(للجاحظ) منقولة عن نسخة بخط علي بن هلال الكاتب الشهير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وهب الله لك السلامة، وأدام لك الكرامة، ورزقك الاستقامة، ودفع عنك الندامة. كتبت إلي - أكرمك الله - تسألني عن الحسد، ما هو ومن أين هو، وما دلائله وأفعاله، وكيف تفرقت أموره وأحواله، وبم يعرف ظاهره ومكتومه، ولم صار في العلماء أكثر منه في الجهلاء، ولم كثر في الأقرباء، وقل منه في البعداء، وكيف دب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين، وكيف خص به الجيران من جميع الأوطان؟ الحسد - أبقاك الله - داء ينهك الجسد، ويفسد الأود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء) . وقال بعض الناس لجلسائه: أي الناس أقل غفلة؟ فقال بعضهم: صاحب ليل إنما همه أن يصبح، فقال: إنه لكذا وليس كذاك، وقال بعضهم: المسافر، إنما همه أن يقطع سفره، فقال: إنه لكذا وليس كذاك، فقالوا له: فأخبرنا بأقل الناس غفلة، فقال: الحاسد، إنما همه أن ينزع الله منك النعمة التي أعطاكها فلا يغفل أبداً. وروي عن الحسن أنه قال: الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس، ما أتي المحسود من حاسد إلا من قبل فضل الله إليه ونعمته عليه، قال الله تبارك وتعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} (النساء: ٥٤) . والحسد عقيد الكفر وحليف الباطل، وضد الحق وحرب البيان، وقد ذم الله أهل الكتاب فقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًّا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة: ١٠٩) فمنه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنتج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم بين الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدور كمون النار في الحجر، ولو لم يدخل - رحمك الله - على الحاسد بعد تراكم الهموم على قلبه واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه ووسواس ضميره، وتنغيص عمره وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه، إلا استصغاره لنعمة الله عنده، وسخطه على سيده بما أفاد الله عبده، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وأن لا يرزق أحدًا سواه - لكان عند ذوي العقول مرحومًا، وكان عندهم في القياس مظلومًا، قال بعض الأعراب: ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحاسد: نَفَس داثر، وقلب هائم، وحزن لازم، والحاسد مخذول ومأزور، والمحسود محبوب ومنصور، والحاسد مهموم ومهجور، والمحسود مغشى ومزور. والحسد - رحمك الله - أول خطيئة ظهرت في السموات، وأول معصية حدثت في الأرض، خص به أفضل الملائكة فعصى ربه، وقايسه بخلقه واستكبر عليه، وقال {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف: ١٢) فلعنه وجعله إبليس، وأنزله من جواره، وشوه خلقه تشويهًا، فموه على أنبيائه تمويهًا. نسي عزم ربه فواقع الخطيئة، فارتدع المحسود فتاب عليه وهدى، ومضى الحاسد اللعين على حسده فشقي وغوى، وأما في الأرض فابْنا آدم حيث قتل أحدهما أخاه، فعصى ربه وأثكل أباه، وبالحسد طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، فأصبح من الخاسرين، لقد حمله الحسد على غاية القسوة، وبلغ به أقصى حدود العقوق، وإذ ألقى عليه الحجر شادخًا، فأصبح عليه نادمًا صارخًا، فمن شأن الحاسد إن كان المحسود غنيًّا توبيخه على المال، وقال: جمعه حرامًا، ومتعه أثامًا، وألب عليه محاويج أقاربه وتركهم له خصماء، وأعانهم في الباطل، وحمل المحسود على قطيعتهم في الظاهر، وقال له: كفروا معروفك، وأظهروا في الناس ذمك، فليس أمثالهم يوصلون، فإنهم لا يشكرون. وإن وجد له خصماً أعانه عليه ظلمًا، فإن كان ممن يعاشره فاستشاره: غشه، أو تفضل عليه بمعروف: كفره، أو دعاه إلى نصره: خذله، أو حضر مدحه: ذمه، وإن سئل عنه: همزه، أو كانت عنده شهادة: كتمها، وإن كانت منه إليه زلة: عظمها، يحب أن يعاد ولا يعود، ويرى عليه العقود. وإن كان المحسود عالمًا قال: مبتدع، ولرأيه متبع، حاطب ليل، ومتبع نيل، ما يدري ما حمل، قد ترك العمل، وأقبل على الحيل، قد أقبل بوجوه الناس إليه، وما أحمقهم إذا مالوا عليه، فقبحه الله من عالم ما أعظم بليته، وأقل رعيته، وأسوأ طعمته، وإن كان المحسود ذا دين قال: متصنع يغزو ليوصى إليه، ويحج ليثنى عليه، ويقرأ في المسجد ليزوجه جاره ابنته، ويحضر الجنائز لتعرف شهرته، وما لقيت حاسداً قط إلا تبين لك مكتومه بتغيير لونه، وتخويص عينه، وإخفاء سلامه، والإعراض عنك، والإقبال على غيرك، والاستثقال لحديثك والخلاف لرأيك، ولذلك قال القائل: طال على الحاسد أحزانه ... فاصفر من كثرة أحزانه دعه فقد أشعلت في جوفه ... ما هاج منه حر نيرانه الغيب أشهى عنده لذة ... من لذة المال لخزانه فارم على غاربه حبله ... تسلم من كثرة بهتانه وكان عبد الله بن أبي قبل نفاقه نسيجًا وحده بجودة رأيه وبعد همته، ونبل شيمته، وانقياد العشيرة له بالسيادة والسعادة، وإذعانهم له بالرياسة، وما استوجب ذلك إلا بعد ما استجمع له لبه، وتبين لهم عقله، وافتقدوا منه جهله، ورأوه لذلك أهلاً لما أطاق له حملاً، فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة ورأى عز رسول الله صلى الله عليه وسلم، شمخ بأنفه فحسده، فهدم إسلامه وأظهر نفاقه، وما صار منافقًا حتى صار حسوداً، فحمق بعد اللب، وجهل بعد العقل، وتبوأ النار بعد الجنة. ولقد خطب النبي - صلى وعليه وسلم وآله وسلم - بالمدينة فشكاه إلى الأنصار فقالوا: يا رسول لله، لا تلمه؛ فقد كنا عقدنا له الخرز قبل قدومك لنُتوِّجه. ولو سلم المخذول من الحسد لكان من الإسلام بمكان، ومن السؤدد في ارتفاع، فوضعه الله بحسده وإظهار نفاقه. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه، ورجل آتاه الله قرآنًا فهو يقوم به في آناء الليل والنهار) كان ما سواهما مذمومًا، وصاحبه عليه مقليًّا، وربما نتج الحسد الكبر فيبلغ صاحبه في المقت غايته، وفي البغض من جميع الخلق نهايته، فلا يمر بملأ إلا مضغوه، ولا يذكر في مجلس إلا سبوه، وأشهد أنه في ملكوت السماء أشد مقتًا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنتم شهداء الله في الأرض، فما رآه المسلمون حسنًا كان عند الله حسنًا، وما رآه المسلمون قبيحًا سيئًا فهو عند الله سيئ) . وقال بعضهم: إني أشتري اللحم فأخفيه من جيراني مخافة أن يحسدوني. وذلك أن الجيران - رحمك الله - طلائع عليك، وعيونهم نواظر إليك، فعسى كنت بينهم معدمًا فأيسرت فبذلت وأعطيت، وكسوت وأطعمت، وكانوا في مثل حالك فاتضعوا، فسلبوا النعمة وألبستها أنت، فعظمت عليهم بلية الحسد، وصاروا منه في تنغيص آخر الآبد. لولا أن المحسود بنصر الله إياه مستور، وبصنعه محجوب، لم يأت عليه يوم إلا كان مقهوراً، ولا بات ليلة إلا كان عن منافعه مقصوراً، ولم يمس إلا وماله مسلوب، ودمه مسفوك، وعرضه بالضرب منهوك. وقال مالك بن دينار: (تقبل شهادة القراء في كل شيء إلا بعضهم في بعض؛ فإني وجدتهم أشد تحاسدًا من التيوس تشد النعجة، فيهب عليها هذا التيس مرة وهذا التيس مرة) . وضرر المحسود إلى صديقه أكثر منه إلى عدوه، وإلى خليطه أظهر منه إلى مفارقه، وإلى قريبه أسرع منه إلى بعيده، وذكر حميد الطويل أنه سأل الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد هل يحسد المؤمن؟ فقال: أنسيت - لا أبا لك - إخوة يوسف؟ ! المؤمن يحسد، ولكن ما لم يظهر بلسانه ويده. وأقول: ما خالط الحسد قلبًا إلا لم يمكنه ضبطه، ولا قدر على تشحينه وكتمانه، حتى يتمرد عليه في ظهوره وإعلانه، فيستعبده ويستعمله ويستنطقه لقهوره عليه، ولهو أغلب على صاحبه من السيد على عبده، ومن السلطان على رعيته، ومن الرجل على زوجته، ومن الآسر على أسيره. وكان ابن الزبير بالصبر موصوفًا، وبالدهاء معروفًا، وبالعقل موسومًا، وبالمداراة متهومًا، فأظهر بلسانه حسدًا كان أضب عليه لما طال في قلبه طائله، حتى ظهر عليه مع صبره على المكاره، وحمله نفسه على حتفها، وقلة اكثراثه والتفاته على أحجار المجانيق التي تمر عليه فتذهب بطائفة من قومه ما يلتفت إليها. حُدثنا عن علي بن مسهر عن الأعمش عن صالح بن حباب عن سعيد بن جبير أنه قال: قدت ابن عباس حتى أدخلته على ابن الزبير، فقال له ابن الزبير: أنت الذي تؤنبني؟ قال: نعم؛ لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره طاو) فقال له ابن الزبير: قلت ذاك، وأتبعه بقول يدل على حسد كان ابن عباس من شره معصومًا، وكان ذاك بما في قلبه لبني هاشم مهزومًا، وكانت وخزة ثقيلة فلم يبدها له، وفروع بني هاشم حول الحرم باسقة، وعروق دوحاتهم بين أطباقها راسية، ومجالس بني هاشم من أعاليها غامرة، وبحورها بأرزاق العباد زاخرة، وأنجمها بالهدى زاهرة، فلما تجلت البطحاء من صناديدها استقبله بما أمكن في نفسه، والحاسد لا يغفل عن فرصته، إلى أن يأتي الموت على رمته، وما استقبل ابن عباس ذلك إلا لما رأى عمر يقدمه على أهل القدم، ونظر إليه وقد أطاف به الحرم، فأوسعهم حكماً، وتعقبوا منه رأيًا وفهمًا، وأشبعهم علمًا ولحمًا، ويروى عن ابن سيرين أنه قال: ما رأيت أكثر علمًا ولحمًا من منزل ابن عباس. وأما أنا فحقًّا أقول: لو ملكت عقوبة الحاسد لم أعاقبه بأكثر مما عاقبه الله بإلزامه الهموم قلبه وتسليطها عليه، فزاده الله حسدًا، وأقامه عليه أبدًا. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))