للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب الأمير عبد الرحمن خان

نقلت الجرائد الهندية فصولاً ضافية من تاريخ حياة الأمير عبد الرحمن خان
الذي ألفه بلغة (البشتو) ؛ أي: لسان الأفغان، وتُرجم إلى الإنجليزية و (الأوردو)
فأحببنا تعريبها ملخصة، وإثباتها على صفحات المنار تفكهة للقراء الكرام، ولما
انطوت عليه من الكلمات الحماسية والإشارات السياسية سيما أن الكلمة إذا صدرت
من محلها وأربابها كان لها من الامتزاج بأجزاء النفوس والوقع على الأسماع ما لا
يكون لغيرها، وقد اعترف بفضل هذا الأمير وسياسته وشدة تيقظه جميع الدول
الغربية (والفضل ما شهدت به الأعداء) ، نشرت تلك الجرائد نقلاً عن الكتاب
المذكور ما تعريبه:
إن أطواري وشؤوني التي جبلت عليها لا تلائم كثيرًا مما عليه بعض ملوك
زماني؛ وذلك لأن أحدهم إنما همه التمتع بالملاذ ولبس التاج، والقناعة من الملك
بالتحية والألقاب، وإناطة مهام السلطنة بالوزراء والولاة، وإغفال أمور الرعية
والاحتجاب عنهم، وأما أنا فلست ممن يغتر بتلك الترهات والخزعبلات، ويلقي
بزمام مملكته إلى غيره، ويقنع من الملك بالاسم واللقب بعد أن كنت أعلم أن الأمة
إنما ولتني أمرها لما تعلمه في من الكفاءة والسهر على مصالحها، والذب عن
حوزتها، فأنا المسؤول عن ذلك لا غيري؛ إذ كل راعٍ مسؤول عن رعيته، فلهذا لا
أَكِل أمرًا من الأمور إلى أحد من أمرائي وأركان دولتي، بل أنا الذي أدير شؤون
المملكة وأحكم نظامها وأشيد دعائمها؛ وإنما عمالي وأمرائي آلة أديرها بيدي كيف
أردت وشئت.
وإن بعض الملوك يرى أن مباشرة الأعمال باليد والمشي على الأقدام مخل
بآداب الملوك، وعندي أن مباشرة أمور الرعية والمشي في مصالحها والتردد إلى
المحال المقدسة كالجوامع والزيارات ومجالس العلم، والذهاب إلى بعض المحاكم
والدوائر ولو سعيًا على الأقدام مما يكتب في صحائف حسنات الملوك، ويحيي به
ذكرهم بعد موتهم، وكيف أستنكف عن ذلك وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة
والسلام لا يستنكفون عنه؟ وهذا سيد البشر قد كان يعين أهله في أمور المنزل، فإذا
كنا مسلمين فلم لا نقتدي به وهو سيد الأولين والآخرين؟
ومن المعلوم أن كل إنسان ميال بالطبع إلى شيء تألفه نفسه في هذه العاجلة،
وأنا ميال إلى التعب والعناء فيما به قوام مملكتي، وأرى أن ذلك التعب هو في
الحقيقة عين الراحة، وقد تدربت عليه حتى صار لي طبعًا، ولهذا تراني مع ما
يعتورني من الأمراض والآلام الشديدة لا أنفك مصروف الأفكار والحواس إلى تدبير
أمور الأمة ورأب صدعها ولم شعثها، ولا أدع قلوب الناس معلقة بغيري، بل أنا
الذي أتصفح عرائضهم سطرًا سطرًا، فأوقع عليها بخط يدي، ولذلك لا يكاد يوجد
أحد من الأفغان إلا وعنده أوراق عليها كتابة قلمي، وقد أحطت علمًا بأحوال
رعيتي فقيرها وأميرها، فلا تخفى علي منهم خافية إلا ما تكن صدورهم وتنطوي
عليه قلوبهم.
وإن لي في كل بيت عينًا أبصر بها جميع أعمالهم وأطوارهم، وبابي مفتوح
وبري ممنوح للصادر والوارد، وإني مستعد لمواجهة كل أحد وقضاء حاجته وسماع
دعواه، ومن كانت له عندي حاجة ومنعه عن الحضور لدي عذر فليكتبها ويرسلها
إلي، وليجعل العنوان على الظرف هكذا يصل إلى الأمير؛ فإنه لا يتجرأ أحد على
فضها حتى أكون أنا الذي أفضها وأقرأها وأرد جوابها بيدي، ومن أراد مواجهتي
فصدَّه بعض الحاشية، فليكتب إلي بذلك، ويكاشف به بعض عيوني؛ أي:
(الشرطة السرية) ؛ فإني أعاقب له خصمه ولا عذر لمن يتأخر من رعيتي عن
مقابلتي لحاجة أو زيارة؛ فإني لا أحتجب عن أحد.
وتصب في معاملي أنواع الأسلحة الجديدة، وقصري مدجج بالأسلحة حتى
محل منامي وقاعة جلوسي، ويوجد تحت وسادتي مسدسان وذو شطوب يماني
وبندقيتان من الطراز الجديد، كل ذلك أعددته لطوارق الحدثان، ونوائب الزمان،
وفرسي الأدهم لا يزال أمام عيني مسرجًا ملجمًا عليه حقيبة مشحونة نضارًا أحمر،
وجنودي الجرارة أبناء الموت وليوث الحرب على أهبة وتعبئة مستعدة لأدنى إشارة
تصدر مني، وإني لأعلم أنه وإن كانت الكثرة تغلب الشجاعة، إلا أن القلة قد تغلب
الكثرة أيضًا إذا كان أمرها واحدًا ورأيها مجتمعًا، وإن الرجل الشجاع الحازم قادر
على التحفظ بما لديه والذب عن حماه، وشر الملوك من يكون طالعه على قومه
ورعيته مشؤومًا، فلا أحب أن أكون ذلك الرجل، وقد كان يخطر في بالي أن أتخلى
عن الملك وأنزوي في بعض الكهوف والمغائر لإعداد الزاد ليوم لا ينفع فيه مال ولا
بنون، وأدع قومي يخوضون غمار الفتن ويصطلون أوزار الحروب ويتساقون
كؤوس المنون؛ ولكني خشيت أن يسألني رافع السماء وباسط الأرض عندما أوقف
بين يديه وحيدًا فريدًا: لماذا أغفلت أمور عبادي ونمت عن إصلاح شؤونهم؟ فهذا
الذي يصدني عن ذلك، ويحملني على رؤية مصالحهم قائمًا وقاعدًا ومتكئًا ومستلقيًا
على فراشي، وربما أخذتني السُنة والأوراق في يدي وعلى صدري وقد شغلت بذلك
عن جميع شؤوني الذاتية، وأصبحت لا أتمكن من الدخول إلى الحرم أكثر من مرتين
في العام بعد أن كنت أزورهن في الأسبوع مرتين، وإن لكل من ولدي نصر الله خان
وحبيب الله خان ثلاثة آلاف روبية في الشهر للنفقات الضرورية، وهذا علاوة على
ما هو مقرر لهما من المآكل والملابس، وما هو مرتب لحرمهما وحشمهما، وتبلغ
رواتب حرمي من خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف روبية في الشهر مع ما يلزمهن من
النفقات.
وإنه يسوءني ما أراه من تقدم الأمم الغربية، وتقاعس المسلمين عامة، وقومي
خاصة، وأود لو يستفيق المسلمون من سباتهم الذي أربى على سبات أصحاب أهل
الكهف، ويسترجعون أيامهم ويحافظون على مآثر أسلافهم ومفاخر آبائهم وأجدادهم
الذين وطَّدوا لهم الملك ودوَّخوا لهم البلدان، وهيهات هيهات ذلك؛ لأن الداء إذا
أعضل عز دواؤه.
بيد أني لا آلو جهدًا في إحكام دعائم مملكتي وإصلاح شؤونها وتربية الأمة
الأفغانية، وإني لأعلم أن بعض الناس يتربصون بي الدوائر ويتمنون لي الحمام
الذي لا بد منه، ويرون حياتي شجًى في حلوقهم، وقذًى في عيونهم، وما أظن أن
أحدًا من الملوك نعته ألسنة الجرائد مرارًا وهو حي يرزق غيري اهـ.
هذا وإن الأمير يحيا كل الليل في مصالح العباد، وسماع التواريخ وسير
الأوائل، وسياسات الملوك ومسامرة أرباب الفضل والكمال، ولا يزال هكذا إلى
الفجر، فيتوضأ ويصلي الصبح جماعة، ويقرأ ورده وما تيسر من كتاب الله المجيد
وهو مستقبل القبلة إلى ارتفاع الشمس، فيضطجع على سريره، وربما نام في
بعض الأحيان على كرسيه الجالس عليه أو على الحصير الذي هو مصلاه، فينام
إلى الساعة السابعة من النهار، ثم يهب من نومه فيدخل عليه الحكماء والأطباء
فيجسون نبضه، ثم يدخل مغتسله فيغتسل ويبدل ثيابه، ويشرب الشاي، ويتناول
ما تيسر من الطعام، ثم يدخل الأطباء فيجسون نبضه، ثم يدخل عليه وزراؤه
وأمراؤه وأرباب الحوائج، فيأمر وينهى ويقضي بما تقتضيه سياسته، وبعد
المغرب يدخل عليه سماره من الأمراء والعلماء وأرباب البيوتات وأهل الكمال في
كل فن على اختلاف طبقاتهم، ولا يخلو مجلسه من أعلى الناس إلى أدناهم حتى
(البنكية) وهم الذين يرفعون القاذورات من الكنف والشوارع، ولا يزال على ما
ذكر إلى الصبح، فيفعل ما فعل بالأمس وهلم جرًّا.
والأمير مسلم متمسك قوي الاعتقاد مثابر على العمل بالكتاب والسنة وأقوال
السلف والخلف؛ حتى إنه ليعتقد بوهميات الأمور؛ من ذلك ما حكاه في كتابه المتقدم
الذكر وترجمته:
(قد كنت في عنفوان الشباب أعتقد أن التمائم والعوذ لا تجدي شيئًا، وأظن
أن ما كتب في خواصها ترهات لا أصل لها، إلى أن هديت إلى تميمة كتبها بعض
الصلحاء بزعم أنها تقي من الرصاص فما صدَّقت بذلك، وظننت أنها حيلة ساسانية
ثم خطر لي أن أجربها، فربطتها في دراجة وأطلقت عليها الرصاص مرارًا
عديدة، وفي كل مرة تخطئه يدي حتى إن الرصاص كاد يحرق ريشها ولم يصبها،
فزال من فكري ما كنت أتوهمه، وربطت تلك التميمة بعضدي. وكان الأمير يقرأ
مرة في القرآن المجيد فبلغ قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: ٣٤) فكرر الآية مرارًا وأطال فيها
الفكر، ثم قال: عسى أن يرشدني ربي إلى عمل ينفعني في ذلك اليوم ويقيني حر
جهنم.
(المنار)
صريح هذا الكلام أن حكومة الأمير مطلقة مفوضة لإرادته؛ ولكنه يسلك بها
مسلك الإصلاح، فليست عيونه وجواسيسه لمصلحة شخصه؛ ولكنها لمصلحة البلاد
والأفغان قوم أشداء أولو عصبية، ولولا حزم الأمير واحتياطه لما تمكن من الإصلاح
الذي قام به؛ ولكنه إذا لم يؤسس حكومة شوروية يُخشى أن يزول من بعده هذا
الإصلاح وتُضعف أمته العصبيات والتحزبات المعهودة فيها.
وأما مسألة تميمة الرصاص فلعله أذاعها لييأس أعداؤه من اغتياله، وإلا فإن
التجربة برمي طائر الدراجة بالرصاصة وعدم إصابته غير كافية في إثبات منفعتها؛
لجواز أن يخطئ الرامي الجمل فما بالك بالطائر، وظاهر أن الاعتقاد بالتمائم ليس
من الدين كما بيناه في المجلد الثاني والثالث من المنار.