للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحية
وحجج الإسلام على المسيحيين

نبذة رابعة
ذكرنا في النبذ الماضية أن عقائد المسيحيين التي هم عليها من عهد بعيد
مأخوذة من عقائد الوثنيين، وقلنا: إن الكتب التي يُسمَّى مجموعها عند اليهود
والنصارى التوراة، ليست هي التوراة التي شهد لها القرآن الشريف؛ وإنما توراة
القرآن هي الأحكام التي جاء بها موسى عليه السلام وتوجد فيما عدا سفر التكوين
من الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى، وفيها تاريخه وذكر وفاته، وبيَّنا أنه لا
سبيل إلى هروب أهل الكتاب من اعتراض الفلاسفة والعلماء والمؤرخين على كتبهم
إلا بالاتفاق مع المسلمين على هذا الاعتقاد.
ونذكر الآن كلام بعض فلاسفة فرنسا في الطعن بالديانتين اليهودية
والنصرانية، وكتبهما نقلاً عن كتاب (علم الدين) الذي ألَّفَه الخالد الذكر علي باشا
مبارك ناظر المعارف سابقًا، قال في المسامرة الرابعة والتسعين حكاية عن
الإنكليزي الناقل كلام الفيلسوف الفرنساوي بعد كلام، ما نصه:
(ويقول: إن التوراة كتاب مؤلَّف وليس من الكتب السماوية متكئًا في ذلك
على قول ماري أغسطس: إنه لا يصح بقاء الإصحاحات الثلاثة الأولى على ما
هي عليه، وعلى قول أويجين بأن ما في التوراة مما يتعلق بخلق العالم أمور
خرافية بدليل أن كلمة (بَرَّاه) العبرانية وهي بفتح الباء وتشديد الراء وسكون الهاء
معناه رتب ونظم، ولا يرتب أحد شيئًا وينظمه إلا إذا كان موجودًا من قبل،
فاستعمال هذه الكلمة في خلق العالم يقتضي أن مادة العالم كانت موجودة من قبل،
فتكون أزلية ويكون ملازمها وهو الزمان والمكان أزليين، وحيث إنهم قالوا: إن
المادة ذات حياة، فتكون الروح أيضًا أزلية؛ لأنها هي التي بها الحياة، وبما أن
المادة هي النور والحرارة والقوة والحركة والجذب والقوانين والتوازن، فتكون
الحياة والمادة كالشيء الواحد لا يمكن انفصالهما وجميع ذلك يخالف ما في التوراة.
ويقول أيضًا: إن الستة الأيام التي ذكرها موسى لخلق العالم هي الأزمان الستة
التي ذكرها الهنود، والجنبهارات الستة التي ذكرها زروطشت للمجوس، وأن
الفردوس الذي كان فيه آدم إنما هو بستان الهيسبرويو الذي كان يخفره التنين، وأن
آدم هو آديمو المذكور في أزورويدام، وأن نوحًا وأهله هو الملك دوقاليون وزوجته
بيرا وهكذا.
ويبالغ في القدح في التوراة، ويقول: إنها مبتدأة بقتل الأخ أخاه، واغتصاب
الفروج وتزوج ذوي الأرحام - بل البهائم - وذكر النهب والسلب والقتل والزناء ونحو
ذلك من الأمور التي لا يليق أن تنسب لمن اصطفاه الله تعالى وجعله أمينًا على
أسراره الإلهية، فانظر إلى اجتراء هذا الرجل على نبي الله موسى عليه السلام،
وعلى كتاب الله التوراة، مع أن التوراة هي أساس الإنجيل، فما يقال فيها يقال في
الإنجيل [١] ؛ ولذلك يقولون: إن رسالة عيسى قد نبَّهت عليها اليهود من قبل بقولهم إنه
سيجيء إليهم مسيح، وكلمة مسيح ككلمة مسايس، ومسايس لقب شريف باللغة
العبرانية، وقد لُقِّب به إشعيا كيروس ملك الفرس كما في الإصحاح الخامس
والخمسين، ولُقِّب به حزقيال النبي ملك مدينة صور، ومع ذلك فلم يلتفت هذا
الرجل إلى شيء من ذلك فقال ما قال.
ومن اعتقادات النصارى أيضًا أن الله تجسد في صورة عيسى، وأنه هو الإله
وليسوا أول قائل بهذا التجسد، بل قيل قبلهم في جزاكا وبرهمة بقدس الهند وقيل
في ويشنو أنه تجسد خمسمائة مرة، وقال سكان البيرو من أمريكا أن الإله الحق
تجسد في إلههم أودين، وإن ولادة عيسى من بكر بتول فتح روح القدس يشبه قول
أهل الصين أن إلههم فُوَيْه ولدته بنت بكر حملت به من أشعة الشمس، وكان
المصريون يعتقدون أن أوزوريس ولد من غير مباشرة أحد لأمه.
وقول النصارى: إن عيسى مات ودفن، ثم بُعِثَ ورُفِعَ إلى السماء حيًّا، قال
بمثله قبلهم المصريون في أوزوريس المصري، وفي أورنيس من أهالي فينكيه
وفي أوتيس من أهالي فريجيه، إلا أنهم لم يقولوا برفعه إلى السماء، وكما قيل إن
أودين كان قد بذل نفسه وقتلها باختياره بأن رمى نفسه في نار عظيمة حتى احترق،
وفعل ذلك لأجل نجاة عباده وأحزابه، فكذلك النصارى يعتقدون أن حلول الإله في
عيسى وإرساله وموته إنما كان لأجل فداء الجنس البشري وتخليصه من ذنب
الخطيئة الأولى، خطيئة آدم وحواء، وأما إدريس النبي قد رفع إلى السماء بدون
أن تكفر عنه الخطيئة، ولا شك أن هذا خرافة، ولهم كلام كثير من هذا القبيل
يطول شرحه، ولا فائدة في ذكره) اهـ.
(المنار)
لهذه الشبهات بل الحجج على عقائد المسيحيين واليهود ترك علماء أوربا الدين
المسيحي، فبعضهم صرح بتركه، بل وبعض حكوماتهم؛ فإن الحكومة الفرنسوية
أعلنت إعلانًا رسميًّا بأنه لا دين لها، وطاردت رجال الدين واضطهدتهم، ومن بقي
يتظاهر بالدين من عظمائهم فإنما هو لأجل السياسة، ولذلك ترى الفلاسفة والعلماء
الذين يعبأون بالسياسة يصرِّحون بعدم الاعتقاد بالوحي مع اعتقادهم بأن الدين
ضروري للبشر؛ ولكنهم لم يجدوا في الدين الذي عندهم غناء، ودين الفطرة محجوب
عنهم؛ فإنهم ترجموا القرآن الكريم ترجمة فاسدة لم يفهموا منها حقيقة الإسلام، أذكر
من ترجمة إنكليزية قول المترجم لسورة العصر (إن الإنسان يكون بعد الظهر بثلاث
ساعات رديئًا أو قبيحًا) ولو فهم فلاسفة أوربا هذه السورة لجزموا بأنها على
اختصارها تغني عن جميع ما يعرفون من كتب سائر الأديان، وهو مفهوم في الجملة
لمن له أدنى إلمام باللغة العربية وهي {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر:
١-٣) .
إذ يعلم أن المراد بصيغة القسم التأكيد، ويعلم أن المراد بالإنسان الجنس،
وأن الصالحات ما يصلح بها حال الإنسان في روحه وجسده في أفراده ومجموعه،
وأن التواصي بالحق هو من التعاون على الأخذ به والثبات عليه، وأن الحق هو
الشيء الثابت المتحقق، وثبوت كل شيء بحسبه، وأن الصبر يشمل الصبر عن
الشيء القبيح كالمعاصي والشهوات الضارة، والصبر في الشيء الذي يشق احتماله
كالمدافعة عن الحق والمصائب.
كان أهل روسيا وأهل أسبانيا أشد أهل أوربا تمسكًا بالمسيحية، ثم ظهر
أخيرًا من اضطهاد الإسبانيين لرجال الدين ما طيَّر خبره البرق إلى جميع الأقطار،
واشتغلت به الجرائد في جميع البلاد، ولما قام الفيلسوف تولستوي الروسي يفند
تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية، ويبين بطلان الديانة المسيحية - انتصر له المتعلمون
للعلوم والفنون حتى تلامذة المدارس وتلميذاتها، فهذا هو شأن الديانة المسيحية كلما
ازداد المرء علمًا ازداد عنها بعدًا؛ وإنما كانت أوربا مسيحية أيام كانت في ظلمات
الجهل والغباوة، وبعكسها الديانة الإسلامية هي حليفة العلوم، وقد كانت أمتها في
عصور المدنية والعلم أشد تمسكًا بالدين، وصارت تبعد عن الدين كلما بعدت عن
العلم.
أما الآن فإننا لا ننكر أن بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية قد وقعوا في
بعض الشبهات، وبعضهم أنكر الدين تبعًا للأوربيين الذين أخذ عنهم؛ ولكن السبب
في هذا أنه لم يعرف الإسلام ولم يتعلمه قبل العلم الأوربي ولا بعده، ولهذا نطالب
علماء ديننا بأن يجتهدوا في جعل زمام تعليم العلوم الكونية بأيديهم؛ لأننا نثق أتم
الثقة بأنه لا يمكن أن يرجع عن الإسلام من عرفه، وكيف يختار الظلمة من عاش
في النور، وإن لنا لَعودة إلى الموضوع إن شاء الله تعالى.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))