للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام
(٢)

كلمة الأستاذ منصور فهمي
أيها السادة:
منذ أكثر من عشرين عامًا - ونحن صبية في أيام الدراسة الأولى - أذكر
أنني كنت مع رفيق لي في شارع الدواوين.
قيد أبصارنا على مقربة من باب إحدى تلك الدواوين مرأى شيخ معمَّم أشيب،
ربع القامة، مهيب الطلعة، لطيف المشية.
نظرنا إلى الشيخ نظرة المتفرج المتعجِّب، حتى دخل الديوان، وتوارى عن
أبصارنا، قال صاحبي ذلك هو الشيخ عبده، فقلت: كان ينبغي أن نحييه،
وعاتبت رفيقي على أنه لم يبدأ بالتحية، فأتبعه، وعاتبني إذ لم أكن البادئ،
فيتَّبعني، ثم حمل كل معنا رفيقه إثم ذلك التقصير، وانتحل كل منا لنفسه ما
استطاع أن يدفع به عن نفسه من المعاذير.
سرنا في سبيلنا، واستبقى خيالي صورة ذلك الشيخ الذي كنت رأيته للمرة
الأولى، وأخذت تمر أمام نفسي تلك الأقوال التي كانت تقذف حول اسم ذلك الرجل
الجليل.
أخذت أتصوَّر معنى الإصلاح؛ لأني كنت أسمع أنه من المصلحين، ومعنى
العلم؛ لأني كنت أسمع أنه من أكبر العلماء، ومعنى الخروج عن المألوف؛ لأني
كنت أسمع أنه من الذين خرجوا عن المألوف الذي لا يعتمد على حق، ولا على
عقل، ومعنى العظمة؛ لأني كنت أسمع أنه كان عظيمًا.
أخذت المعاني المختلفة تتوالى على ذهني الضعيف الغضّ؛ لأن الأحاديث
التي كانت تدور حول اسم الشيخ كانت مختلفة الألوان أيضًا.
ما كنت أستطيع وقتئذٍ أن أدرك حق الإدراك معنى العلم، ولا معنى الخروج
عن المألوف، ولا معنى العظمة، ولا معنى الإصلاح، كنت لا أدرك ذلك، زميلي
مثلي لا يدرك تلك المعاني أيضًا، ولكننا كنا نشعر بشيءٍ واحدٍ - هو رغبتنا
الصادقة في أن نؤدي لذلك الرجل تحيتنا إكبارًا له وإجلالاً.
كنا نرغب في ذلك أيها السادة، كان في نفوس الصغار والسذج حسًّا يدركون به
معنى العظمة وشعورًا خاصًّا يتبيَّنون به مَيْزَة الرجل العظيم، رغم ما يسترها من
أقوال المتقوِّلين، وذم الحاسدين، وثائرة الجاهلين.
قضى القضاء - أيها السادة - أن تكون تلك المرة التي رأيت فيها الشيخ هي
الأولى والآخرة، ولكن الله يريد أن أقف اليوم لأحيي الشيخ تلك التحية التي كنت
أريد أن أقدمها إليه منذ عشرين عامًا.
نعم، أيها السادة كنت أريد أن أحيي ذلك الرجل، وأنا صبي في بداية العمر
وبداية العلم، واليوم أتقدم لتحيته، وأنا أخدم العلم الذي كان الشيخ يخدمه،
وأحصل ثمارًا كان الشيخ يعمل على إنضاجها، وأعين على تغذية أذهان طالما أراد
الشيخ أن تشبع علمًا.
كنت أريد أن أحيي الشيخ من عشرين عامًا؛ لأني كنت أشعر أنه عظيم
وممتاز، والآن أتقدم لتحيته، وقد أصبحت أدرك شيئًا من معاني العظمة والامتياز.
العظمة - أيها السادة - واسعة، واسعة تتضاءل أمام سعتها وهَيبتها كل
المعاني.
العظمة من المعاني التي إذا مست الكون ينعدم عندئذ الفاسد، ويتلاشى الحقير،
ويظهر الصالح، ويعلو الكبير.
العظمة متحركة لا تعرف القرار والسكون، وتمتد كاللهب المستعر في كل
جهة، وتعمل - فيما يصيبه - عملها النافع.
لا تعرف القرار؛ لأنها تجري وراء الكمال وأمام الكمال ...
على ذلك يكون الرجل العظيم هو الذي يريد أن يعوض الناقص بالكامل،
ويعتمد على نفسه الملتهبة الحارة، لا يريد أن يقف حيثما يقف الناس؛ لأنه يرى
الحياة سائرة، والكمال سائرًا، وهو يسير أينما سارا، لا تكون نفسيته حيث تكون
نفسيات الناس؛ لأنها كبيرة تمتد في الوجود اللانهائي، ونفسيات عامة الناس
صغيرة متضائلة لا تسد في الوجود إلا فراغًا يسيرًا.
تلك هي بعض صفات العظيم، فهل كان الرجل الذي نذكره اليوم على شيء
من هذه الصفات؟ !
إن مَن يطلع على حياة الشيخ يتبين القوة العظيمة التي كانت تقوم عليها نفسه
الكبيرة، وأدلّ دليل على ذلك أن الأعمال - التي اتصلت بها جهوده - وقع فيها
حرب بين أسلوب القديم وأسلوب الجديد، وكان هو حامل لواء الثاني، وكان في
جهاده مظفرًا منصورًا.
أليس هو الذي عند اتصاله بصناعة الصحافة والتحرير - أدخل في التحرير
أسلوبًا أصح، ووجه الكتابة العربية وجهة الدقة والطلاوة.
أليس هو الذي أدخل الأساليب الحديثة في التعليم الديني عن اتصاله بإدارته؟
أليس هو الذي أجهد نفسه؛ ليربط العلوم الإسلامية بالينابيع الصحيحة
الواسعة، ويوجهها وجهة الطرق العلمية الصحيحة؟
أليس هو الذي كان صوته عاليًا في محاربة الاستبداد والجمود أينما تكون؟
أليس هو الذي أكبر شأن الإفتاء عن اتصاله بذلك المنصب الكبير، وأخذ
يفتي في أقطار الإسلام المختلفة بمسائل دقيقة، فتح بها للإفتاء الشرعي مسلكًا جديدًا؟
أليس هو الذي كان يوفق بين روح المحافظة وروح التجديد وروح الدين
وروح العلم حتى يُستفاد من حسناتها جميعا؟
أليس هو من أصحاب الفضل في المناداة بحرية الفكر، واحترام استقلال
الرأي؟
إن الجيل الناشيء مدين للشيخ عبده بتعوُّد التسامُح، وتقدير فوائد الاستقلال
الفكري، وقد جهر الشيخ بفضل ذلك في خطبة ألقاها بتونس؛ إذ يقول:
(أقول قولي هذا، ولا أريد به إلزام سامعه بقبوله، وإلا خالفت ما أدعو إليه
من استقلال الفكر وحرية الرأي ... ) .
إن الجيل الحاضر يقدر له بلاءه الحسن في احترام الرأي القائم على التفكير،
ويجب أن يقدر له المشغلون بالعلم صيحته الصارخة بوجوب تعديل التعليم، بحيث
يخرِّج العلماء المشتغلين بالأبحاث العقلية المحضة.
قال بذلك في وصيته السياسية التي كتبها بالفرنسية إلى الكونت دي جريفيل،
فنشرها في مؤلَّفه (مصر الحديثة) في ٦ يونيو سنة ٩٠٥، أي قبل موته بنيِّف
وثلاثين يومًا، وسينشر أخونا الدكتور طه حسين تعريب هذه الوصية قريبًا.
قال الشيخ - في هذه الوصية -:
(إذا نظرنا إلى التعليم الذي تنشره الحكومة من حيث قيمته، فنحن
مضطرون إلى أن نلاحظ أنه لا يكاد يقدر إلا على تكوين رجل محترف بحرفة،
يكتسب بها الحياة، ومن المستحيل أن يستطيع هذا التعليم تكوين عالم أو كاتب أو
فيلسوف، فضلاً عن تكوين نابغة، وكل ما لدينا من المدارس التي تمثل التعليم
العالي في مصر إنما هي مدرسة الحقوق والطب والهندسة، وأما بقية الفروع التي
يتكوَّن منها العلم الإنساني فقد ينال منها المصري أحيانًا صورًا سطحيةً في المدارس
الإعدادية، ويكاد يكون من المستحيل أن يتقن منها شيئًا، وهو - في الغالب -
مُكره على أن يجهلها جهلاً تامًّا، وذلك شأن العلم الاجتماعي وفروعه التاريخية
والخلقية والاقتصادية، ذلك شأن الفلسفة القديمة والحديثة والآداب العربية والأوروبية
والفنون الجميلة أيضًا، كل ذلك مجهول لا يدرس في مدرسة مصرية، والنتيجة أن
في مصر قضاة ومحامين وأطباء ومهندسين، تختلف كفاءتهم قوةً وضعفًا في احترام
حرفهم، ولكنك لا ترى في الطبقة المتعلمة الرجل الباحث، ولا المفكر، ولا
الفيلسوف، ولا العالم، لا ترى الرجل ذا العقل الواسع، والنفس العالية، والشعور
الكريم، ذلك الذي يرى حياته كلها في مثل أعلى يطمع فيه، ويسمو إليه) .
يتبيَّن لكم مما تقدم - أيها السادة - أن الشيخ كان مبشرًا بدار العلوم العقلية
العالية، ولم يمضِ قليل من الزمن حتى أُنشئت الجامعة المصرية صدى لأمنيته
الكبيرة العالية.
لا نزال إلى اليوم نحتاج إلى مثل هذه الصيحة، تنبِّهنا إلى أننا نريد علومًا
توجِد فينا رجالاً واسعي العقول.
نريد علومًا تُكَوِّنُ فينا أخلاقنا ومداركنا، وتُحَبِّبُ إلينا الحياة، أو تُبَيِّنُ لنا ما
يمكن أن يكون في العيش من جمال وسُمُوٍّ.
نريد ذلك الآن، وقد أراده الشيخ من قبل، وجهر به، وأوصى، فلا غرابة
وقد أخذت أمانيه تسير في سبيل التحقيق أن يقوم في الجامعة المصرية أحد أساتذتها
يذكر الشيخ بالحمد والتحية والإجلال.
أيها السادة:
إن الوقت الذي قُدِّرَ لي لأقف بينكم - ذاكرًا الشيخَ - لا يتسع لتعديد حسناته
في حياتنا الاجتماعية، ولكن حسبه من العظمة أنه كان من زعماء الدين ومن
زعماء الدنيا معًا.
توجه إلى شؤون التصوف والتُّقَى وفقه الدين، ولكنه لم يهمل شؤون الإصلاح
والعمران. فؤاد تولاه نور السماء، ولكنه وسع مسائل الأرض.
ذهن وفَّق بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
رجل وصل بين الأرض والسماء بسبب.
إنه لرجلٌ عظيمٌ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... منصورفهمي
... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ بالجامعة المصرية

***
قصيدة حافظ إبراهيم بك
آذنت شمس حياتي بمغيب ... ودنا المنهل يا نفس فطيبي
إن مَن سار إليه سيرنا ... ورد الراحة من بعد اللغوب
قد مضى (حفني) وهذا يومنا ... يتدانى فاستثيبي وأنيبي
وارْقُبيه كل يوم إنما ... نحن في قبضة علام الغيوب
اذكري الموت لدى النوم ولا ... تُغفلي ذكرته عند الهبوب
واذكري الوحشة في القبر فلا ... مؤنس فيها سوى تقوى القلوب
قدِّمي الخير احتسابًا فكفى ... بعض ما قدمت من تلك الذنوب
راعني فَقْد شبابي وأنا ... لا أراع اليوم مَن فقد مشيبي
حَنَّ جنباي إلى برد الثرى ... حيث أنسى من عدو وحبيب
مضجع لا يشتكي صاحبه ... شدة الدهر ولا شدّ الخطوب
لا ولا يُسئمه ذاك الذي ... يسئم الأحياء من عيش رتيب [١]
قد وقفنا ستة [٢] نبكي على ... عالِم المشرق في يوم عصيب
وقف الخمسة قبلي فمضوا ... هكذا قبلي وإني عن قريب
وردوا الحوض تباعًا فقضَوْا ... باتفاق في مناياهم عجيب
أنا مُذْ بانوا وولى عهدهم ... حاضرُ اللوعة موصول النحيب
هدأت نيران حزني هدأة ... وانطوى (حفني) فعادت للشبوب
فتذكرت به يوم انطوى ... صادق العزمة كشاف الكروب
يوم كفَّناه في آمالنا ... وذكرنا عنده قول (حبيب)
(عرفوا مَن غيَّبوه وكذا ... تُعرف الأقمار من بعد المغيب)
وفُجعنا بإمام مصلح ... عامر القلب وأوَّاب منيب
كم له من باقيات في الهدى ... والندى بين شروق وغروب
يبذل المعروف في السر كما ... يرقب العاشق إغفاء الرقيب
يحسن الظن به أعداؤه ... حين لا يُحسَن ظنٌّ بقريب
تنزل الأضياف منه والمنى ... والخلال الغرُّ في مرعى خصيب
قد مضت عشر وسبع والنهى ... في ذبول والأماني في نضوب
نرقب الأفق فلا يبدو به ... لامع من نور هادٍ مستثيب
وننادي كل مأمول وما ... غير أصداء المنادي من مجيب
دويَ الجرح ولم يقدر له ... بعد ثاوي (عين شمس) من طبيب
أجدب العلم وأمسى بعده ... رائدُ العرفان في وادٍ جديب
رحمة الدين عليه كلما ... خرج التفسير عن طوق الأريب
رحمة الرأي عليه كلما ... طاش سهم الرأي في كف المصيب
رحمة الفهم عليه كلما ... دقت الأشياء عن ذهن اللبيب
رحمة الحلم عليه كلما ... ضاق بالحدثان ذو الصدر الرحيب
ليس في ميدان مصر فارس ... يركب الأخطار في يوم الركوب
كلما شارفه منا فتى ... غاله المقدار من قبل الوثوب
ما ترى كيف تولى (قاسم) ... وهو في الميعة والبرد القشيب
أنسي الأحياء ذكرى (عبده) ... وهي للمستاف من مسك وطيب
إنهم لو أنصفوها لبنوا ... معهدًا تعتاده كف الوهوب
معهدًا للدين يُسقَى غرسُهُ ... من نمير فاض من ذاك القليب
ونسينا ذكرَ حفني بعده ... ودفنَّا فضله دفن الغريب
لم تَسِلْ منا عليه دمعة ... وهو أوْلى الناس بالدمع الصبيب
سكنت أنفاس حفني بعد ما ... طيبت في الشرق أنفاس الأديب
عاش خصبَ العمر موفورَ الحِجَى ... صادقَ العشرة مأمونَ المغيب
***
كلمة صاحب المنار [٣]
أيها السادة:
إن إخواني أعضاء لجنة هذا الاحتفال قد حدَّدوا وقته، وخصّوني بالكلمة
الختامية؛ لأنه مهما يَقُلْ مَن قبلي فإنه يسهل عليَّ أن آتيَ بشيء جديد؛ لسعة
وقوفي على تاريخ شيخنا الإمام الذي نحتفل بذِكْراه، ومعرفتي بشؤونه، وأن أجعله
على قدر ما بقي من الوقت؛ إذ لا أكون ملتزمًا لإلقاء كلام معين مرتبط بعضه
ببعض.
أيها السادة:
إن أخص صفات أستاذنا - الذي اجتمعنا لإحياء ذكراه - هو أنه إمام مصلح،
فهو في كل طور من أطوار حياته العملية كان يعمل لخدمة الناس وإصلاح شؤون
الأمة، ولم يكن يعمل لنفسه ولا لبيته شيئًا يُذكر، فلو أجملتُ تاريخ حياته في كلمة
مفردة لكانت تلك الكلمة هي (المصلح) .
طرق جميع أبواب الإصلاح، بل دخل فيها عالمًا عاملاً، مجيدًا متقنًا، حتى
تعلقت به آمال وطنه وأمته، بل آمال الشرق كله وأكبره العلماء والعقلاء والأذكياء
من كل أمة وشعب على اختلاف أديانهم ومشاربهم.
قال المشير أحمد مختار باشا الغازي علاَّمة الترك الشهير ورب السيف والقلم
في إكبار علمه وعقله: إنني أعتقد أن دماغ هذا الرجل أعظم دماغ عُرف، وإنه لو
وُزن لرجح بكل دماغ من أدمغة الرجال العظام الذين عرف الإفرنج وزن أدمغتهم
(كالبرنس بسمارك) ، ولما قرأت في الجرائد نبأ وفاته - وكان الغازي يومئذ في
أوربة - ضاق عليَّ المكان الذي كنت فيه؛ لأن الخسارة به لا عوض لها.
وأبَّنه الدكتور عبد الله جودت أحد كُتَّاب الترك المشهورين وأحد مؤسسي
جمعية الاتحاد والترقي في مجلته (اجتهاد) ، التي كانت تصدر في مصر باللغتين
التركية والفرنسية مرتين في العددين التاسع والحادي عشر من السنة الأولى، فجعل
عنوان الترجمة (الأموات الذين لا يموتون) ، فقال - في الأول منهما ما ترجمته
الحرفية -:
كان الشيخ محمد عبده - بلا خلاف - أحد النابغين الذين لا يدخلون في
طبقات الرجال، وإنما اللانهاية هي الحد الوحيد الذي ينتهي إليه عِلمُهم.
ثم قال: كان الشيخ محمد عبده مسلمًا حقيقيًّا على قدم النبي - صلى الله عليه
وسلم -. وقال - في العدد الآخر -: كان الشيخ محمد عبده مسيحًا ثانيًا مُنِحَ
للعالَم الإسلامي الذي كان دويّ سقوطه فيه يصخُّ مسامع ذوي الوجدان، ويمزق
أحشاء أصحاب الإيمان.
وكتب الدكتور إدوارد براون - العلامة الإنكليزي المدرس في جامعة كمبردج-
كتاب تعزية، قال فيه: (ما رأيت في الشرق ولا في الغرب مثله) .
وقال إبراهيم باشا نجيب المصري: (إن الناس لا يعرفون قيمة الشيخ محمد
عبده إلا بعد ثمانين سنة، أي بعد انتهاء جيلين في التربية الاجتماعية) .
وقال الدكتور يعقوب صروف صاحب المقتطف - لما أكثر المؤبِّنون في حفلة
الأربعين من وصف الأستاذ بكلمة فقيد الإسلام وفقيد مصر -: (إننا لا نرضى بأن
يكون فقيدكم وحدكم، بل نقول إنه أكبر من ذلك، إنه فقيد الشرق كله) .
وأزيد هنا كلمة مما ضاق الوقت عن ذِكْره هنالك، وهي أن السيد محمد
توفيق البكري سمع نبأ وفاة الأستاذ الإمام، وهو في أوربة، فلم يصدق الخبر،
فلما عاد إلى مصر أخبرنا بأنه لم يصدق الخبر إلا بعد عودته إلى مصر، وعلل
ذلك بأنه كان يخال أن الموت لا يتجرأ على الشيخ محمد عبده! ، وقال: لقد ترك
الشيخ فراغًا لا يسده أحد؛ فإنه كان كما قال المتنبي:
... ... ... ... ... مِلء السهل والجبل
ولو ترك مناصب الحكومة وعمل مستقلاً لأحدث انقلابًا عظيمًا.
أشار بعض الخطباء إلى ما كان من تحامل بعض الشيوخ عليه منذ أشرق نور
عبقريته بعد اتصاله بالسيد جمال الدين، حتى سعى بعضهم فيه إلى شيخ الأزهر
الشيخ المهدي العباسي عند امتحانه لشهادة العالِمية ليسقطوه فيه، وكانوا تقاسموا
بالله ليحرمنَّه من هذه الشهادة، ولكن الشيخ المهدي كان رجلاً كبيرًا لا يلتفت إلى
هذه السفاسف، فلما حضر امتحانه، ورأى ما رأى من نبوغه - على ما كان من
إعنات بعض مشيخة الامتحان له، وكيدهم لإيقاعه في الأغلوطات - حلف أنه ما
رأى مثله، وأنه أحق مَن يأخذ الدرجة الأولى بها، فقنع حينئذ أيهم أشد على الرجل
عِتيًّا بأن يأخذ الدرجة الثانية، وحلف بالطلاق أن لا يعدوها إلى الأولى، فبرَّ شيخ
الأزهر قَسَمه - مع اعترافه بأنه ظلم للممتحن - إطفاءً للفتنة.
كان أكثر تحامل مَن تحامل عليه من الشيوخ بغيًا منهم سببه في الأكثر الحسد،
وفي الأقل سوء الظن في رجل مستقل الفكر في العلم، يستدل فيحكم بالنفي أو
الإثبات، وقد قرأ الفلسفة، ولازم السيد جمال الدين، وإذا لم يكن العالِم العاقل،
المُدلي بالحجة فيما يأخذ ويترك، ظِنينًا في دينه، متهمًا في عقيدته، مهما يكن من
صلاحه واستقامته، فإلى مَن توجه التهم من هؤلاء الجامدين الذين لا استقلال
لعقولهم في علم ولا عمل؟
لكن الرجل على ما أُوذي في الله من أول ظهور فضله إلى يوم لقاء ربه - لم
ينل أحد بعض ما نال من الاحترام عند أمم الشرق والغرب، وعند جميع الطبقات
من قومه، في حياته وبعد مماته، فقد كان طلاب الإصلاح العلمي الديني وطلاب
الإصلاح المدني، وطلاب إصلاح الحكومة على مذاهب فيها، وكل منهم يعده إمامًا
وزعيمًا للأمة فيما يرجوه، ويطلبه لها، وقد صرح بهذا أصحاب المقتطف والمقطم
في ترجمتهم له عند وفاته، فهو قد وصل بإجماع الطبقات والفئات المفكّرة على
علمه وفضله إلى مقام الزعامة الذي كان يُرجى أن يزيل به الخلاف بين الدين
وأهله، وبين العلم العصري والمدنية ورجالهما، ففقدته مصر وسائر بلاد الشرق
في أشد أوقات حاجتها إليه، ولكنها إنما فقدت شخصه، ولم تفقد رأيه وهَدْيه، ولقد
كانت إلى عهد وفاته لم يكمل استعدادها للنهوض معه؛ ولذلك كان يقول: (ويح
الرجل الذي ليس له أمة) .
حقًّا، إن اتفاق كلمة الأحزاب المختلفة من طلاب الإصلاح الديني والمدني
على زعامة هذا الإمام - جدير بأن يُعَدَّ من خوارق العادات، فهو على ما كان
معروفًا به من قوة التديُّن والغيرة على الإسلام، والاجتهاد في الإصلاح الذي يرتفع
به شأنه - كان محل رجاء غير المسلمين من علماء الشرق، ورجاء مَن لا يشغل
الدين محلاً من قلوبهم، بأنه هو الرجل الذي يمكن أن يقود نهضة الشرق - كما قال
الدكتور صروف، وكذا غيره من أدباء النصارى - (كما يعلم من أقوال بعضهم
في تأبينه ورثائه التي نشرناها في الجزء الثالث من تاريخه) .
وإنني أبيِّن هنا بالكتابة ما ضاق الوقت عن بيانه في الحفلة من سبب ذلك،
وهو أن أكثر أهل الشرق الأدنى مسلمون معروفون بشدة الاستمساك بدينهم، وقد
حال سوء فهمهم للإسلام دون مجاراتهم للشعوب العزيزة القوية في مضمار العلوم
والفنون والترقي والحضارة، حتى ساء ظن بعض المفكرين فيه، وظنوا أنه هو
المانع من الترقي، من حيث هو باعث عليه، ويتعذَّر إنهاض الشرق بدونهم،
وإنهاضهم بدون إصلاح ديني يتفق به الدين مع العلم والحضارة، ويُعلم به أن
العقيدة الإسلامية لا تنافي الوحدة الوطنية؛ لذلك شهد لورد كرومر بأن الحزب
الإسلامي الذي كان زعيمه الشيخ محمد عبده هو الحزب الوسط بين الحزب
المحافظ على التقاليد العتيقة، الذي يحارب المدنية وينبذها، وبين حزب
المتفرنجين المارقين من الدين، وأنه هو الحزب الذي يُرجَى أن تنهض به البلاد.
وقد سئل اللورد عن الشيخ هل كان متساهلاً في الإسلام؟ ! ، فقال: بل هو
متعصب له أو فيه، ولكن بعقل!
ذكر خطيبنا الأستاذ الشيخ مصطفى ما توجهت إليه همة الأستاذ الإمام أخيرًا
من بناء قواعد الإصلاح كلها على التعليم وتربية الأمة، وأزيد عليه أن أهم أركان
التربية عنده (تربية الإرادة) التي يتوقف عليها كل إصلاح وكل نهوض،
وأكتفي في هذا الوقت الضيق بكلمة واحدة له فيها.
قال لي مرة: والله لو أن في مصر مئة رجل لما استطاع الإنكليز أن يقيموا
فيها، أو لما استطاعوا أن يعملوا فيها عملاً، إن عندنا مئين وألوفًا كثيرة من
المتعلمين الذين يستطيعون القيام بالأعمال المختلفة في جميع الوظائف، ولكن
أكثرهم ضعفاء الإرادة، لا يُرجى منهم شيء.
(وههُنا ناشد الخطيبَ صديقُهُ الشيخ علي سرور الزنكلوني بأن يختصر،
ويَدَعَ له وقتًا يقول فيه كلمة، فختم كلامه بالتنبيه إلى إحياء مبادئ الأستاذ الإمام) .
***
كلمة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني
أحد علماء الأزهر
أيها السادة:
إن اللجنة المحترمة لم تتح لي - في ضمن قراراتها - القول مع القائلين في
هذه الحفلة المباركة لضيق الوقت، وكثرة الخطباء، ولكن أبى الله إلا أن يتسع لي
الوقت، فأقول كلمتي في إمامٍ لي شرفُ الانتساب إليه، وقد أرى مِن الغبن أن
أُحرَم الحديث عنه في مثل هذا اليوم، وقد أذنت لي اللجنة الآن، وأنا على غير
عدَّة، فأشكرها على هذا التساهل العظيم.
أيها السادة:
إن الأستاذ الإمام الشيخ محمدًا عبده كان آية من آيات الله تعالى، فقد مضى
على مفارقته لهذه الحياة سبعة عشر عامًا تقريبًا، والأمة لم تحتفل بإحياء ذكره،
وليس من المعقول أن تبرز الفكرة في هذا اليوم واضحة جلية، والأمة منها في
شوق، ولها على استعداد تام - كما ترون - ولا يكون المحتفَل به آية من آيات الله.
إن آيات الله تعالى الثابتة في الكون مهما طال عليها العهد لا بد أن ترجع إليها
العقول المتحيِّرة؛ لتستنير بها في المستقبل؛ لأنها لم تُخلق خلقًا عاديًّا، يتناسى
بمجرد مفارقته للحياة الأولى، ولكنها تبرز للوجود في إمداد خاص، فينتفع بها
الآخرون، كما انتفع بها الأولون.
أيها السادة:
إن إحياء ذكرى الأستاذ الإمام - بعد مُضيّ هذه المدة - يُعد فألاً حسنًا في حياة
مصر، وبشرى يترقب من ورائها النصر والظفر؛ إذ الأمة التي تستطلع آيات
الماضي في أوقاتها العصيبة؛ لتسترشد بها في حياتها المستقبلة - لهي الأمة التي
قويت عقليتها، ونمت حياتها، وإذًا لا ضَيْرَ عليها ولا خوف، مهما تلوَّن فيها
العذاب، واشتدت بها الخطوب.
إن الأستاذ الإمام لا بد أن يكشف المستقبلُ القريبُ للأمة عن حقيقته الواقعة
والواضحة في نفوس أصدقائه وطلابه.
إن الأستاذ الإمام قد أجمع أصدقاؤه وأعداؤه معًا على أنه نابغة من نوابغ
عصره، وإن اختلفت أنظار الفريقين في مَدرك جهة النبوغ، وعندي أنه مع نبوغه
وتفوُّقه على أقرانه في كثير من مسائل الوجود المعروضة على البحث، هو عبقري
من كبار العبقريين في نظرياته الدينية، التي ليست لها صورة واضحة في دين
الإسلام [٤] ، وخصوصًا فيما يتعلق بالعلم ونظام التعليم.
أيها السادة:
إن أكبر آية تدل على عظمة الأستاذ في نفوس الأمة ازياد تعلُّق القلوب به بلا
سبب عادي يحال عليه ذلك التعلق وراء الفضيلة المجردة والنبوغ والعبقرية؛ لأنه
وإن كان رجلاً سياسيًّا ومدنيًّا، إلا أن السياسة لم تكن من مظاهره الواضحة، بل
كان مظهره الحقيقي والرسمي أنه رجل ديني من كبار علماء الدين، وليس الدين
في مصر عوامل قوية نحيل عليها تفكير الناس في إحياء ذكره، بل الدين - كما
ترون - ذابل في جو الفساد المنتشر الذي ينتزع الحق والفضيلة انتزاعًا، ولو أن
الأستاذ الإمام كان مظهره سياسيًّا لما بلغ منا العجب مبلغه، إذا فكرت الأمة بعد هذا
الزمن الطويل في إحياء ذكره؛ لأن الحياة السياسية فتيَّة في العالم، ونامية ملتهبة،
متمشِّية مع العواطف، ومتغلغلة في نفوس الخاصة، والجماهير ترتكز على أقل
الأسباب.
أيها السادة:
إن الأستاذ الإمام قد كان محبوبًا عند الخاصة، وكانوا في زمنه قليلين، وكان
مُصادَرًا من الجماهير تبعًا لمصادرة رجال الدين له، وقد افترق العقلاء في كل
فكرة تصادفها المعارضة على فرقتين: هل الحق مع الأقلية أو الأكثرية؟ .
وعندي أن المسألة واضحة لا تحتاج إلى احتدام الجدل وتشعب الآراء، إن
الحق يكون مع الأقلية دائمًا إذا كانت الأمة سائرة في حياة تقليدية، مضى على
العمل بها زمان طويل، فتحكَّمت في النفوس، سواء أكانت الحياة دينية أم مدنية،
والأمة في دور جهالتها، ثم جاءها رجل من أبنائها - أو من غير أبنائها - وله
عقلية راجحة، وشخصية واضحة، فدعاها إلى الإصلاح بالحجة والبرهان، ولفتها
إلى دلائل الحياة الصحيحة ونماذجها، فصادمته، ولم تذعن له بادئ ذي بدء، اللهم
إلا النزر القليل؛ لأن عقولها محصورة في دائرة حياتها الموروثة، ومن الصعب
أن تتخطَّى تلك الدائرة بسهولة، قبل أن يصادفها شيء من التهذيب بالتجرِبة
والتعليم، ففي هذه الحالة يكون الحق دائمًا مع الأقلية، وعلى هذا النحو كانت حياة
الأنبياء وكبار المصلحين، وقد كانت معارضة الأستاذ الإمام من هذا القبيل.
وأما إذا نزل بالأمة حادث ديني أو مدني، فاصطدمت به العقول، واحتدم فيه
الجدل، وانقسم المفكرون إلى قسمين، تبع الجمهور فيه أحد الفريقين، فالحق في
تلك الحالة - بلا ريب - مع الأكثرية، خصوصًا إذا كانت الأقلية بجانبيها القوة
المجردة؛ لأن الجمهور لا يسير إلا في طريق الأمارات الظاهرة، والدلائل
الواضحة، البعيدة عن المخارف، والبريئة من الظنون والشكوك، وليس الجمهور
في تلك الحالة سائرًا بعقليته الساذجة، وإنما هو تابع من جهة لطائفة من المفكرين،
قد أناروا له الطريق، ومنساق من جهة أخرى بما أودعه الله في فطرته السليمة من
الاستعداد لقبول الحق بسرعة، وهي الفطرة القوية التي نصر الله بها الأنبياء
والمرسلين.
أيها السادة:
إن تبعة إهمال ذكرى الأستاذ الإمام - في هذه المدة الطويلة - لا يجوز أن
تُلْقَى على عاتق المعاهد الدينية؛ فإن هذا النوع من الحفاوة لم يكن معروفًا لهم، ولا
مألوفًا عندهم، وقد أدوا للأستاذ الإمام أكبر ما يعرفون من الحفاوة والذكرى بالترحُّم
عليه كلما ذكروا الاستدلال بأقواله إذا أظلم عليهم الأمر، والتمسك بمبادئه،
والنهوض في سبيل تعليمه وإرشاداته، حتى إن مذهبه لَيزداد انتشارًا في كل يوم،
خصوصًا بين الطلاب، وإن المعاهد الدينية - بفضل إرشاداته - سائرة في طريق
الرقي والإصلاح الذي كان ينشده - رحمه الله تعالى - فالحمد لله على نعمة التوفيق،
والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... علي سرور الزنكلوني ...
... ... ... ... ... ... ... ... من علماء الأزهر
بهذه الكلمة انتهى ما قيل في الحفلة، وانفضَّ على أثرها الاجتماع.
***
بعض ما أُرسل إلى اللجنة من منظوم ومنثور
قصيدة قديمة
لصاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية / عبد الرحمن قراعة
لما ولي الأستاذ الإمام إفتاء الديار المصرية نظم الأستاذ الفاضل الأديب عبد
الرحمن قُرَّاعة (مفتي الديار المصرية) لهذا العهد قصيدة بليغة هنَّأه بها، وهذا
الأستاذ يفتخر بأن الإمام قد أجاز قوله له مرة: إنه أصغر إخوانه، وأكبر أولاده،
ذلك بأنه حضر معه دروس بعض شيوخه، ومنهم السيد جمال الدين، وحضر عليه
بعض ما قرأه من الكتب، وقد نشرت تلك القصيدة في المجلد الثاني من المنار،
وقد نسخها الأستاذ أحمد زكي باشا؛ لتُقرأ في الحفلة لقوة المناسبة التي لا يغفل عنها
الباشا، وهي أن هذا الاحتفال لإحياء ذكرى مفتي الديار المصرية، ويرأسها خَلَفه
في إفتاء الديار المصرية، فناسب أن تُتلَى فيه قصيدة لخلفه في إفتاء الديار
المصرية، ولكن الوقت لم يتسع لإنشادها، ولإبداع أحمد زكي باشا في شرح هذه
المناسبة لها، فاقترح على اللجنة أن تنشرها فيما تطبعه من بيان احتفالها، وهي:
بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي ... ومن فيض هذا الفضل نجدى ونجتدي
سمت بك للعلياء نفسٌ أبيَّة ... وعزمة ماضٍ كالحسام المجرَّد
ورأي رشيد في الخطوب وحُنكة ... وتجرِبة في مشهد بعد مشهد
وعلم كنور الشمس لم يكُ خافيًا ... على أحد إلا على عين أرمد
فضائل شتى في الأفاضل فرقت ... ولكنها حلت بساحة مفرد
ولو جاز تعدادي لها لعددتها ... ولكنها جازت مقام التعدد
ففِيمَ أطيل القول والشعر قاصر ... وماذا يفي قولي ويغني تزيُّدي
أمولاي يا مولاي دعوة مخلص ... تقول فيصغى أو تؤم فيقتدي
لكل زمان من بنيه مجدد ... لما أبلت الأهواء من دين أحمد
وقد علم الأقوام أن محمدًا ... مجدد هذا الدين في اليوم والغد
يمينًا بمَن بالفضل خصص (عبده ... محمدًا) الداعي لهدْي محمد
وقلده عِقدَ الفتاوى فأصبحت ... تتيه به الفُتيا بخير مقلد
لتخترقنَّ الحجب بالرشد لا الهوى ... وتبني منارَ الحق بالفكر واليد
فتوضح من إشكاله كل غامض ... وتفتح من أبوابه كل موصد
إليك أزفّ المدح شعرًا مقصدًا ... على بُعد عهدي بالقريض المقصد
لأبلغ نفسي بامتداحك سُؤلها ... وأقضي حقًّا لم يمكن بمجدد
فجاء على قدري ولكن شافعي ... لدى قدرك السامي نبالة مقصدي
وهنّأتُ نفسي ثم هنّأت معشري ... وهنأت أوطاني بما نال سيدي
وقلت لمصر هنِّئيه وأرخي ... (بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي)
سنة ١٣١٧ ... ... ... ... ... ٤١ ٩٠ ٥٢٧ ١٣٩٤١ ٥٦٩
لقد سبق التاريخ عشرًا فلم أجد ... من الياء بُدًّا بعد طول تردد
فزِدت كما أبغي ومَن يُلف مخلَصًا ... من النقص يطلب للكمال ويزدد
فلا زلت يا مولاي فينا محسدًا ... وحاسدك المغبون غير محسَّد
(نُشرت في مجلة (المنار) الإسلامية، عدد ٢٤ سنة ١٨٩٩)
***
محمد عبده
للشاب النجيب محمود أفندي كامل [٥]
(نجل الأستاذ العالم العامل محمد علي بك كامل المحامي الشهير)
في مثل هذا الشهر من سبعة عشر عامًا مضت، رشق الدهر قلب مصر بسهم
أدماه، وهبت عواصفه على أهل الكنانة، فأثارت لوعتهم، وتركت في كل دار
مأتمًا، لم يشفق، أجل لم يشفق ذلك الدهر الغلاب على أبناء مصر، فأخذهم على
غِرَّةٍ.
اختطف من بين أحضانهم أباهم الحنون - وهم فرحون بالنظر إليه، جذلون
لقربهم منه - فقلب أفراحهم أتراحًا، وبِشْرهم عبوسًا، اختطف أمهم الرؤوم التي
كانت ترضعهم من ثديها أفاويق رنقها الكمال، واكتنفها الجلال.
اختطف قائدهم الذي كان يرفع - وهو في مقدمتهم - نبراس الحق؛ ليُنير لهم
الصراط المستقيم، فلا يضلوه.
اختطف الحكيم الوقور، الفيلسوف القدير، الشهم الهمام، الأستاذ الإمام الشيخ
(محمد عبده) .
إن لموت العظيم - خصوصًا إذا كان كفقيدنا، وفي ظروف فقيدنا - من الأثر
في نفوس قومه ما يقف قلم أقدر الكُتاب عن أن يسطر وصفه، ويعجز أفصح
الخطباء عن إيفائه حقَّه، حزن شامل يعم الأمة، ويضع غشاوة كثيفة تحجب عن
الأبصار الأفراح، وتنهُّدات تخرج من أعماق نفوس مكتومة، وحسرات تختلج في
قلوب دامية، وأكباد حرَّى، وأفكار سوداء صامتة، تتخيَّلها الأفئدة المكلومة،
ونظر إلى العالم كأنه ضاق على رحبه، وشعور بالوحدة، وحاجة إلى العُزْلة، هذا
ما كان يشعر به أولئك الشجعان الذين حضروا موت عظيمنا، أجل أسميهم شجعانًا،
ولا أكون مغاليًا؛ لأنهم صبروا على تحمُّل تلك الكارثة العظمى، والمصيبة
الكبرى، وهذا ما نشعر به نحن الآن، وقد قمنا لإحياء ذكرى ذلك الراحل الكريم
الذي خرج من صَدَفَة مصر؛ فصار درة يتيمة في تاج الشرق، تخطف الأبصار،
وتُلْقِي الهيبة في القلوب.
ليتني كنت في أيامه أقتفي آثاره، وأترسَّم خطواته، أرتشف من منهل علمه
العذب، وفضله الفياض، أتخذ من أعماله عظة وعبرة، تكون لي درسًا في حالي
واستقبالي، أنصت إلى عظاته البليغة، فتكون على نفسي بردًا وسلامًا، أقصده إذا
التبس عليَّ أمر، فيستبدل شكِّي باليقين، أجتهد أن أشابهه، فأسمو نفسًا وعلمًا
وخلقًا.
إننا نُجِلُّهُ ونُجِلُّ فيه كل شيء، نُجِلُّ أنفته ونفسه العالية، نُجِلُّ إقدامه وصبره
وجَلَده، نجل كماله وورعه وتقواه، نجل غيرته وهمته الشمَّاء، نجل أمانته
ونزاهته وشهامته، نجل قيامه بالواجب على الوجه الأكمل، نجل عبقريته التي
تطأطئ لها هامات أكابر العلماء الأفذاذ، نجل وطنيته الحرة، تلك الوطنية التي
كانت تعمل، وهي صامتة.
(إن فناءً في الحق لَهو عين البقاء) كلمة مأثورة خرجت من فم ذلك العظيم،
فكانت من جوامع الكلم، كلمة انطبقت على نفسه الكريمة تمام الانطباق، كلمة
(يا حبذا) لو عرف معناها الدنيويون، وتشرَّبت بها نفوسهم.
نعم، قمنا بعد سبعة عشر عامًا ننشر للملأ آية سافرة من إخلاص، وولاء
ذلك الرجل لوطنه ودينه، ومثلاً حيًّا للعبقرية الشرقية والنبوغ المصري، وخير
مثال للعظمة يحتذي مثالَه طلابُها، ويتخذه قدوةً عشاقُها.
فسلامٌ على تلك الهمة الوثابة التي كتم القبر أنفاسها، وكبح الثرى جماحها.
سلام على تلك السجايا التي تأصلت جذورها في نفسه، فلم يقدر على
اقتلاعها إلا الموت.
سلام على تلك الروح الطاهرة التي ترفرف الآن في سماء الخلود.
سلام على تلك العبقرية التي ظهرت ظهور الشمس تبدد فلول الظلام.
سلام على تلك الهبة الكتابية، والميزة الصحفية التي وقفها على تقويم
اعوجاج أمته، والأخذ بيدها.
سلام على تلك الهيبة والمكانة الرفيعة التي لم تُحدث في نفسه أي إعجاب أو
كبرياء.
سلام على ذلك الشعاع الوهَّاج الذي كان يؤثر في القلوب، ويكبل الإرادة
فحجبت ظلمة القبر لمعانه.
سلام على ذلك المجد الطريف، والسؤدد المنيف، والعزة والوقار.
سلام على ذلك الإيمان الراسخ، والعقيدة الثابتة والصلاح والورع.
سلام على ذلك الضمير الحي الذي عرف الواجب فأداه، والجميل فأولاه.
سلام على ذلك الوجدان الراقي الذي كان ينبض لبؤس الناس، ويفرح لفرحهم.
سلام على مَن كان للإسلام علمًا فانطوى، وللوطنية نصيرًا فانزوى.
سلام على سعادة زائلة ذاق حلوها بعضنا، ثم ذهبت فأصبحت أثرًا بعد عين.
سلام عليه ما دام فينا عرق ينبض، ونفس تشعر.