(١٠) حكومة دمشق العربية كنت قبل سفري إلى سورية سألت عن حكومتها بعض مَن جاء منها إلى مصر من السوريين، والأجانب الذين يوثق بعلمهم ورأيهم - ومنهم الجنرال كليتون الشهير والدكتور بشير القصار منا - فقالوا: إنها ليست رديئة، وليست كما يجب من كل وجه، وهي شهادة حسنة لحكومة جديدة، هذه حقيقة حالها في ذاتها، ففيها ضعف بالنسبة إلى ما يجب أن تكون عليه كل حكومة في هذا العصر، ولكنها كانت على ما فيها من ضعف وقصور خيرًا من حكومتي الاحتلال في المِنطقتين الأخريين: الجنوبية (فلسطين) الإنكليزية، والغربية (لبنان وساحل سورية) الفرنسية. كانت هذه الحكومة العربية الطفلة أقرب إلى العدل، والحرية، والمساواة، والإصلاح، وأبعد عن التعصب والمحاباة والإفساد الأدبي والاقتصادي من حكومتي الدولتين اللتين ابتدعتا لنا بدعة الانتداب لإصلاح بلادنا بحجة أننا عاجزون عن النهوض بأمر أنفسنا، ولقد كانت هذه الحكومة بعد زوال السيطرة البريطانية، ولا سيما بعد إعلان الاستقلال خيرًا منها قبل ذلك، كانت متوجِّهة إلى الإصلاح الإداري والعلمي، وكانت الحرية بجميع أنواعها، ولا سيما حرية الاجتماع، والخطابة، والنشر مما تحسدها عليه سائر البلاد السورية ومصر، وزال من دمشق ما كانت مشهورة به من المبالغة في الحفاوة، والتعظيم للحكام والوجهاء، وشعر الشعب بحرمته وكرامته، وقد كانت لتواضُع فيصل وآدابه الشخصية العالمية تأثير عظيم في ذلك. كان اليهودي الصهيوني يُحابَى في فلسطين، فيقدَّم على المسلم والمسيحي بغير حقٍّ، وكان الكاثوليكي يحابى في الساحل كذلك، ولم يكن المسلم يحابى في حكومة الشام، ولا شكا مسيحي ولا يهودي من الحكومة، ولا من الأهالي تعصُّبًا عليه، ولا ظلمًا له من المسلمين، ولم يكن المسلمون يرجون من الوزراء، ورؤساء الحكومة المسلمين ما لا يرجون من الوزراء والرؤساء من النصارى، وما أبرِّئ هذه الحكومة من عيب محاباة الكبراء، وقبول شفاعتهم في طلاب وظائفها بدءًا وترقية، وكان أكبر هذا الضعف في الوزراء والرؤساء بإزاء الملك فيصل وعشيرته والمقربين منه، فإن هؤلاء قد اعتادوا على عهد سلطتهم العسكرية المطلقة أن يتصرفوا في الأعمال والأموال بما شاؤوا، وكيف شاؤوا، فصعب عليهم بعد إعلان الاستقلال أن يتقيدوا بقانونٍ ونظامٍ، ولم يكن للوزراء من الشجاعة الأدبية والتكافل ما يؤهلهم لتقييدهم وتعويدهم الوقوف عند حدود سلطتهم الرسمية؛ إذ كانوا هم قد اعتادوا في عهد الترك أن يميلوا مع أهواء الرؤساء والكبراء، ومع هذا أمكن لحكومة الاستقلال أن تقيد الملك براتب محدود لم يكن راضيًا به على كثرته، وكان يستهلك راتب كل شهر في أوله، أو قبل بدوّ هلاله، ويَطْلُب من وزارة المالية سلفة بعد سلفة، فلا ينال كل ما يطلب، ولا أكثره بسهولة، وقد كان نفوذه في بعض الوزارات أقوى منه في غيرها، واختلف مع الوزارة في عدة مسائل من أهمها أنه كان يريد إرسال حملة من الجيش السوري الجديد لقتال ابن سعود إنجادًا لوالده - إذا ثبت ما كان أُشيع من عزم الإخوان النجديين على الاستيلاء على المدينة المنورة - فلما كاشف الوزراء بذلك حاروا في أمرهم، وبعد تشاور وتدبُّر قرروا الرد عليه بأنه لا سبيل إلى إرسال حملة من جند الحكومة، ولا إنفاق شيء من مالها في هذه السبيل، وإنما يمكن جمع حملة متطوعة بمال الحجاز، وكان هذا أفضل موقف للوزارة الأتاسية مع الملك فيصل لشدة اهتمامه بهذا الأمر، وتصريحه للأتاسي وغيره بأنه إذا وقع القتال بين والده وبين ابن سعود - فإنه يغادر سورية، ويذهب بنفسه للقتال، سواء ساعدته حكومة الشام أم لا، ولكن لم يقع ما كان يتوقع، ولو وقع فأصر فواتته الوزارة لعجزت عن التنفيذ، وكان هذا رأيي إذ شاورتني في الأمر. لو وُجدت في الشام وزارة حازمة بصيرة لأمكنها أن تعمل في البلاد عملاً عظيمًا في فرصة الاستقلال، وارتفاع السيطرة العسكرية البريطانية عن المنطقة الشرقية، وقد كان لي أمل كبير في وزارة علي رضا باشا الركابي - لا أدري أكان للصلة الودية بيننا تأثير فيه أم لا - ولا أدري كُنه السبب لخيبة هذا الأمل، كان بعض الناس يبالغ لي في الطعن فيه، وبعضهم يدافع عنه، ولم أستطع الوقوف على حقيقة رأيه في موقف البلاد السياسي، ولا فيما يجب أن تكون عليه الحكومة على ما كان من احترامه إياي، وحسن اعتقاده الذي هو فوق ما أشرت إليه في الفصل الذي قبل هذا، وإنما كنت أعجب لكلمة سمعتها منه مرة أو مرتين، وهي أن استقلالنا مضمون وإنكلترة وفرنسة متفقتان عليه! ! وقد اقترحت عليه شيئًا واحدًا من الإصلاح، وهو وضع إدارة منظمة للعشائر والقبائل، بينت له بعض مسائلها، وما يُرجى منها، فأظهر لي منتهى الاستحسان لها، وطفق يماطل ويسوف فيها مع إقناعي للملك فيصل بوجوب العناية بها، وأمره إياه بتنفيذها، ولم يفعل. وقد كثر بعد الاستقلال المنتقدون له حتى صار أكثر أعضاء المؤتمر وأفراد حزب الجمعية التي ينتمي هو إليها - وهو حزب الاستقلال العربي - عليه، وانتهى ذلك بانحراف الملك عنه، وعُقدت اجتماعات سرية للبحث في إسقاط وزارته، حضر بعضها الملك فيصل، وتقرر فيها استبدال وزارة قوية بها، فتألفت وزارة هاشم بك الأتاسي ودخل فيها الدكتور عبد الرحمن شهبندر والمرحوم يوسف بك العظمة، وكان الكاتب هو المقترح الأول لإدخالهما في هذه الوزارة. وأما الرئيس فاختاره الملك فيصل، وقد كان أحد أعضاء لجنة الشورى السرية. قد استطاع هاشم بك بدماثته ولطفه إرضاء الملك، ولكنه لم يكن بالرئيس الذي يرضاه في هذا الوقت المؤتمر ولا الأحزاب، وفي مقدمتها حزب الاستقلال العربي الذي هو منه؛ لأن الجميع كانوا يطلبون وزارة دفاعية تصرف جل جهدها في الاستعداد للدفاع عن الاستقلال إذا اعتُدي عليه، أو يكون الاستعداد سببًا لعدم الاعتداء. فلم يلبث أن ضايقه المؤتمر والحزب، وتوجه رأي الأكثرين إلى وجوب تبديل وزارته، وكثر الانتقاد في المؤتمر عليها، والاقتراحات في أمر استيضاحها من موقف البلاد، والاستعداد للدفاع، وكنت أجتهد في حمل المؤتمر على الأناة، والتروي، والحزب الغالب يظاهرني، ولما علم حزب الاستقلال بإنذار الجنرال غورو للملك فيصل - اجتمعت الجمعية العامة له في الليلة الـ ٢٧ من شوال (١٣ يوليو) وانتخبت وفدًا مؤلَّفًا من أعضاء اللجنة المركزية وسبعة من غيرهم لإبلاغ الملك بأن يكلف ياسين باشا الهاشمي تأليف وزارة دفاعية، وكان كاتب هذا رئيسًا لتلك الجلسة ثم للوفد، فلما بلغنا الملك ذلك أجاب جوابًا جافًّا، خلاصته أنه لا يعمل برأي جمعيةٍ، ولا حزبٍ، ولا المؤتمر، وأجبته جوابًا أشد من جوابه، وأجفّ أو أجفى، ولا حاجة الآن إلى تفصيل ذلك، ثم كلفت رئيس الوزارة الاستقالة باسم الوطن، واسم الإخوان، فأجاب بالقبول، قال: ولكن أليس يجب الاتفاق قبل ذلك على مَن يخلفنا؛ لئلا يكونوا ممن تنكرون منهم ما لا تنكرون منا؟ ، فأنتم تثقون بوطنيتي، ولا تشكون مني إلا الضعف عن النهوض بأعباء الحال الحاضرة، وربما كان الخَلَف الذي يرضاه الملك أضعف، وغير موثوق بوطنيته، وقال: إن الملك لن يولي الهاشمي الوزارة، بل اجتهدنا في إقناعه بأن يوليه وزارة الداخلية، فأبى. إنما موضوع كلامي هنا بيان ضعف الوزارة لا ترجمة الملك فيصل، ولا تاريخ تلك الأيام المفصل. وقد كنت كلمت الأمير زيدًا في ذلك، إذ خلوت به مرتين في أيام فرصة عيد الفطر: إحداهما في داري، والأخرى في البلاط، وكان يشكو من ذلك مثلنا، فقلت له: إن الإصلاح لن يكون إلا بترك الملك التدخل في أعمال الوزارة بنفوذه الشخصي، فاعتذر عن تدخل الملك بأن سببه ضعف الوزارة وعجزها، فقلت له: إنما يجب عليه إصلاحها لا التصرف الشخصي في جزئيات أعمالها الذي يزيدها خللاً، وقد كان الملك فيصل راضيًا كل الرضى عن وزارة الأتاسي، ولا سيما وزير الخارجية الدكتور عبد الرحمن شهبندر الذي كان من قبل يكرهه، ويظن أنه عدو له، حتى إنه قال لي يومًا: إنني لما عرفت شهبندر احتقرت جميع أهل الشام، ولكن رضاه في ذلك الوقت كان سببًا لسخط جمهور الشعب. وقد أفضى ضعف الحكومة، ولينها، وطمع الطامعين فيها - إلى أن تجرأ الساخطون عليها من الطامعين في المناصب، والمواهب الملكية على الطعن فيها، وتأليف الأحزاب لمقاومتها، وكان بعض العلماء والعامة يُكثرون الطعن في وزارة المعارف خاصة، ويزعمون أنه يريد إضعاف الدين في المدارس، وتعويد البنات فيها على التهتك، وطالما راجعوني في هذا قبل إعلان الاستقلال، وبعده متوسلين بي إلى السعي معهم لدى الأمير - ثم الملك - بعزله، فكنت أنصح لهم بالتأني، وأحسب حسابًا لتعوُّد الشعب الافتيات على الحكومة، ولا سيما الطامعين منه في أعمالها ومناصبها، وأرى أن السعي لتلافي الخلل، وإقناع الحكومة بإصلاح ما يُنتقد عليها بحق - أحسن عاقبة من إطماعهم فيها، وقد ذكرت رأيي هذا لمدير المعارف، ثم وزيرها ليكون على بصيرةٍ من أمره. ولم يقف تأثير ضعف الحكومة في الشعب عند هذا الحد، بل أفضى أخيرًا بالساخطين والطامعين أن تجرؤوا على السعي لهدم الاستقلال، والتزلف إلى الأجانب، فقوي الحزب الوطني المتهم بموالاة فرنسة، وهو الذي كان يرأسه عبد الرحمن باشا اليوسف، حتى إنه بلَّغ الحكومة أنهم عزموا على تأليف وفد فيه سبعة من حملة العمائم، وسَكَنَة الأثواب العباعب، يرسلونه إلى باريس لطلب الانتداب الفرنسي على جميع البلاد السورية، ولم تفعل الحكومة شيئًا! ، وأغرب من هذا أن بعض الموظفين في بلاط الملك سرق دفتر الخزينة الخاصة مرتين، ولم يشك أحد علم بذلك في سببه، ولم يُعاقَب، بل لم يُحاكَم، بل لم يجرِ في البلاط تحقيق بشأنه. وكان بعض الوزراء كيوسف بك العظمة (رحمه الله) يخص وزير الداخلية بالتقصير في إيقاف الأحزاب المعارضة عند حدها، فقلت لهم: كلا، إن هذا يُطلب من الوزارة كلها لا من الداخلية وحدها. أكتفي بهذه الخلاصة من بيان ضعفنا، وتعليل عدم نجاحنا؛ عسى أن نعتبر به في مستقبل أمرنا، وأعيد القول: بأن حكوماتنا كانت مع هذا خيرًا من حكومتَيْ المنطقتين الأُخْرَيين من بلادنا أمنًا، وعدلاً، ومساواةً، وتقدمًا في العلم، والاقتصاد، وسأتكلم في الفصل الآتي على المؤتمر.