للأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء: قد اتفق لي أن لم أقرأ كلمة الأستاذ كامل البهنساوي بجريدة السياسة الغراء تحت عنوان (الإجرام) في عددها الصادر يوم ١٤ من جمادى الأولى سنة ١٣٤٦ ولكن لفت نظري بعض الذين يغارون على الإسلام ويعلمون أن مبادئه من أسمى المبادئ لنظام المجتمع. قرأتها فإذا الأستاذ فيها يبين أن نظر المجتمع إلى العقوبة على الإجرام قد أخذ في تاريخ البشر تطورات أربعة، فكان نظر المجتمع في عهد الإنسان الأول إلى المجرم نظر انتقام ثم تطور إلى (نظر قمع) ثم تطور إلى (نظر إصلاح المجرم) ثم تطور إلى (منع المجرم من الإجرام) وهذه النظرية الأخيرة هي أحدث النظريات وأعجبها للكاتب. بدأ الكاتب الكلام في نظرية الانتقام بهذه العبارة (كانت نظرية الانتقام التي أقرتها الديانة الإسلامية والتي أساسها (السن بالسن والعين بالعين) هو صورة واضحة من نظرية الانتقام التي كان يعامل المجرم بناء عليها، والتي أصبحت لا تصلح مطلقًا لهذا الزمن) إن الناظر في هذه العبارة يُخَيَّل إليه أن الكاتب كان قرمًا إلى أن يطعن تعاليم الإسلام السامية إذ لم يذكر في عبارته سوى الديانة الإسلامية مع أنها كغيرها من الديانات في تقرير العقوبات فقد نص القرآن على أن عقوبة السن بالسن والعين بالعين كانت من تعاليم التوراة، وكأنما كان أول ما يهتم له الكاتب أن يبين كون تشريع الإسلام غير صالح لهذا الزمن الذي لطفت فيه العواطف ورقت فيه البشرة فأصبح المجرم بحكم العصر لا يحتمل أن يؤلم ولا يحتمل أن تمس كرامته: ولو أتيح للكاتب وقلمه بين أنامله وقد جلس جلسة المتعقب للشارع الحكيم أن ينظر فيما شرعه الإسلام من عقوبة نظرة الباحث عن الحقيقة لما وقع في ذلك الخطأ، خطأ الحكم بأن ما شرعه الإسلام لتأديب المجرمين قد جارى فيه نظرية الانتقام وأصبح غير صالح لهذا الزمن. وقبل أن أبين للكاتب أن نظرية الإصلاح ونظرية المنع اللتين قد افتتن بهما الكاتب قد وضعهما الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف على أحسن وضع وأكفله لنظام البشر قبل أن يقررها (جورنج) و (المدرسة الفرنسية الحديثة) قبل أن أبين للكاتب هذا فإني مُنَاقِشُهُ في أن تشريع الإسلام في العقوبات قد جاء على (وفق نظرية الانتقام) التي أصبحت غير صالحة لهذا الزمن. إن الكاتب نفسه في الكلام على نظرية الانتقام قد ذكر أنه كان من أنواع العقوبات في طور الانتقام أن يصير الجاني رقيقًا للمجني عليه، وكان منها الغلي في الزيت وقتله جوعًا وحرقه بالنار وقتله وإلقاؤه فيها، وفصل الأعضاء وقطعها، ثم ذكر الكاتب أنه لما تطورت نظرية الانتقام إلى (نظرية القمع) وخفت وحشية الإنسان شيئًا أصبح الموت عقوبة على كل جريمة حتى كانت إنكلترا في القرون الوسطى تعاقب على أكثر الجرائم بالموت، فكانت تعاقب بالموت على السرقة والتزييف، وذكر الكاتب زيادة على ذلك أن ذكاء الإنسان في طور الانتقام كان منصرفًا إلى اختراع وسائل التعذيب التي كانت يطول معها خروج الروح. ذكر الكاتب كل ذلك، ثم هو مع هذا يزعم أن الإسلام جاء مقررًا (نظرية الانتقام) وإن الإسلام لبريء مما يرميه الكاتب وإليه أسوق تشريع الإسلام وما أقره وما لم يقرره حتى يتبين الضلال من الهدى. ما جعل الإسلام الاسترقاق عقوبة على جريمة ولا جعل كذلك الغلي في الزيت عقوبة على جريمة، ولا جعل الإسلام الحرق بالنار أو الإلقاء فيها، أو القتل جوعًا عقوبة على جريمة، بل حظر كل ذلك حظرًا شديدًا، نعم القتل من العقوبات التي شرعها الإسلام، لكن يجب أن يلتفت القارئ إلى أنه لم يكن عقوبة على كل جريمة كما ذكر الكاتب أنه كان كذلك في طور القمع، بل إنما كان عقوبة على جريمتين فقط جريمة القتل وجريمة الزنا من المتزوج. وقد كان يصح أن يغمز الإسلام في تشريعه لعقوبة القتل على جريمة القتل أن لو لم يرسم خطة الإصلاح والمنع المفتون بهما الكاتب، ولكن سأبين لحضرته كيف أحكم الإسلام وضع هاتين الخطتين بحيث لو ترسمهما المجتمع ما كنت تسمع بالإجرام إلا كما تسمع بحوادث الزلزال أو انفجار البراكين، وما شرع الإسلام عقوبة القتل على القتل، وأرسلها إرسالاً كما كان الشأن في طور الانتقام، بل حاطها باعتبارات تبعد بها المراحل عن دائرة الانتقام، وتتنحى بالمجرم عن مخالب ولي الدم حتى لا تتمكن من إيقاع ما يشفي به نفسه من المجرم. فترى الإسلام أولاً: حرم التمثيل بالمجرم وأوجب الإحسان في القتل بأن يسلك أسرع الوسائل إزهاقًا للروح، لا كما كان الشأن في عهد الانتقام الذي (كان يتفنن الذكاء الإنساني في تهيئة وسائل التعذيب والانتقام التي يعذب بها الجسد ويطول معها إخراج الروح) اسمع إن شئت قول الرسول الكريم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة) . وترى الإسلام ثانيًا: حرَّم على ولي الدم وهو يكاد يتميز من الغيظ أن يتولى عقوبة القاتل بنفسه ابتعادًا بالمجرم عما عساه أن يندفع إليه ولي الدم من إسراف في القتل، بل أوجب على ولي الدم أن يرفع الأمر إلى الحاكم حتى يتولى بنفسه إثبات الجريمة وإيقاع عقوبتها فأضعف بذلك سلطان ولي الدم على المجرم، ثم جاء من جهة ثانية وأضعف سلطان الحاكم عليه بما جعله لولي الدم من حق العفو عن المجرم إلى العقوبة المالية (الدية) وأوجب على الحاكم قبول ذلك العفو وإعفاء المجرم من القتل، فهل ينتظر حضرة الكاتب تخفيفًا عن المجرم ولطفًا به وراء ذلك؟ وترى الإسلام ثالثًا: قد ندب الحكام إلى المبالغة في التحقق من ارتكاب الجريمة بحيث تنزاح أمامهم جميع الشُّبَه حتى لو حام حوالي الإجرام أضعف شبهة، وجب أن يدرأ الحد عن المجرم، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فهل ترى بعد هذه الاعتبارات أن هذه العقوبة انتقامٌ؟ المجرم قد فعل بالمقتول ما أمكنته منه الفرصة تعذيبًا وتمثيلاً ولكن الشارع قد حاطه بكل ما أمكن من مظاهر الإحسان والتخفيف. وبعد فليدع الكاتب كل هذه الاعتبارات وليُحَكِّم هو عواطفه في شأن النفس التي لم تؤثر فيها وسائل الإصلاح ولم تُعِقْهَا وسائل المنع، بل أقدمت بعد هذه وتلك على إزهاق نفس بشرية عمدًا بغير ذنب ولا جريمة، أفيستحق هذا المجرم في نظر الكاتب أن يعطف عليه ويوصف بأنه بائس ومسكين، وهلا كان من عسى أن يتركه المقتول من أطفال وزوجة وشيوخ من آباء وأمهات أحناهم الدهر وقوستهم الأيام، هلا كان هؤلاء هم البؤساء والمساكين، وهلا استحق ذلك المجرم الذي كسر عصاهم التي كانوا يتكئون عليها وأطفأ مصباحهم الذي كانوا يستضيئون به وسد عليهم سبل الحياة هلا استحق هذا المجرم أن ننزل به عقوبة القتل حتى لا تتكرر منه أمثال تلك الجناية، وماذا عسى أن تمنعه من الإجرام والمفروض أنه لم تُجْدِهِ نظرية الإصلاح ولم تعقه نظرية المنع، أفلا تبقي على المجني عليه وعلى الجاني كذلك بإقامة تمثال العقوبة أمام عينيه، صدق الله العظيم {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: ١٧٩) ألا فليقتصد حضرة الكاتب في ترقيق عواطفه فلا تأخذه بمثل هذا المجرم رأفة فليس أوسع رحمة من رب العالمين. وأما الجريمة الثانية التي جعل الإسلام عقوبتها القتل وهي جريمة الزنا من المتزوج فأي جريمة هي وما كنهها؟ هي أن يتعدى الجاني على عفاف المرأة فيمزقه، وعلى عرضه فيخدشه وهو بذلك قد تصدى على كل رجل يمت إلى تلك المرأة بسبب قرابة فنزع عنه ثوب شرفه وتركهم سبة في الوسط الذي هم فيه فما هم برافعين بعد ذلك لهم رأسًا، وفي ذلك قتلهم الأدبي الذي هو أهون منه قتلهم الجسماني، ثم هو قد تعدى كذلك على قريباتها فنزع عنهم أردية الشرف والعفاف فحال بينهم وبين أن يتزوجن؛ إذ الناس يتخذون من تلك الحادثة مقياسًا لعفتهن فيتحرَّجون من زواجهن، وفي ذلك أي ضرر بهن، ذلك هو كنه الجريمة، فهل بعد ذلك يستحق ذلك المجرم أن يعطف عليه ويوصف بأنه البائس المسكين؟ ألم يكن أقرباؤها من الرجال والنساء هم البؤساء والمساكين. على أن الإسلام لم يجعل القتل عقوبة الزاني إلا إذا كان متزوجًا (حكمة بالغة) رأَى الشارع أنه إذا كانت قد توفرت أسباب منعه من ارتكاب تلك الجريمة، ثم هو لم يمتنع عنها فليس للمجتمع راحة وطمأنينة بغير تطهيره منه حتى لا يثلم شرف أسر أخرى، وواضح أن ليس في عقوبة الزاني بالقتل -مظهر للانتقام- إذ الجريمة خدش عرض وتسجيل عار والعقوبة قتل وإزهاق روح. بقى أن الإسلام قد جعل عقوبة المتعدي على جارحة من جوارح الإنسان أن يعاقب بإزالة مثل تلك الجارحة منه، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: ٤٥) ، قد يقال: إن مظهر الانتقام واضح في تلك العقوبة؛ إذ جعل مثلا العين بالعين والأنف بالأنف إلخ، ولكن إذا أتممت الآية قراءة وجدتها قد بعدت بتلك العقوبة عن دائرة الانتقام بعدًا شاسعًا؛ إذ ندبت المجني عليه إلى العفو عن أخيه حيث تقول: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} (المائدة: ٤٥) فتراها للمبالغة في ترغيب المجني عليه في العفو عبَّرت عنه بالتصدق ووعدت عليه بالغفران، ولا يفوتك أن الإسلام مع هذا حرَّم على المجني عليه أن يتولى القصاص بنفسه من الجاني فلم يجعل له عليه سلطانًا وأوجب على الحاكم أن يعفيه من القصاص متَى عفى عنه صاحب الحق، فلا هو أسلمه للمجني عليه ولا هو أسلمه للحاكم، فأين بربك في هذا (مظاهر الانتقام) ؟ هذا من جهة نفي كونه (انتقامًا) بقي أن ننظر إلى التشريع في حد ذاته، وهل بغيره يرتدع المجرم أو يصلح المجتمع؟ إن الذي يدرس نزعات النفس البشرية من جهة ويدرس حالة المجتمع من جهة أخرى يرى في هذا التشريع أحكم وسيلة لنظام المجتمع، فإن الغضب والسَّوْرَة غريزة من غرائز النفوس البشرية وما أكثر دواعيه التي تقتضيها طبيعة الحياة البشرية، تلك الحياة التي لا بد فيها من تناقض في الأغراض وتضارب في الشهوات والميول، فلو لم يشعر الجاني حين تثار نفسه بداع من الدواعي أنه نازل به مثل ما ينزله بأخيه، فماذا عساه أن يحول بينه وبين فقء عين أخيه أو قطع أذنه، وإن في كثرة هذا النوع من الإجرام إذا أُهْمِلَ العمل بهذا التشريع لأكبر شاهد على أن هذه المبادئ من أسمى نظم البشر، ولو أننا عملنا بهذا التشريع لقل وقوع مثل هذه الجريمة. وقد كنت شغوفًا أن أبين للكاتب مبلغ أحكام التشريع الجنائي في الإسلام وما له من الأثر الحسن في نظام المجتمع وطمأنينته، وإن موعدنا المقال الآتي فسأتتبع فيه جزئيات العقوبة التي شرعها الإسلام حتي يتبين للناس حقيقة الأمر. والذي أعني به الآن بعد ما بان أن الإسلام لم يقرر (نظرية الانتقام) أن أبين للكاتب كيف أحكم الإسلام وضع (نظرية الإصلاح) و (نظرية المنع) من ألف وثلاثمائة وستة وأربعين عامًا، وأنهما ليستا حديثتين أحدثهما (جورنج) و (المدرسة الفرنسية الحديثة) . ولو أن الكاتب قد نظر في دين الإسلام نظرة العالم الباحث قبل أن يقرأ الكتب الإفرنجية لما ارتطم في ذلك الخطأ المبين. يقول الكاتب في الكلام على (نظرية الإصلاح) وبدأنا نصل إلى رأي جديد كانت خلاصته مباحث العلماء المختلفين وأهمهم (جورنج والمدرسة الفرنسية الحديثة) كما سبق أن تكلمنا عنه وهو أن المجرم شخص كبقية النوع الإنساني، وأنه لا يرتكب ما يرتكب من الجرائم لأميال وغرائز طبيعية، وإنما كان لأن تعليمه والوسط الذي هو فيه كان قليلاً أو ناقصًا مملوءًا بالسيئات ويؤكد هذه النظرية الجديدة ما أثبته علماء الإجرام والمذهب الإجتماعي من أن الجرائم تابعة لحال الوسط الاجتماعي ومداها من الفساد والإصلاح) وإنما سقت للقارىء عبارة الكاتب ليعلم أن كل ما وصل إليه جورنج والمدرسة الفرنسية الحديثة وعلماء الإجرام وعلماء الإجتماع هو أن وسيلة الإصلاح إنما تكون بالتعليم وارتقاء البيئة والوسط الذي يحيا فيه الشخص، وإن هذا القليل من كثير مما وضعه الإسلام من وسائل الإصلاح. فالإسلام أولاً قد حتَّم على كل مسلم ومسلمة طلب العلم مهما صعب الوصول إليه ومهما بَعُدَ منالاً، قال الرسول الكريم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) ، (اطلبوا العلم ولو في الصين) وإن من أول ما يجب من أنواع العلم الذي هو عام في عبارة الشارع، أن يعلم الإنسان ما لله من قدرة لا حدود لها وعلم بالسر وأخفى ووحدانية في الكون لا راد لما قضى ولا مانع لما أراد، يعلم ذلك بناء على البراهين العقلية الماثلة في النفس والآفاق {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمران: ١٩٠) وإن امتلاء النفس بتلك العقيدة لوازع يصحب النفوس في خلوتها واجتماعها وليلها ونهارها فليس كوازع الجنود والخفراء (والبوليس السري) الذي إن أفاد نهارًا فليس يفيد ليلاً، وإن عاق عن الإجرام في الاجتماع فليس بعائق عنه في الانفراد، ولو أننا نزلنا على حكم الإسلام فتعلمنا ما أوجب تعليمه لما أثقلت خزانة الحكومة المصرية بما هي مثقلة به اليوم من الأموال التي تنفقها على إدارة الأمن العام. وثانيًا: فرض الإسلام على كل شخص خمس صلوات أي فرض عليه أن يقدم مراسم العبودية والتقديس لذي العظمة والجلال في اليوم خمس مرات تبتدئ من الصباح حيث يبدأ الناس أعمالهم وتنتهي بوقت نومه حتي يكون كل زمن اليقظة في مراقبة ربه، وإن هذا لمن أمتن الحواجز بين الإنسان والإجرام: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: ٤٥) . وثالثًا: فرض الإسلام على كل شخص صيام شهر من السنة وفي ذلك إشعار النفس بأنها لا تزال مغلوبة ومقهورة للعقل فينكبح جماحها عن الإسراف في الشهوات التي كثيرًا ما تدفع الإنسان إلى الإجرام حين لا يرى سبيلاً إلى الحصول على شهوته إلا بالإجرام. ورابعًا: قد أوجب الإسلام علينا جميعًا إسداء النصيحة لبعضنا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالغ في إيجاب ذلك حتى فرض على الإنسان أن يمنع الشخص عن الإجرام بالقوة متى استطاع، فإن عجز عن ذلك منعه بالقول، فإن عجز تنكر له من سكوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) أصل عظيم ومبدأ اجتماعي من أسمى المبادئ لو أننا عملنا به لقل الإجرام إلى أدنى حد ممكن في الاجتماع البشري، فهل يُبْتَغَى لإصلاح المجرمين بوسائل وراء تلك الوسائل التي شرعها الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف. وأما (نظرية المنع) التي سماها الكاتب حديثة جدًّا، وفي الحق هي ليست بالحديثة جدًّا، ولكنها قديمة جدًّا؛ إذ قد وضعها الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف، ولأجل أن نتبين كيف وضع الإسلام (نظرية المنع) نبحث عن أسباب الجرائم، وإننا لو بحثنا عن هذا لوجدنا غالب أسباب الإجرام ترجع: أولاً: إلى الحاجة والفقر. ثانيًا: عدم العمل خصوصًا من ذوي النفوس الشريرة، فإن عطلة هؤلاء من العمل كثيرًا ما تستدعي الاسترسال في فكرة إحداث الشرور والجرائم. ثالثًا: الطيش وسَوْرَة النفس التي يحدثها تعاطي المسكرات. ورابعها: الخصومات والمشاكل والأحقاد والضغائن التي كثيرًا ما ينبتها التنافس في وسائل الحياة والتزاحم على أسبابها وإن هذا التنافس وذلك التزاحم لطبيعي للاجتماع البشري. فأما السبب الأول للإجرام، وهو الحاجة والفقر فقد وضع الإسلام لاقتلاع جذوره نظامًا ماليًّا من أحكم النظم الاجتماعية في توزيع الثروة بين أفراد البشر ذلك النظام هو ما شرعه الإسلام من فريضة الزكاة: أوجب فيه جزءًا مخصوصًا، وكان من أحكام التشريع أنه لم يرفع الحد الذي تجب به الزكاة، بل تراه قد أوجب الزكاة على مَن يملك اثني عشر جنيها تقريبًا فما فوق، وبذلك يكثر عدد من نأخذ جزءًا من ماله. وتراه من جهة ثانية لم يرفع قدر المأخوذ من ذي المال بل تراه قد جعل واحدًا من أربعين في بعض أنواع الثروة حتى لا يلحق أرباب الأموال ضرر مالي، وبذلك نستطيع أن يتوفر لدينا مقدار من المال لا يبقى معه فقير ولا ذو حاجة وبذلك نكون قد استأصلنا أغلظ أسباب الجرائم جذورًا. وأما العطلة من العمل فقد حرمها الشارع تحريمًا شديدًا حتى أوجب على الإنسان أن يباشر أدنى الأعمال حين لا يمكنه مباشرة سواه فترى الرسول يقول: (لأن يحتزم أحدكم حزمة حطب فيبيعها خير له من أن يتكفف الناس) فلو أن الحكومة علمت بهذا المبدأ لشغل العمل نفوسًا كثيرة عن أن تفكر في إحداث الجرائم والجنايات. وأما تعاطي المسكرات فقد جعل له الإسلام عقوبة مادية هي عقوبة الجلد، فلو أنفذناها على متعاطي المسكرات لأغلقنا سببًا آخر من أسباب الإجرام. وأما المشاكل والخصومات والأحقاد والضغائن التي هي ضرورية للحياة التي لا بد فيها من التنافس وتناقض الأغراض فمن المحال استئصالها وتطهير المجتمع منها بوسائل الإصلاح أو وسائل المنع مهما كانت تأثيراتها - لذلك ترى الشارع الحكيم وضع من المبادئ والتعاليم ما أراد به تخفيف أثر ذلك الأصل من الشرور والجرائم فتراه مثلاً أوجب على الجار الإحسان إلى جاره، وبالإحسان -كما قررته الشرائع وقرره الأخلاقيون- تستل الأحقاد والضغائن، وتراه حرم التجسس وتتَبُّع العورات لما في علم الشخص بأن آخر قد أدرك من عوراته ما يحاول إخفاءَه على الناس من ألم النفوس المثير للضغائن والأحقاد. وحرَّم أن يعيب الإنسان إنسانًا آخر في غيبته لما في ذلك أيضًا من إيلام النفوس وإثارتها قال تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} (الحجرات: ١٢) وكذلك حرَّم الغش في المعاملات؛ إذ الغش ليس إلا صورة من صور سلب أحد المتعاملين مال الآخر بدون مقابل، ولا شيء أثقل على النفس من أن تشعر بأنها قد سلبت شيئًا من حقوقها. وكذلك حرَّم الربا؛ إذ مآله أخذ أحد المتعاملين جزءًا من مال الآخر بلا مقابل ولمثل ذلك في النفوس أسوأ الآثار. وترى الإسلام قد وضع قواعد لجميع أنواع المعاملات لا يكاد يبقى معها سبيل للمشاحنات والمنازعات ثم تراه مع هذا كله أوجب على أهل كل بيئة أن يقوموا بالإصلاح بين كل متنازعين لما في ذلك من وقف تيار المنازعات المؤدي كثيرًا إلى أفظع الجرائم. كل هذه المبادىء التي ذكرناها وغيرها مما لم أذكره إنما قصد بها الشارع مجرد تخفيف أثر ذلك الأصل: أصل الخصومات والمنازعات، وأما وقف تياره بتابًا أو تقليل أثره إلى أدنى حد ممكن مع ردع النفوس التي بلغت في الشر والفساد مدى لا تؤثر معه ما شرعه الإسلام من وسائل الإصلاح ولا تعوقها وسائل المنع من الإجرام فليس له من سبيل إلا إقامة هياكل العقوبات أمام أعين هؤلاء المجرمين. لذلك ترى الإسلام مع إحكامه لوضع وسائل الإصلاح ووسائل المنع على ما رأيت، لم يهمل أمر العقوبات الصارمة؛ إذ يرى أن من الضروري لنظام المجتمع وتطهيره من الجرائم أو تقليلها إلى أدنى حد ممكن إقامة عقوبات كالتي شرعها، وإن من يرى من علماء الإجرام أو علماء الاجتماع اكتفاء المجتمع بوسائل الإصلاح أو المنع من غير حاجة إلى إقامة عقوبات تردع النفوس البعيدة المدى في الشر لَمقصرٌ في بحثه أو مخطئ خطأ واضحًا، وإن في كثرة الجرائم في أمريكا التي يتحدث عنها الكاتب كدولة وصلت إلى أحدث النظريات في علاج الجرائم لأكبر شاهد على أن المجتمع لا غنى له عن إقامة هياكل العقوبات التي تردع بعض المجرمين ممن لا يجديهم إصلاح ولا يعوقهم منعٌ، فصدق الله وكذب الجاهلون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حامد محمود محيسن ... ... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بمعهد ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسكندرية