهي الحجة توصل إلى اليقين، ثم قال في الجاحدين
تقليدًا {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: ٢٤) فنفى عنهم العلم وبيّن أن الظن لا ينفع
في الدين، لأن المطلوب فيه علم اليقين، كما في سورة أخرى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ
إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: ٢٨)
تلك آيات من سورة قصيرة تدل على أن الإسلام دين العقل وأنه علم وأنه
يطلب فيه اليقين ولا يكتفى بالظن في الإيمان بأصوله كوحدانية الله تعالى وعلمه
وقدرته، وبعثة الأنبياء ورسالة خاتمهم عليه وعليهم السلام، وقد جاء في القرآن
كلمة (يعقلون) بالياء والتاء نحو خمسين مرة، وفيه ذكر العقل والعقلاء في الخطاب
وإقامة الآيات على الإيمان بغير هذا الحرف كالنُّهى واللّب فلفظ الألباب جاء في بضع
عشرة آية، لهذا كان العلم بالكون طريق الإيمان والإسلام، قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ
وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: ٢٧-٢٨)
فديننا ولله الحمد علم، وكل علمنا دين لأنه يزيدنا إيمانًا ومعرفة بالله سبحانه، وقد
ورد في الحديث (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، وأما قول
المشككين إن العلم محصور في المحسوسات فكل ما لا تحس به لا يقال في عرف
الفلاسفة إنك عالم به فهو من المغالطة أو الجهل فإنه لا علم يعتصم باليقين كعلم
الرياضيات وبراهينها معقولة غير محسوسة.
* * *
(تعارض الدليل العقلي مع الدليل النقلي)
ذكرنا في المنار غير مرة أن الذي عليه المسلمون اليوم من أهل السنة وغيرهم
من الفِرَق المعتد بإسلامها أن الدليل العقلي القطعي إذا جاء في ظاهر الشرع ما
يخالفه فالعمل بالدليل العقلي متعين، ولنا في النقل التأويل أو التفويض وهذه
المسألة مذكورة في كتب العقائد التي تُدَرَّس في الأزهر وغيره من المدارس
الإسلامية في كل الأقطار كقول الجوهرة:
وكل نصّ أوهم التشبيها ... أوّلْه أو فوّضْ ورُمْ تنزيها
قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) عند ذكر التأويل: (إنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع
العقلي والظاهر السمعي؛ فإما أن يصدقهما وهو محال لأنه إبطال للنقيضين،
وإما أن يكذب القاطع العقلي ويرجح الظاهر السمعي وذلك يوجب تطرق الطعن في
الدلائل العقلية، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوة والقرآن، وترجيح الدليل
السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معًا، فلم يبق إلا أن يُقطع
بصحة الدلائل العقلية ويحمل الظاهر السمعي على التأويل) اهـ ثم إنه أقام الدليل
بهذا الوجه على المعتزلة في مسألة التكليف لأنهم يتفقون مع أهل السنة فيه.
هذه المسألة مشهورة عند علماء المسلمين لا تحتاج إلى تأييدها بنقول ولكن
فشت بيننا في هذا العصر مطبوعات المشككين في الدين؛ فإذا نقل المسلم عبارة من
أصول دينه يقولون: إن هذا من عنده ولا يبعد أن يوجد من الجاهلين من يغتر
بأقوالهم، وقد تقدم في مقالات (الإسلام والنصرانية) أن الأصل الثاني للإسلام
تقديم العقل على النقل عند التعارض، وهذا دليله من القرآن ومن كلام بعض الأئمة
ولو أردنا سرد النقول من المواقف والمقاصد وسائر كتب الكلام والتفسير ومن كتب
المتأخرين كحواشي الباجوري والرسالة الحميدية لأطلنا الكلام في معنى واحد.
* * *
(الشكوك في المسألة)
فإن قيل: إن الإمام الغزالي بعد أن أظهر تهافت الفلاسفة في أدلتهم النظرية في
علم الله تعالى قال: (فإذن ليس ينفك فريق منهم عن خزي في مذهبه وهكذا يفعل
الله بمن ضل عن سبيله، وظن أن الأمور الإلهية يستولي على كنهها بنظره وتخيله)
فهل يدل هذا القول على أن الدين غير مقبول أم لا؟
فالجواب: أنه ليس من مقتضى الدين ولا من مقتضى الفلسفة الوقوف على
كُنْه الخالق وحقيقته، وكُنْه صفات البارئ وحقيقتها، وإذا عجز الحكماء والعلماء
عن معرفة كُنْه الأجسام المشاهدة فكيف يطمع الطامعون بمعرفة كُنْه خالق الأجسام
بأدلة نظرية وتخيلات شعرية؟! هذا شيء لم يكلفنا به الدين، فيكون قول الغزالي
بإنكاره على الفلاسفة دليلاً على أن الإسلام يكلف الناس بغير المعقول كما يزعم
المشكك.
ومثل هذا قوله في هذا البحث (بحث العلم الإلهي) مخاطبًا للفلاسفة بعد
إظهار عجزهم وتهافتهم: (المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور
بالبراهين القطعية وتشكيككم في دعاويكم، وإذا ظهر عجزكم ففي الناس من يذهب إلى
أن حقائق الأمور الإلهية لا تُنال بنظر العقل بل ليس في قوة البشر الاطلاع عليها
ولذلك قال صاحب الشرع صلوات الله عليه: (تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في
ذات الله) اهـ.
فهذه الجملة من الإمام الغزالي كالجملة السابقة خاصة ببيان عجز البشر عن
إدراك حقيقة البارئ وحقائق صفاته.
وقد مرت القرون والأجيال وستمر قرون وأجيال أخرى إلى أن ينقضي عمر
البشر ولا يصلون إلى معرفة حقيقة الله وحقيقة علمه وسائر صفاته، وهكذا
قال صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) قال (ص٥٤٤ من
المنار) : لا بد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين، على سنة القرآن والذكر
الحكيم؛ ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه، (تفكروا في خلق الله ولا
تفكروا في ذات الله) وعند ذلك يكون الله قد أتم دينه ولو كره الكافرون، وتبعهم
الجامدون القانطون (فكلام الإمام الغزالي وكلام هذا الإمام واحد لا فرق بينهما، ولو
كان الإسلام كلفنا بأن نعرف كنه ذات الله تعالى وكنه صفاته لكان مكلفًا لنا بما لا يُعقل ولا يستطاع ولكن الله يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) .
هذا وإن الإمام الغزالي لم يقصد بكتاب (تهافت الفلاسفة) الذي نقلنا منه تينك
الجملتين بيان القواعد الإسلامية، وإنما قصد بيان فساد نظريات الفلاسفة في الأمور
الإلهية وقد يُدفع الفاسد بالفاسد ولذلك قال قبل الجملة الثانية بأسطر (ص٤٥) :
(نحن لم نخص في هذا الكتاب خوض الممهدين، بل خوض الهادمين المعترضين،
ولذلك سمينا الكتاب (تهافت الفلاسفة) لا (تمهيد الحق) فلا يصح أن يؤخذ من هذا
الكتاب مذهبه في العقائد ولا في غيرها كما نبهنا على ذلك في مقالة الأسباب
والمسببات في الجزء التاسع عشر والعشرين، وإنما يؤخذ مذهبه من كتبه في العقائد
والأصول وهو فيها موافق لسائر أئمة السنة من أن العقل أصل الإسلام، وأن
براهينه القطعية لا ترد فإن قيل: قد علمنا أن أئمة المسلمين في العقائد والأصول لم
يختلفوا في أن دين الإسلام هو دين العقل، فهل تعلم أن الفلاسفة الإسلاميين خرجوا
عن هذا الأصل وفصلوا بين العقل والدين؟ فالجواب: كلا، إن الفلاسفة أحرص
على التوفيق بين العقل والشرع من غيرهم، وقد ألف فيلسوف الإسلام أبو الوليد بن
رشد - رحمه الله تعالى - كتابًا في هذه المسألة أثبت فيها ما أثبته أهل السنة من
قبله، ذلك الكتاب هو (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) ففي
هذا الكتاب أثبت أن الشرع الإسلامي أَوْجَبَ النظر بالعقل وجعله أساسًا للعقائد ثم
قال (في ص ٨) ما نصه:
(وإذا كانت هذه الشرائع حقًا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق؛ فإنا
معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النص البرهاني إلى مخالفة ما ورد به
الشرع، فإن الحق لا يبطل الحق، بل يوافقه ويشهد به، وإذ كان هذا هكذا فإن أدى
النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون
قد سكت عنه في الشرع أو ورد به، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارُض هناك وهو
بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي، وإن كانت
الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو
مخالفًا، فإن كان موافقًا فلا قول هناك، وإن كان مخالفًا طلب هناك تأويله.
ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية
من غير أن يخلّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه
أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عهدت في تعريف
أصناف الكلام المجازي، وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية
فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان، فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني
والعارف عنده قياس يقيني.
ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن
ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها
مسلم ولا يرتاب فيها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى
وجرّبه، وقصد من الجمع المعقولَ والمنقول، بل نقول إنه ما من منطوق به في
الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان إلا إذا اعتُبِرَ الشرع وتُصُفّحت سائرُ
أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد،
ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على
ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل) اهـ المراد منه بحروفه.
نقول: الله أكبر، لمع الحق وبهر، وظهر أن علماء المسلمين متكلميهم
وفلاسفتهم ومفسريهم وفقهاءهم لم يختلفوا في أن الإسلام دين العقل، على العقل بُني
شرعه، والعقل هو المخاطب به (لا القلب وحده) ، وظهر أن ما قاله ذلك الإمام
في مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) في تعارض الأدلة العقلية
والنقلية، هو المُجتمَع عليه في المِلَّة الحنيفية، وهذا ما يدعو إليه المنار جهارًا،
وكبر على أعداء الإسلام فمكروا مكرًا كبارًا، ولن يجدوا لهم من دون الله أنصارًا.
فإن قيل: إن لابن رشد كلامًا آخر في (تهافت التهافت) يشبه أن يكون مخالفًا
لقوله هنا كقوله: (الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع فإن أدركته استوى
الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني،
وأن يدركه الشرع فقط كقوله: (أما الكلام في المعجزات فليس فيه للقدماء من
الفلاسفة قول؛ لأن هذه كانت عندهم من الأشياء التي لا يجب أن يتعرض للفحص
عنها وتجعل مسائل، فإنها مبادئ الشرائع، والفاحص عنها أو المشكك فيها يحتاج إلى
عقوبة عندهم مثل من يفحص عن سائر مبادئ الشرائع العامة مثل هل الله تعالى
موجود؟ وهل السعادة موجودة؟ وهل الفضائل موجودة؟ وإنه لا يشك في
وجودها، وإن كيفية وجودها هو أمر إلهي معجز عن إدراك العقول الإنسانية،
والعلة في ذلك أن هذه هي مبادئ الأعمال التي يكون بها الإنسان فاضلاً ولا سبيل
إلى حصول العلم إلا بعد حصول الفضيلة، فوجب أن لا يتعرض للفحص عن
المبادئ التي توجب الفضيلة قبل حصول الفضيلة، وإذا كانت الصنائع العملية لا
تتم إلا بأوضاع ومصادرات يسلمها المتعلم أولاً فأحرى أن يكون ذلك في الأمور
العلمية) اهـ بحروفه.
فالجواب أن هذا الكلام لا ينافي ذاك ولا يخالفه، بل هو مؤيد لقوله الأول
ولقول جميع أئمة المسلمين من السابقين عنه واللاحقين به إلى صاحب مقالات
(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ولو فرضنا أن بين القولين مخالفة لكان
الواجب اعتبار الأول لأنه مُبَيِّن لمذهبه واعتقاده هو وسائر المسلمين على سبيل
القطع، وأما قوله هنا فهو حكاية عن الفلاسفة الأولين، ولا يضرنا مخالفتهم لنا
مادمنا واثقين بأننا على الحق المؤيَّد بالبرهان، على أن ابن رشد يقول هنا: إن
الفلاسفة الأولين لا يعارضوننا في هذه المسائل - أي أن مقتضى مذهبهم ذلك - وإلا
فقد صرح بأن ليس لهم كلام في هذه المسائل، أي التي ذكرها فالخلاف بينه وبين
الغزالي في هذا المقام محصور في نقل إنكار الفلاسفة في المِلِّيين مسألةَ المعجزات
ومبادئ الفضائل فالغزالي يسنده إليهم على الإطلاق، وابن رشد يقول: إنه لم يبحث
ذلك إلا ابن سينا والخطب سهل.
أما الوفاق فإنك تراه بُديًّا يتكلم عن رأي الفلاسفة في الأديان ومبادئها لا في
الإسلام الذي هو أَرْقَاها وهو مع ذلك يعترف بأمور لا تجعل الدين (المطلق) فوق
العقل، بمعنى أن فيه ما يُحيله العقلُ ويقطع بعدم صحته (منها) أن ما لا تدركه
الفلسفة بنظرياتها فهو دليل على أن العقل الإنساني قاصرٌ عن الوصول إليه بنفسه
فهو محتاج فيه إلى إرشاد الشرع، ولا شك أن العقل الإنساني قاصر حتى اليوم عن
إدراك كل ما بين يديه؛ فهو يستخدم الكهرباء وينتفع بها ولا يعرف حقيقتها فكيف
يعرف أمور الآخرة والنشأة الثانية؟
وليس معنى قولنا: إن دين الإسلام معقول أن كل مسائله يمكن أن تعرف
بالعقل استقلالاً بل معناه أنه ليس فيه شيء يحكم العقل باستحالته ككون الواحد ثلاثة
والثلاثة واحدًا، وكون الإله يتّحِد بالبشر، ولولا أن هذا هو المراد لكان العقل يستقل
بوضع الدين ولا يحتاج فيه إلى الوحي.
و (منها) قوله: إن مبادئ الدين كالمعجزات أمور موجودة لا يُشك في
وجودها، والموجود لا يكون محالاً لأن المحال لا يقبل الوجود، وقوله عنهم: إن
كيفية وجود أمر إلهي تعجز عن إدراكه العقول الإنسانية؛ لا يستلزم أن الدين غير
معقول أو أن فيه شيئًا محالاً في نظر العقل؛ لأن هذه الموجودات التي نحس بها ولا
نشك فيها قد عجزت عقولنا عن معرفة كيفية إيجادها؛ فعجزها عن معرفة كيفية
وجود المعجزات أَوْلى، ويسهل على كل عاقل أن يميز بين ما هو مستحيل لا
يتصور العقل وجوده، وبين ما لا يشك في وجوده لكنه لم يصل إلى معرفة كيفية
حدوث هذا الوجود.
و (منها) أن هذه المبادئ الدينية الموجودة الثابتة يجب أن تؤخذ بالتسليم
والتقليد للشرع (لا لآراء الناس) من غير أن نسلط النظريات الفلسفية على البحث
في إمكانها، وفي كيفية وجودها؛ لأن هذا البحث سفه وضارٌّ، وأي سفه وضرر
أكبر من التشكيك في شيء موجود نافع للناس لصدِّهم عن الانتفاع به بنظريات لا
قيمة لها، أي سفه أكبر من سفه من كان يماري بالموجود الثابت بالمشاهدة أو
التواتر (كالمعجزات) أو يُلْزم الإنسانَ بأن لا يسلك طريق الفضيلة حتى يبحث
بالدلائل النظرية الفكرية في إمكانها وفي كيفية حصولها، وهو يرى ويشاهد أنها
تحصل بالفعل، وأن طريق حصولها هو العمل لا النظريات الفكرية؟ ‍‍‍‍‍‍‍!
وما أحسنَ ما أورده الفيلسوف في هذا المقام أيضًا وهو:
وأما ما نسبه (أي ما نسبه الغزالي إلى الفلاسفة) من الاعتراض على معجزة
إبراهيم عليه السلام فشيء لم يقله إلا الزنادقة من أهل الإسلام، فإن الحكماء من
الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل في مبادئ الشرائع، وفاعل ذلك عندهم
محتاج إلى الأدب الشديد، وذلك أنه لما كانت كل صناعة لها مبادئ وواجب على
الناظر في تلك الصناعة أن يسلم مبادئها ولا يتعرض لها بنفي ولا إبطال كانت
الصناعة الشرعية هي أحرى بذلك لأن المشي على الفضائل الشرعية هو ضروري
عندهم ليس في وجود الإنسان بما هو إنسان بل وبما هو إنسان عالم، ولذلك
يجب على كل إنسان أن يسلم مبادءها الشريعة وأن يقلد فيها ولا بد من هذا الوضع
لها، فإن جحدها والمناظرة فيها مبطلان لوجود الإنسان ولذلك وجب قتل الزنادقة،
فالذي يجب أن يقال فيها أن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية فلا بد أن
يعترف بها مع جهل أسبابها ولذلك لا تجد أحدًا من القدماء تكلم عن المعجزات مع
انتشارها وظهورها في العالم؛ لأنها مبادئ تثبيت الشرائع، والشرائع مبادئ
الفضائل، ولا فيما يقال فيها بعد الموت، فإذا نشأ الإنسان على الفضائل
الشرعية كان فاضلاً بإطلاق، فإن تمادى به الزمان والسعادة إلى أن يكون من
العلماء الراسخين في العلم فعرض له تأويل في مبدأ من المبادئ فيجب عليه أن لا
يصرح بذلك التأويل، وأن يقول فيه كما قال الله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (آل عمران: ٧) ، هذه حدود الشرائع وحدود العلماء) اهـ
بحروفه من (ص ١٢٩) .
حقًا أقول: إن هذا ما يصح أن يسند إلى الحكماء العقلاء، وإننا نوضحه
بمثال آخر طالما ذكرناه في مباحثنا مع الإخوان وهو أن الطب علم قد ثبتت فائدته
للناس بالتجربة والمشاهدة، فمن الحماقة وسفه الرأي أن يقال للمريض عليك أن لا
تقبل من الطبيب علاجًا حتى تبحث أولاً عن مبادئ الطب وتثبت بالأدلة النظرية أنه
نافع ومفيد، ثم تعرف الدواء الذي يصفه لك الطبيب ما هو وما نسبة بعض أجزائه
إلى بعض وكيف يؤثر في مقاومة المرض، وما الدليل العقلي على تأثيره، وما أشبه
ذلك.
كذلك يكون أفين الرأي من يقول للناس عليكم أن تبحثوا قبل الإيمان عن أسباب
المعجزة الثابتة التي رأيتموها أو نقلت إليكم بالتواتر حتى كأنكم كنتم حاضريها،
كيف أوجدها الله تعالى ثم تبحثوا أيضًا عن كل ما جاء في الشرع لتعلموا بالدليل
النظري لِمَ كان كذلك، وكيف كان وبعد ذلك كله آمِنُوا إذا عرفتم كل المسائل بالدليل
النظري، ولا تؤمنوا إذا لم تعرفوها.
يفتك المرض بمريض الجسد حتى يكون حَرَضًا أو يكون من الهالكين، ولا
يقدر أن يقف على دقائق الطب بالنظر والتجربة، وكذلك تفتك الرذائل والعقائد
الباطلة بمريض النفس فتجعله مصيبة على نفسه وعلى الناس، ولا يصل بالنظر
إلى هذه الكيفيات، فبقي أن الصواب ما قرره الإسلام وهو أن النظر واجب في
الأصول التي تَثْبت بها معرفة الله تعالى وصحة النبوة، ومتى اعتقدنا بقدرة الله
وإرادته وعلوه، وكونه أَوْحَى إلى بعض عبيده وألهمهم إرادة الناس إلى ما يسعدهم
في حياتهم الأخرى فإنه يسهل علينا أن نسلم بكل ما يقول المُوحَى إليهم (الأنبياء
عليهم السلام) تسليمًا، فإن وجدنا فيه شيئًا يخالف ظاهره الدليل العقلي القطعي نرده
إليه بالتأويل أو نفوض الأمر فيه إلى الله مع الأخذ بالدليل العقلي، هذا ما أجمع
عليه أئمة المسلمين كما تقدم وهو كافٍ في كون الإسلام دين العقل؛ لأن المسلم لا
يترك الدليل العقلي القاطع بحال من الأحوال.
وقد أحسن ابن رشد في رأيه أن لا تنشر التأويلات التي تظهر للراسخين في
العلم بل تبقى خاصة بأهلها فلا تكون سببًا لفتح باب الجدل على العامة فيما لا تصل
إليه أفهامهم من حقائق العلوم، والجدل مدعاة الشكوك ولذلك يجب تأديب المشككين
والإعراض عن المجادلين.
* * *
ارتقاء الأديان، وختمها بالإسلام
جاء في (رسالة التوحيد) للأستاذ الإمام ما نصه:
جاءت أديان والناس في فهم مصالحهم العامة بل والخاصة في طور أشبه
بطور الطفولية للناشئ الحديث العهد بالوجود لا يألف منه إلا ما وقع تحت حِسه،
ويصعب عليه أن يضع الميزان بين يومه وأمسه، وأن يتناول من المعاني ما لا
يَقرب من لمسه، ولم يَنْفُثْ في روعه من الوجدان الباطن ما يعطفه على غيره من
عشيرة أو ابن جنسه، فهو من الحرص على ما يقيم بناء شخصه في هَمّ شاغل عما
يُلْقَى إليه فيما يصله بغيره، اللهم إلا يدًا إلى فمه بطعام؛ أو تسنده في قعود أو قيام،
فلم يكن من حكمة تلك الأديان، أن تخاطب الناس بما يَلْطُفُ في الوجدان؛ أو يُرْقى
إليه بسلم البرهان، بل كان من عظيم الرحمة أن تسير بالأقوام وهم عيال الله سَيْر
الوالد مع ولده في سذاجة السن لا يأتيه إلا من قِبَل ما يُحِسّه بسمعه أو ببصره،
فَأَخَذَتْهُمْ بالأوامر الصادعة، والزواجر الرادعة، وطالبتهم بالطاعة، وحملَتهم فيها
على مبلغ الاستطاعة، كلفتهم بمعقول المعنى جليّ الغاية، وإن لم يفهموا معناه، ولم
تصل مداركهم إلى مرماه، وجاءتهم من الآيات بما تطرف له عيونهم؛ وتنفعل به
مشاعرهم، وفرضت عليهم من العبادات ما يليق بحالهم هذه [١] .
ثم مضت على ذلك أزمان عَلَتْ فيها الأقوام وسقطت، وارتفعت، وجرّبَتْ
وكسبت، وتخالفت واتفقت، وذاقت من الأيام آلامًا، وتقلبت في السعادة والشقاء
أيامًا وأياما؛ ووَجدَتْ الأنفُس بنفث الحوادث؛ ولقن الكوارث، شعورًا أدقّ من
الحس وأَدْخَل من الوجدان؛ لا يرتفع في الجملة عمّا تشعر به قلوب النساء أو تذهب
معه نزعات الغلمان؛ فجاء دين يخاطب العواطف، ويناجي المراحم، ويستعطف
الأهواء، ويحادث خطرات القلوب، فشرّع للناس من شرائع الزهادة ما يصرفهم
عن الدنيا بجملتها ويوجه وجوههم نحو الملكوت الأعلى، ويقتضي من صاحب
الحق أن لا يطالب به ولو بحق، ويغلق أبواب السماء في وجوه الأغنياء؛ وما ينحو
نحو هذا مما هو معروف، وسَنَّ للناس سننًا في عبادة الله تتفق مع ما كانوا عليه،
وما دعاهم إليه؛ فلاقى مِن تعلُّق الناس بدعوته ما أصلح من فاسدها،
ثم لم يمض عليه بضعة أجيال حتى ضعفت العزائم البشرية عن احتماله،
وضاقت الذرائع عن الوقوف عند حدوده والأخذ بأقواله، ووقر في الظنون أن اتباع
وصاياه ضرب من المُحال، فهب القائمون عليه أنفُسُهم لمنافسة الملوك في السلطان،
ومزاحمة أهل الترف في جمع الأموال، وانحرف الجمهور الأعظم منهم عن
جادّته بالتأويل، وأضافوا إليه ما شاء الهوى من الأباطيل، هذا كان شأنهم في
السجايا - نسوا طهارته، وباعوا نزاهته، أما في العقائد فتفرقوا شيعًا، وأحدثوا
بدعًا، ولم يستمسكوا من أصوله إلا بما ظنوه من أشد أركانها، وتوهموه من أَقْوَى دعائمها؛ وهو حرمان العقول من النظر فيه وفي غيره من دقائق الأكوان،
والحظر على الأفكار أن تَنْفذ إلى شيء من سرائر الخلقة، فصرحوا بأن لا وفاق
بين الدين والعقل؛ وأن الدين من أشد أعداء العلم، ولم يَكُفَّ الذاهب إلى ذلك أن يأخذ به نفسه، بل جدّ في حمل الناس على مذهبه بكل ما يملك من حول وقوة،
وأفضى الغلو في ذلك بالأنفس إلى نزعة كانت أشأم النزعات على العالَم الإنساني
وهي نزعة الحرب بين أهل الدين للإلزام ببعض قضايا الدين، فتقوّض الأصل؛
وتحرّمت العلائق بين الأهل، حلت القطيعة محل التراحم، والتخاصم مكان
التعاون، والحرب محل السلام؛ وكان الناس على ذلك إلى أن جاء دين
الإسلام [*] .
كان سَن الاجتماع البشري قد بلغ بالإنسان أَشُدَّه، وأعادته الحوادث الماضية
إلى رشده؛ فجاء الإسلام يخاطب العقل؛ ويستصرخ الفهم واللُّب؛ ويشركه مع
العواطف والإحساس في إرشاد الإنسان إلى سعادته الدنيوية والأخروية، وبيَّن للناس
ما اختلفوا فيه، وكشف لهم عن وجه ما اختصموا عليه، وبرهن على أن دين الله
في جميع الأجيال واحد، ومشيئته في إصلاح شئونهم وتطهير قلوبهم واحدة، وأن
رسم العبادة على الأشباح، إنما هو لتجديد الذكرى في الأرواح، وإن كان لا ينظر
إلى الصور ولكن ينظر إلى القلوب، وطالب المكلَّف برعاية جسده كما طالبه
بإصلاح سره، ففرض نظافة الظاهر كما أوجب طهارة الباطن، وعدّ كِلا الأمرين
طهرًا مطلوبًا، وجعل روح العبادة الإخلاص، وأن ما فُرض من الأعمال إنما هو
لما أوجب من التطبع بطاهر الملكات: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر} (العنكبوت: ٤٥) ، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ
الخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ المُصَلِّينَ} (المعارج: ١٩-٢٢) ورفع الغنيّ الشاكر إلى مرتبة
الفقير الصابر، بل ربما فضله عليه، وعامل الإنسان في مواعظه معاملة الناصح
الهادي للرجل الرشيد، فدعاه إلى استعمال جميع قواه الظاهرة والباطنة؛ وصرح
بما لا يقبل التأويل أن في ذلك رضاء الله وشكر نعمته، وأن الدنيا مزرعة الآخرة،
ولا وصول إلى خير العُقبى إلا بالسعي في إصلاح الدنيا.
(ثم قال) : (كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من
حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان) فقرَّر أن آيات ألله الكُبر في
صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية التي قدَّرها الله في علمه الأزلي لا
يغيرها شيء من الطوارئ الجزئية، غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها، بل
ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها، فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك
فاذكروا الله) [٢] وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا
يقضي فيه إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها.
ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم
والمصائب التي يرزؤن بها، ففصل بين الأمرين فصلاً محكمًا، ثم بعد أن ذكر حال
الأفراد وأن ما يصيبهم قد يكون بكسبهم وقد يكون بغير ذلك قال: (أما شأن الأمم
فليس على ذلك فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية من تصحيح الفكر
وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامح الشهوات، والدخول إلى كل أمر
من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة،
والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل
ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة)
{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} (آل عمران: ١٤٥) ، ولن يسلب الله نعمته ما
دام هذا الروح فيها، يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه، حتى إذا فارقها ذهبت
السعادة على أثره، وتبعتها الراحة إلى مقرِّه، واستبدل الله عزة القوم بالذل، وكثرتهم
بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط الله عليهم الظالمين أو العادلين
فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: ١٦) أمرناهم بالحق ففسقوا عنه
إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور
الأعمال ولا يستجاب منهم الدعاء، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجؤوا إلى ذلك
الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة برسل الفكر والذكر والصبر والشكر {إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) - {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) ، وما أجلَّ ما قاله
العباس بن عبد المطلب في استسقائه: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع
إلا بتوبة) على هذه السنن جرى سلف الأمة فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد
السامية ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة، كان غيره يظن أنه يزلزل
الأرض بدعائه، ويشق الفلك ببكائه، وهو ولع بأهوائه، ماض في غلوائه، وما كان
يغني عنه ظنه من الحق شيئًا) اهـ المراد هنا من رسالة التوحيد.
* * *
تشبيه التعليم الديني بتعليم المدارس
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد التي طُبعت سنة ١٣١٥ وقرر
مجلس إدارة الأزهر تدريسها رسميًا في الجامع الأزهر، ومعلوم أن رئيس هذا
المجلس هو شيخ الجامع فهو مع سائر العلماء أعضاء المجلس بل وسائر علماء
الأزهر متفقون على ما في هذه الرسالة، ومما تقدم عنها يُعلم معنى كون دين
الإسلام هو دين العقل، والقرآن يشهد بهذا في عشرات ومئات من الآيات، ويُعلم
أيضًا أن المسلمين يعتقدون بحقيقة الديانة المسيحية وكونها جاءت إصلاحًا للناس
ولكن إلى أجل محدود قد انتهى واستُغْنِيَ عنه بالدين الأخير.
تقدم أن دين الله واحد {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: ٢٨٥) وأن
خطاب الوحي كان يختلف باختلاف استعداد الناس؛ فالشريعة المُوسَوية وما شاكلها
مما كان قبلها ودرَس كالمدرسة الابتدائية، والديانةُ المسيحية كالمدرسة التجهيزية،
والديانة الإسلامية كالمدرسة العالية التي هي التعليم الأخير. وهذا لا يتضمن
انتقاص اليهودية والمسيحية، كما أن وجود المدارس العالية لا يقتضي انتقاص
المدرسة الأولى أو الثانية لأن كلا منهما لا بد منه والغرض من الجميع واحد، ولا
تنس أن التشبيه بالنسبة إلى مجموع البشر في الجملة، فلا يقال ينبغي أن يكون كل
فرد من الناس يهوديًا ثم نصرانيًا ثم مسلمًا، وهذا الذي قلناه مؤيَّد بما أرشد إليه العلم
الصحيح من سنة الارتقاء البشري وقد جرى الناس على ذلك بحكم تلك السنة فدخل
الملايين من اليهود والنصارى في الإسلام أفواجًا وكانوا في ذلك كمن انتقل من
مدرسة إلى مدرسة أعلى منها، ولولا الرؤساء الذين جعلوا الدين تقليديًا وجعلوا
عليه سياجًا من القوة الحسية والوهمية، ولولا الطوارئ التي طرأت على سير
الإسلام بواسطة الرؤساء من الملوك والأمراء، وفتنتهم للعلماء والفقهاء، لما بقي
للأديان الأولى من الأتباع ما يكونون به أمما كبيرة.