بقية الكلام على الأمير عبد الله: لما عزمت الدولة العثمانية على صَلْيِ نار الحرب مع ألمانية حسبت للحجاز وسائر البلاد العربية حسابًا، وأهم ما يهمها من البلاد العربية الحجاز؛ لأنه عنوان منصب الخلافة الذي كانوا يظنون أنهم يهيجون به العالم الإسلامي على الإنكليز وفرنسة فطلبوا من الشريف حسين أن يرسل ولده الشريف عبد الله إلى الآستانة لأجل التحدث معه في أمر مهم، وكان الشريف عبد الله بمكة المكرمة لتعطيل مجلس المبعوثين وهو مبعوث الحجاز فيه عطلة الصيف، فبادر والده إلى إرساله فجاء مصر ونزل ضيفًا على قصر عابدين كعادته، وكانت المودة قد رسخت بيني وبينه فزرته في عابدين ضحوة يوم الجمعة ١٧ شعبان سنة ١٣٣٢ الموافق ١٠ يوليو (تموز) سنة ١٩١٤ وكتبت عقب الزيارة في مذكرتي ما نصه: زرت الشريف عبد الله ضحوة اليوم بقصر عابدين وتكلمنا بالحرية التامة في شئون الحجاز الأخيرة، فذكرت له أمورًا ما كان يظن أنني أعرفها كالتحدث في مجلس الوالي وهيب بك باغتيال والده أمير مكة، وكإرسال والده كتابًا إلى الإدريسي وغير ذلك، وقلت له: إنه بلغني عن والده أنه غير راض عن المنار بتأثير وساوس الدجال النبهاني، فكذَّب ذلك بالتأكيد الشديد، وقال: هذا كلام الذين يحبون التفريق بيننا، وإنه رأى والده يقرأ للناس ما كتبه المنار في مسألة بيع الشفاعة [١] (على أن خبر انحرافه بلغني من أحد أصدقاء والده) [٢] وكتبت في اليوم التالي (السبت ١٨ شعبان) دخل الشريف في الجامعة العربية وحلف اليمين الكبرى كتبتها له بورقة وقرأها على سبيل الإنشاء كما قال اهـ. أقول: في تفسير هذه المذكرة بالإجمال: إنني على اشتغالي الأساسي بالإصلاح الإسلامي العام كنت أسعى مع بعض أحرار العثمانيين من الترك وغيرهم لإصلاح الدولة العثمانية، ولما أعلن فيها الدستور تجدد الرجاء لجميع الشعوب العثمانية بحياتها ونهضتها بالدولة وفي الدولة، فكنت أبث في الشعب العربي العثماني أنه يجب أن يوجه استعداده ليكون عضوًا رئيسيًّا كالترك في الدولة ينهض بها وتنهض به، ثم ذهبت إلى الآستانة للسعي لدى الدولة فيما تحيا به وبحياة الإسلام، وتتحد بالعرب أتم الاتحاد، وبعد معالجة العمل سنة كاملة، اقتنعت بأن هذه الدولة غير مستعدة للبقاء، وأن انحلالها بأيدي رجالها من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي ضربة لازب، وأن العرب إذا لم يؤسسوا بأنفسهم لأنفسهم بناء للاستقلال القومي فلا بد من سقوطهم بسقوطها إن لم يسقطوا قبلها بسعيها. وقد علمت من الآستانة أن زعماء الترك من الاتحاديين وغيرهم معتزمون تتريك جميع العناصر الداخلة في محيط الدولة بالقوة القاهرة، وبدءوا بقتال الألبانيين لمنعهم من استعمال لغتهم، ويُثَنُّون بالكرد ويُثَلِّثُون بالأرمن، وكذلك يفعلون بسورية والعراق من الولايات العربية إلا أن يروا الأربح لهم بيع العراق لإنكلترة وسورية لفرنسة، وفلسطين لليهود، كما قرروا بيع طرابلس الغرب وبرقة لِإيطالية، وذلك بالسماح لكل منهم أن يتملكوا ما شاءوا في هذه الولايات بل الممالك، ويقووا نفوذهم فيها إلى أن تسمح الفرصة باحتلالها العسكري بدون مقاومة مخسرة، وأما البلاد المسلحة الحربية بالطبع، وهي جزيرة العرب فقد قرروا جعل اليمن ونجد إمارتين مستقلتين في إدارتهما الداخلية تحت سيادة دولة الخلافة، إلا الحجاز فيظل تحت حكمهم المباشر، وتلغى إمارة الشرفاء منه، ويجعل في الطائف قوة عسكرية عظيمة كافية للسيطرة على الحجاز وغيره من جزيرة العرب لموقعه الحربي في الوسط، وفيه المباني العسكرية الكافية التي أسسها السلطان عبد الحميد لذلك. وقد جعلوا وهيب بك واليًا للحجاز ليمهد السبيل لذلك؛ لأنه من كبار الضباط الشديدي الشنآن -بغض الاحتقار- للعرب وكان صرح في خطاب له في وزارة الحربية بأنه يمكنه اكتساح سورية بستة توابير تركية والقضاء على كل حركة عربية في البلاد، وقد ذكرت هذا في إحدى مقالاتي التي أنشأتها في الآستانة إذ كتبت فيها تحت عنوان الترك والعرب (تركلر، عربلر) ونشرت باللغتين، وقد كنت علمت بنبأ جاءني من الآستانة أن الدولة سترسل وهيب بك واليًا إلى الحجاز فذكرت ذلك للمندوب العثماني (القومسير) سليمان بك بابان وكان يهتم هنا بتحسين سمعة الدولة وتحسين علاقتها بالعرب، وقلت له: أيصح في هذا الوقت أن ترسل الدولة هذا المتهور إلى الحجاز وتجعله واليًا لها؟ فقال: جانم، لا تصدق، هذه من إشاعات أعداء الدولة! ! فتأمل. جمعية الجامعة العربية وقسمها الأول: وأما جمعية الجامعة العربية التي أسسناها بعد عودتي من الآستانة فكان الغرض الأول منها أمرين: (أحدهما) السعي لاتحاد حلفي بين أمراء جزيرة العرب للاتفاق ومنع الشقاق (والثاني) التعاون على عمران البلاد والدفاع عنها، وللتعاون بين الجمعيات العربية في سورية والعراق وغيرهما .... وهذا نص القسم الأول الذين كان قبل الحرب، إذ كانت الجمعية خاصة بالأمراء والزعماء وكلهم من المسلمين، وهذا: أقسم بالله العظيم القهار، المنتقم الجبار، العالم بسري وعلانيتي، القادر على سلبي كل ما أعطاني من المواهب والقوى، وبكتاب الله المجيد أنني أبذل جهدي وما في وسعي لجمع كلمة العرب والتأليف بين أمرائهم وتأسيس ملك جديد لهم، بحسب القواعد التي وضعتها لذلك جمعية الجامعة العربية التي أنتظم في سلكها اليوم، وأنني أسعى لذلك مع أعضاء هذه الجمعية بمنتهى الصدق والإخلاص، وأنني لا أبخل في سبيل ذلك بمالي ولا بنفسي، ولا يلفتني عنه هواي وحظي الشخصي، ولا حظ أحد من أهلي وولدي، وأنني أحافظ على مقاصد الجمعية وأسرارها بأشد ما أحافظ به على ديني وشرفي وعرضي، فلا أفشي لها سرًّا ولا أعارض لها عملاً، ولا أقول قولاً، ولا أعمل عملاً يخالف مقاصدها أو يحدث فيها خللاً، أو يوقع فيها فشلاً، لعلة من العل، ولا لسبب من الأسباب. وإنني أقوم بكل عمل يكلفني إياه مركزها العام من مقاصد هذه الجامعة أو وسائلها بحسب استطاعتي. على عهد الله وميثاقه لأبرنَّ بقسمي هذا بلا تأويل ولا عذر ولا كفارة، وإن حنثت بشيء مما تضمنه أو غدرت أو أفشيت سرًّا، أو قلت أو فعلت ما يضر هذه الجامعة أو أحدًا من العاملين لها، أو يُخِلّ بشيء من أعمالها أو يخالف شيئًا من مقاصدها، فعلي إثم من حقّر اسم الله، ونبذ كتاب الله، وبرئ من الدين والشرف، ومن ذمة العرب، وأستحق انتقام الله ولعنته ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وانتقام الجامعة العربية وكل من يغار على ملته وأمته، وكان من الخائنين والملعونين إلى يوم الدين، والله على ما أقول وكيل وشهيد. اهـ. (أقول) هذا القسم هو الذي حلفه الشريف عبد الله ولا تزال صورته الخطية محفوظة عندي، ثم إننا غيرنا هذا القسم بعد الحرب تغييرًا قليلاً وعندي صورة منه عليها إمضاء بعض من انتظموا فيها معي، ثم عدلته بالتشاور مع الأعضاء وطبعته هكذا: قسم الجامعة العربية أقسم بالله القهار أنني أبذل جهدي وما تصل إليه استطاعتي من السعي لجعل بلاد العرب المؤلفة من الجزيرة وفلسطين وسوريا ولبنان وما بين النهرين (دجلة والفرات) والعراق مملكة عربية مستقلة أتم الاستقلال على قاعدة اللامركزية، وعلى أن تكون حكومتها شورية نيابية ينتخب أعضاء مجالسها من أهل الحل والعقد الذين هم خواص الأمة ومحل ثقتها في الشئون العلمية والعملية بمقتضى القوانين التي يقررونها عند العمل وإنني أقاوم بقدر استطاعتي كل ما ينافي هذا الاستقلال، وهذا الشكل من الحكومة أو يضعفه من تدخل الأجانب ونفوذهم، أو استبداد الحكام، وفساد أنصار الاستبداد من الجماعات أو الأفراد، وإنني أكون وليًّا ونصيرًا للساعين والعاملين لهذا المقصد من رجال الجامعة العربية وغيرهم بمنتهى الصدق والإخلاص، لا يثنيني استقلال بعض هذه البلاد عن ذلك السعي التام لاستقلال سائرها، وإنني لا أفشي لفرد من الأفراد ولا لجماعة من الجماعات العاملة لهذه الغاية سرًّا، ولا أعمل عملاً يخل بهذا الغرض والقصد، أو يضر أحدًا من العاملين له أو يعرقل عملاً من أعمالهم له. فإن حنثت في يميني هذه لأي سبب، وبأي تأويل فأنا بريء من الشرف والإنسانية، مستحق للعنة الأبدية، وأن يسجل عليَّ عار الخيانة وذلها في تاريخ أمتي العربية وفي كل تاريخ، والله خير الشاهدين. بعد هذا سافر الشريف إلى الآستانة وعاد منها إلى مصر فبلغها في ٢٢ رمضان الموافق ١٣ أغسطس وعاد معه أخوه الشريف فيصل فقابلته في قصر عابدين وحده يوم وصوله نهارًا ثم ليلاً وأخبرني بخلاصة رحلته، وأن الدولة راوغت ومطلت في إلغاء ولاية الحجاز وجعلها إمارة فقط كما بلغت والده، وزعمت أنها أرجأت ذلك إلى ما بعد الحرب الكبرى، وعلم أنها عازمة على الانضمام إلى ألمانية في الحرب إلا الصدر الأعظم (الأمير سعيد حليم) وتكلمنا في مسألة الخطر على الدولة من دخول الحرب وما يجب على الحجاز لوقايته من الخطر إذا هي فعلت، وأخبرني أن جميع قبائل العرب قد خضعت لوالده وعاهدته بعد حادثة وهيب بك الوالي ومحاربة الإدريسي حتى قبيلة حرب العظيمة، ولكنه لم يخاطب أحدًا من الأعراب المحافظين على سكة الحديد الحجازية؛ لأنهم ينتفعون من الدولة ولا شأن لهم. وجملة القول أنه ازداد اقتناعًا بوجوب العمل بمقتضى مقاصد الجامعة العربية وبأن والده أخطأ بمحاربة الإدريسي بإغراء الدولة، وكان هو أخبرني من قبل أن الدولة كلفته ذلك، أخبرني قبل وقوع الحرب منصرفه من الآستانة فحذرته من الوقوع في هذه الورطة فوعدني بأن يبلغ والده ذلك ويجتهد في إقناعه وقد فعل كما أخبرني ولكن والده لم يقبل منه، والسبب الصحيح لقتال الإدريسي أن الشريف حسينًا كان يريد الاستيلاء على عسير وضمها إلى الحجاز ويعلم أنه لا يقدر على الإدريسي بقوة الحجاز التي يقدر على القتال بها، فافترص سخط الدولة عليه لإسقاط إمارته بقوتها النظامية مع القوة الحجازية البدوية، وعذر ولده عبد الله وغيره من أولاده استبداده وشدة عناده معهم كغيرهم، فكان هذا أكبر مساويه المحيطة لمحاسنه رحمه الله. رجع عبد الله وفيصل إلى الحجاز والأول مقتنع بخطة جمعية الجامعة العربية ومنها أن يستعد العرب لاستقلالهم واتقاء سقوطهم بسقوط الدولة العثمانية الذي أمسى في نظرها ضربة لازب واتقاء السعي لإسقاطها بثورة لهم عليها، وكنت أقدر له أمدًا لا ينقص عن ثلاثين سنة، وفيصل مقتنع بوجوب بقاء الارتباط بالترك والتابعية للدولة العثمانية كما أخبرني هو نفسه بعد، وهذا هو السبب لعدم جمع عبد الله بيني وبينه في مصر، كما أننا لم نجتمع في الآستانة. عاد الشريفان إلى والدهما في مكة المكرمة وعبد الله أقرب إلى رأي أبيه من فيصل فقد كانا يكرهان الترك وزادتهما سياسة جمعية الاتحاد والترقي كرهًا لهما بسوء سيرة وهيب بك في مكة، وأما الحضر من أهل الحجاز فكانوا على رأي فيصل كما علمت ذلك باختباري الشخصي في أثناء حجي في عهد الثورة، ولأجل ما كان من الخلاف بين الأخوين في الرأي لم يجمعني الشريف عبد الله بأخيه في مصر، ولم يطلعه على نبأ جمعية الجامعة العربية، عادا في آخر رمضان أو في أيام عيد الفطر، وما جاء عيد النحر إلا وقد أعلن فيه سقوط الدولة في نار الحرب، وما جاء عيد النحر التالي سنة ١٣٢٣ إلا وأنا أطوف مع الشريف حسين طواف الإفاضة في البيت الحرام، ثم أخطب بين يديه في مِنى تلك الخطبة السياسية الحكيمة على أساس الجامعة العربية، وهو يصدقني في كل ما أقول، ولم يلبث أن قلب الإنكليز رأيه بعد عودتي إلى مصر كما فصلته في المنار، ولم ألق فيصلا في الحجاز أيضًا، وسأذكر في الفصل التالي خبر تلاقينا في بيروت ثم في دمشق بعد بيان وجيز للفرق بينه وبين أخيه عبد الله في السياسة، وأذكر حنث الأمير عبد الله بيمينه للجامعة العربية. ((يتبع بمقال تالٍ))