للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية
يعلم قراء المنار مما كتبت فيه بشأن انتصار إخواننا الترك على اليونان في
الحرب، وعلى الإنكليز في السياسة بعض ما كنت عليه من الغبطة والسرور ,
وإنما هو بعض ما كان في قلبي , ويعلمون أنني نوهت بقواد الترك وزعمائهم ,
وفضلتهم على جميع من تصدى لزعامة العرب في هذا العصر , ولا سيما الشيخ
حسين بن علي المكي وأولاده ولا سيما فيصل وعبد الله الذين جاهرت بجهادهم في
المنار وغيره من الصحف منذ ألغيت المراقبة على الصحف في مصر.
ولكنني على ما كان من إعجابي ببسالة مصطفى كمال باشا زعيم هذه النجدة ,
وقائد هذه الغزوة , لم أره مستحقًّا للقب بطل الإسلام الذي منحه إياه بعض الصحف
الإسلامية بمصر وغيرها , ثم ندموا ووصفوه بعداوة الإسلام , بل كان هذا مما
أنكرته على أشهر المنوهين به من كبار كتاب الصحف , لكن قولاً لا كتابة؛ لأنني
كنت أعلم علمًا إجماليًّا أنه قائم بالعصبية التركية , ولها يعمل لا للإسلام , ثم صار
هذا الإجمال علمًا تفصيليًّا عندي قبل جماهير المسلمين وغيرهم.
وأما محمد عبد الكريم القائد العربي لجيش الريف المغربي ممزق الزحوف
الأسبانية , وهازمها , وقاتل قوادها , ومذل دولتها. فإنني أحليه بلقب بطل العرب
والإسلام بحق , بل نقول: إن ما اطلعنا عليه من بلائه وهو أقله يثبت أنه قد فضل
جميع قواد الدول وزعماء الأمم في نهضاتها الحربية والإدارية لا مصطفى كمال
باشا وحده , وحسبنا في امتيازه على هذا مقال الكاتب السياسي الشهير صديقنا
الأمير شكيب أرسلان , الذي نشرناه في الجزء التاسع (م ٢٤) , وهو أول من
أطلق عليه لقب بطل الإسلام من كبار كتاب السياسة المسلمين.
فأما كونه بطلاً في نفسه فقد ثبت بعمله الذي أعجب به العالم كله , ونوهت به
صحف الشرق والغرب لجميع الأمم والملل , ولما يوفه أحد ما استحقه من الثناء
فيما نعلم , وأما كونه بطلاً للإسلام؛ فلأنه قائد مسلم نهض بطائفة من المسلمين
لإنقاذ بلاد إسلامية من استعباد شعب متعصب , استأصل بتعصبه الديني مسلمي
الأندلس بالسيف والنار , حتى لم يبق منهم فى تلك البلاد التي جعلوها أرقى بلاد
العالم كله عمرانًا , وحضارة - ديارًا , ولا نافخ نار , بل كل من لم يتنصر منهم ,
ولم يغادر البلاد ناجيًا بنفسه - قتل شر قتلة.
وأما كونه بطلاً للعرب؛ فلأنه هو وقومه المجاهدون في سبيل الله لحفظ
حريتهم ودينهم ووطنهم من العرب لغة ودينًا وأدبًا , وإن كان بعضهم ليس منهم
نسبًا , ولأن سلفهم من مسلمي الأندلس الذين ثاروا لهم كانوا من صمم العرب،
على أنهم لم يقصدوا الثأر , وإنما جهادهم دفاع عن النفس , وقد أيدهم الله تعالى
بالنصر بمثل ما أيد سلفهم بقيادة كبار أبطالهم من قبل.
فإن كان تأثير عمل محمد عبد الكريم في العالم الإسلامي أقل من تأثير عمل
مصطفى كمال باشا ورجاله , فليس لأنه دونه؛ بل لأن الدولة العثمانية التي كانت
مشرفة على الزوال أعظم شأنًا في قلوب جميع الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية
من أهل ريف مراكش , وبقاء الترك دولة حربية مستقلة في عقر ديارهم يعد بمنزلة
الحصن العائق دون سهولة استيلاء الأجانب على الممالك المجاورة لها , حتى بعد
انسلاخ حكومتها الحاضرة من الجامعة الإسلامية , الذي لم يكن يخطر لأحد من تلك
الشعوب ببال إلا بعض الضباط والمتمرسين بالسياسة من العرب الذين كانوا
عثمانيين.
ولكننا نعجب أشد العجب أن نرى البلاد العربية , ولا سيما دعاة النهضة
الجنسية فيها لم يقدروا عمل هذا الزعيم قدره , ولم يشدوا أزره وهم يرون كبرى
دول الاستعمار الثلاث المتعدية على جميع بلادهم مجمعة على التشاؤم من انتصار
حكومة الريف بتدبيره , وخائفة أن يكون سببًا لتحرير سائر الأقطار الإسلامية
الأفريقية من رقهن , وأن يمتد شعور المسلمين برجاء الحرية والاستقلال من
المغرب الإسلامي إلى المشرق؛ فيعرف أهله طريق الاستقلال المعبد فيسلكوه ,
وأن يعود للإسلام سلطانه الأول بحياة هذا الرجاء في جميع شعوبه المستعبدة ,
فطفق رجال السياسة فيهم يتناجون؛ لإجماع أمرهم على إحباط عمل الزعيم العظيم،
وإيقاف سريان هذا النصر عند الحد الذي تتفق مصالحهن عليه؛ فأين هذا من
مساعدة كل من فرنسة وإيطالية لمصطفى كمال باشا وقومه , واضطرار الشعب
البريطاني حكومته إلى الإمساك عن مساعدة اليونان على قتاله؟
إننا لا ننكر أن الشعوب الإسلامية مرتاحة لعمل قائد الريف العظيم
ومسرورة , بقدر ألمها من سلب الأجانب لاستقلال أمتها ونسخ شريعتها , ولكن
ساسة دول الاستعمار يعلمون من تأثير حياة الأمم , ومن سريانها ودبيبها من شعب
إلى آخر , ولا سيما إذا كان لها وحدة جامعة , وتاريخ مشترك , تفتخر بسلفه كالأمة
الإسلامية التي أدمجت فيها أقوى مقومات الأمم ومشخصاتها , فهم لعلمهم هذا
يحسبون لحياة الشعوب ما ليس في حسبانها , ثم يبالغون فيها على سبيل الاحتياط،
فيرجحون الشائل من ميزاتها ولو وصلت الحياة الملية في تونس والجزائر أو في
طرابلس الغرب أو فيما يعد فوقها على تفاوتها كمصر والهند إلى المستوى الذي
تخافه فرنسة وإيطالية وإنكلترة - لرأينا الإعانات المالية , والبعثات الطبية , مرسلة
تترى من هذه البلاد كلها إلى ريف مراكش , بل لرأينا المتطوعين يهاجرون إليه
أرسالاً نافرين خفافًا وثقالاً , ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً , لكننا لم نر شيئًا من هذا ولا
ذاك ولم نسمع في الدعوة إلى أهون المساعدة صوتًا عاليًا يُسْمَعُ فيلبى , وإنما سمعنا
نأمة خافتة بمصر , ونبأة فوقها من الهند , ولم نر عملاً يذكر ولا سعيًا يشكر.
أين كبار العلماء؟ أين سراة الأمراء؟ أين الأسخياء؟ أين الكتاب والشعراء؟
أين الجمعيات الخيرية؟ أين الأحزاب السياسية؟ بل أين جمعية الهلال الأحمر
المصرية؟ ولا أنادي أختها التركية، فإن الترك في الشعوب الإسلامية كعلماء الدين
في كل شعب , قد اعتادوا أن يأخذوا، وما اعتادوا أن يعطوا، وهذا قبل وقوعهم
تحت أحكام دولة قررت بترهم من جسم الجامعة الإسلامية , فكيف يكون حالهم بعد
ذلك؟
كلمت بعض أعضاء جمعية الهلال الأحمر المصرية منذ سنتين في مسألة
الريف هذه , وما يجب على جمعيتهم من مساعدة هؤلاء الريفيين المنقطعين عن
جميع الأمم والشعوب , وليس عندهم من الأطباء والأدوية والآلات الجراحية ولا من
الممرضين والمضمدين من يأسو جروحهم , ويطهر قروحهم , ويداوي مرضاهم ,
فإن جمعيات الصليب الأحمر لا تعطف على قوم من المسلمين , يدافعون عن أنفسهم
بقتال دولة من دول النصرانية , تريد استعبادهم واستعمار بلادهم، وقد سعى مسلم
أفريقي لدى عبد المجيد أفندي الذي سمي خليفة المسلمين , بأن تؤلف في الآستانة
لجنة تحت رعايته لجمع التبرعات لذلك، فارتاح لهذا الاقتراح , ولكن حكومته
زعمت أن جمعية الهلال الأحمر التركية أولى بهذا العمل , وستقوم بهذا الواجب ,
ولم يقم به أحد , ولن يقوم هنالك أحد؛ لأن الحكومة لا تريد ذلك. بماذا أجاب عضو
جمعية مصر؟ قال: إن القانون الجديد لجمعيتنا قد حظر عليها إنفاق شيء مما في
صندوقها , فلا سبيل إلى بذل شيء إلا مما يدخل في الصندوق بعد تقرير هذا
القانون , ولما يدخله شيء. قلت: وما المانع من أن تتولى الجمعية دعوة أهل البر
والإحسان إلى التبرع لها بما تؤدي به هذا الواجب؟ وهل لك أن تقترح عليها ذلك؟
قال: نعم ولكن بعد عودة صاحب الدولة الأمير يوسف كمال رئيسها من سفره.
لا شك عندي في صدق العضو الكريم في استحسانه للاقتراح , وقبوله بالغبطة
والارتياح , لكن الأمير عاد من سفره , ثم سافر , ثم عاد , ولم يظهر للجمعية عمل
فعسى أن تتولى (جمعية الرابطة الشرقية) السعي إلى هذه المبرة الإنسانية لدى
جمعية الهلال الأحمر المصرية ولدى الشعب المصري وسائر الشعوب الشرقية ,
وسأقترح ذلك عليها إن شاء الله تعالى في أول اجتماع تعقده , وأعد هذه الكلمة
تمهيدًا له.
((يتبع بمقال تالٍ))