تقدم في الجزء الماضي ملخص ما دار بين مفتي الديار المصرية وناظر مدرسة المعارف من المناقشة والمراجعة في اقتراح عرض قوانين التعليم في مدارس الحكومة على مجلس شورى كسائر قوانين الحكومة. ونذكر في هذا الجزء ملخص ما دار في الجمعية بين الناظر والشيخ علي يوسف مع ذلك مع بيان رأينا فيه ثم ننقد القانون فنقول: (الشيخ علي) (الضمانات) [١] التي ذكرها سعادة ناظر المعارف إنما هي كافية في التغييرات الإدارية كتحديد أوقات الدروس وحصص المدرسين، وأما القواعد الكلية المتعلقة بالعلوم من حيث ترتيبها في التعليم واللغة التي تعلم بها فربما لا يصح تغيير قوانينها في أقل من عشرين سنة مثلاً لذلك يجب الضمان. والتعليم باللغة الأجنبية معناه نقل أشخاص إلى العلم، وأما التعليم بلغة الأمة فهو نقل العلم إلى الأمة فيسهل على الطالب معه أن ينفع بيته بعلمه وبما يجيء به من كتب التعليم. وقد نشأ عن التعليم باللغة الأجنبية قلة التأليف بالعربية وعدم وجود الأساتذة الأكفاء في المدارس الحرة ولم نق من ذلك (ضمانات) ناظر المعارف. فالقوانين العمومية يجب عرضها على مجلس شورى القوانين؛ إذ لا يكفي فيها نظر الحكومة وحدها. (الناظر) إن الطرق المتبعة في التعليم ما وضعت إلا بعد تجارب شتى بمعنى أن هذا التعليم الذي تبين أن تعليمه بالعربية أنفع يكون تعليمه بها والعكس بالعكس إذ المدار في ذلك على الكتب والمدرسين والأقرب للترقي. ومما بينته من (الضمانات) وغيرها يتضح أن وضع (البروجرامات) يتبع فيه أحسن الطرق وأفضلها اهـ كما كتب. (الشيخ) ذلك يراد به الأسهل في التعليم، والذي نريده هو نفع الأمة وقد كان منذ عشر سنين تؤلف كتب في الطب والطبيعة وغيرهما من العلوم فيأتي بها التلميذ فيستفيد منها أبوه وأهله، ولا شيء من ذلك الآن؛ لأن التعليم والتأليف باللغة الأجنبية فيجب أن يكون التعليم الوسط بلغة البلاد، ويصح أن يكون في المدارس العالية باللغة الأجنبية. (الناظر) يترتب على هذا جعل التعليم ناقصًا، وانتشار العلم في البيوت لا يكون بوجود الكتب في أيدي أفرادها؛ إذ لا من يفهم الكتاب إلا من كانت عنده مبادي العلوم. وعند ما رأى أعضاء الجمعية أن الناظر يعيد كلامه ويحتج (بضماناته) كلما ألحت الجمعية بوجوب اطلاع مجلس الشورى على قوانين التعليم قال حسن بك مدكور إن أحسن ضمان هو إرسال قوانين التعليم لمجلس الشورى. وأمر الرئيس بأخذ الآراء (فتقرر بأغلب الآراء) طلب ذلك من الحكومة. ولا أدري هل كان في المخالفين أحد غير ناظر المعارف؟ إن كان فلعله من بعض الموظفين الذين يرون موافقة الناظر تأييدًا لحزب الحكومة وإن كانت المصلحة واحدة والشورى من الحكومة. أما الجواب الأول للناظر فقد أحسن الشيخ علي في نقضه بقدر ما يسمح له المجلس الرسمي، ونزيده إيضاحًا بأن هذا التعليم الذي وصفه الناظر بأنه أنفع وأحسن وأفضل قد خالفت النظارة فيه ما اتفقت عليه الأمم الأوربية كلها وفي مقدمتهم الإنكليز. ذلك أن التعليم الابتدائي في أوربا لا يكون إلا بلغة البلاد؛ لأن حياة الأمة بلغتها وتعلم لغة أخرى لأجل المزيد في العلم كتعلم الإنكليز لغة الألمان هو من الكماليات التي يجب أن تكون بعد الضروريات. فهل وصل نظار مدارس معارفنا ومفتشوها - إن كان قانون التعليم برأيهم - إلى ما لم يصل إليه فلاسفة أوربا وأساتذتها في علم التربية والتعليم؟ ؟ فإن قال الناظر: إذا ثبت أن تعلم الطبيعيات مثلاً أسهل باللغة الإنكليزية منه باللغة العربية فكيف نتنكب الطريق السهل ونسير في الحزون الوعرة؟ نقول له بعد التسليم: وهل تعدل عن الإنكليزية إلى التركية أو اليابانية إذا ثبت عندك أن التعليم بها أسهل والتحصيل أقرب؟ وإنما قلنا: أسهل وأقرب ولم نقل: (أنفع) كما قال الناظر لأن الأنفعية لا شبهة عليها إذا فسرت بالسهولة وقرب التحصيل؛ إذ لا يمكن أن يقول عاقل: إنني أسعى بمحو لغة أمتي واستبدال لغة أخرى بها لمنفعة من المنافع، وأي نفع في الدنيا يوازي ضرر إهمال الأمة التي هي من أقوى مقوماتها أو هي أقواها في نظر الأكثرين. وأما الجواب الثاني من أجوبة الناظر فأمثل ناقض له ما فعلته الجمعية من ترك المناقشة بالمكابرة والإصرار على أن الضمان على التعليم لا يكون للأمة إلا بعرض قوانينه على مجلس الشورى والجزم بطلب ذلك من الحكومة، وماذا عسى أن يقال لمن يقول: إن التعليم الابتدائي بلغة الأمة يكون ناقصًا وجميع الأمم الحية عليه كأن الكمال لم يوجد إلا في معارف مصر التي لا أثر لمعارفها يذكر بالنسبة إلى سائر الأمم. وماذا عسى أن يقال لمن يدعي أن انتشار الكتب العلمية في الأمة لا تأثير له في منفعة البيوت وترقي أفرادها؟ أليس تحدث التلامذة في بيوتهم ومذاكراتهم في المسائل العلمية بلغتهم مما يجعل الاصطلاحات العلمية مألوفة في البيوت لكثرة طروقها للسامع؟ أليس الآباء والأمهات الذين تلقوا شيئًا من مبادئ العلوم وقضت عليهم شئون المعيشة بعدم إتمام تعليمهم ينتفعون بالكتب المؤلفة إذا كانت بلغتهم؟ بلى وإننا نعود إلى الكلام في قانون التعليم فنقول: إن في هذا القانون (البروجرام) عيوبًا وتقصيرًا نسرد ما يظهر لنا منها باختصار على ترتيب القانون وهو: (١) كون القرآن لا يدرس في السنتين الأولى والثانية وكون الذي يقرأ منه جزأين فقط. والأمة ترغب في إقراء أولادها القرآن كله لما في قراءته من تقويم اللسان وتعويده على الفصاحة في النطق والاستعانة على الكتابة والخطابة، ولكونه أصل الدين والوسيلة العظمى لكمال من يفهمه. ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (٢) كون تعليم الدين والتهذيب في أثناء سنتين فقط مع أنه يجب أن يكون ذلك موزعًا على جميع السنين؛ لأن الدين والتهذيب هما المقصود والأهم من التعليم ومن لم يتمكن منهما يكون خاسرًا في حياته وإن تعلم جميع الفنون الأخرى. ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (٣) كون الوقت المخصص لتعليم الدين والتهذيب معًا ساعة واحدة في الأسبوع مع أن اللغة الأجنبية التي تعلم من السنة الأولى الابتدائية إلى آخر يوم من أيام التعليم العالي لها سبع ساعات في الأسبوع من السنتين الأوليين. فالساعات المقررة في القانون لتعليم علوم الدين وعلم التهذيب ٣٦ ساعة في السنة و ٧٢ ساعة في مدة الدراسة كلها، وتغتال منها أيام الأعياد والمواسم ما تغتال. فالمدة نحو ثلاثة أيام وهي لا تكفي لتعليم الأكل. فهل تكفي ببركة (الضمانات الخمس) لمعرفة الله وما أوجبه على عباده من أصول الإيمان وتثقيف الأخلاق وكيفية العبادات مع التهذيب المدني الدنيوي الذي نوه به ذلك القانون. هذا أكبر عيب ونقص في نظام المعارف ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (٤) كون علم الدين لا شأن له في درجات ترقي التلامذة في الامتحان المعبر عنها بالنمرة، فلو فرضنا أن تلميذًا بلغ في فهم الدين ومعرفة أحكامه مبلغ الأئمة وكان مساويًا لآخر في سائر العلوم فإن هذه المعرفة لا ترفعه عنه درجة واحدة فإن زاد ذلك الآخر درجة واحدة في الخط الإفرنجي مثلاً فإنه يرتفع بذلك ويتقدم على ذلك الإمام الديني الجليل، ومن لاحظ أن التلامذة لا يجتهدون إلا لأجل السبق في الامتحان وعلم أن الدين لا مجال فيه للسبق؛ لأنه لا درجة له علم أن النظارة متعمدة إهمال الدين أو جاهلة منزلته ومكانته، وهذا نقص فاحش في قانون التعليم ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (٥) كون المسائل التي يبتدأ بها في تعليم الدين تعلو على عقول المبتدئين وهي كما في الصفحة ١٢ من قانون (احتياج الإنسان إلى الدين - بيان الفوائد المترتبة على التمسك به - بيان أنه ليس قاصرًا على أنواع العبادات بل هو مشتمل على ما يلزم للإنسان من المعاملات وغيرها ويرشده إلى طريق المجد والشرف في الدنيا والآخرة - أول ما أوجبه الدين - ما يجب في حقه تعالى وما يستحيل وما يجوز - الحكمة في إرسال الرسل - ما يجب في حقهم عليهم الصلاة والسلام وما يستحيل وما يجوز - نسبه صلى الله وعليه وسلم من جهة أبيه وأمه) . ولا شك أن هذه المسائل يتوقف فهمها على معرفة الأحكام العقلية والإلمام بعلم الاجتماع فابتداء التعليم بها نقص. وإذا فرضنا أن تلاميذ السنة الثالثة الذين لم يكونوا تعلموا من الدين شيئًا مستعدون لفهم مقدمات هذه المسائل ثم لفهمها، ثم فرضنا أنهم يعلمون المقدمات فعلاً، فهل يقدر المعلمون على تعليم ذلك كله مع علم التهذيب في ست وثلاثين ساعة وهو الوقت المعين لدرس هذه الأشياء كما تقدم؟ اللهم إن هذا ما لا يستطيع أن يتصوره عاقل وإنه لنقص فاحش وخلل فاضح في قانون تعليم المعارف، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (٦) كون هذه المسائل غير محيطة بالعقائد الدينية فهناك مسائل أخرى تجب معرفتها وليس بعد هذه السنة تعليم للعقائد وهذا نقص ضار منتقد، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا آخر. (٧) كون الكتاب الذي تعلم به هذه العقائد وما معها ليس مؤلفًا على الوجه الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قانون التعليم قبل تلك المسائل التي ذكرناها، ثم إن أثر تلك الغاية لم يظهر في تلامذة مدرسة من المدارس كلهم أو جلهم فنقول: إن المدار على المعلمين في الوصول إليها وهذا إهمال عظيم ونقص محسوس ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (٨) كون قسم الأخلاق الدينية لا وجود له في تعليم مدارس الحكومة وهذا نقص عظيم، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (٩) كون علم الحلال والحرام مهملاً لا وجود له في التعليم الديني وهذا النقص قبيح، والغاية من تعليم الدين لا تتم إلا به، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (١٠) كون مسائل العبادات التي تدرس في السنة الرابعة غير كافية وغير مؤدية إلى الغاية المطلوبة، وكون الوقت المخصص لتعليم العبادة غير كافٍ، وهذه أنواع من النقص والخلل جعلناها واحدة؛ لأنه تقدم في قسم العقائد نظيرها. ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. وقد طال الكلام في انتقاد تعليم القسم الديني ومن بين لنا خطأ في شيء منه فإننا نرجع عنه؛ لأن قصدنا الإصلاح لا إظهار العيوب. وسنتكلم عن النقص في سائر الأقسام فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))