في منتصف شهر شعبان نعت إلينا أنباء عدن السيد محمد علي الإدريسي أمير عسير وتهامة - اليمن السفلى - فشككنا كعشيرته وجماهير الناس هنا في صحة الخبر، ولم نستيقن إلا في آخر شعبان، وكان سبب الشك أنه كان قد جاء قبل ذلك بأشهر نبأ من الحجاز بوفاته ثم ظهر كذبه. قد امتاز السيد محمد علي الإدريسي في عشيرته بمزايا عظيمة لا يجتمع مثلها عادة إلا للأفراد الأفذاذ في الأجيال، كالذكاء والسخاء والشجاعة والحزم والإقدام، مزايا مكنته من تأسيس مملكة مستقلة بنفسها في بلاد يتنازع الحكم والسلطان فيها أقدم دولة عربية إسلامية - وهي دولة أئمة اليمن - وأقوى دولة إسلامية عسكرية - وهي الدولة العثمانية- وقد اجتمعت الدولتان على مناوأته وقتاله واستعانت الدولة العثمانية عليه بحكومة الحجاز فكان له الفلج والظفر، وبذلك تأيد حكمه واستقر. الإدريسيون شيوخ طريقة صوفية، لا قواد جيوش ولا رجال أحكام وسياسة، ولجدهم السيد أحمد بن إدريس شهرة ذائعة بالصلاح والولاية، وهو مدفون بجوار (صبيا) عاصمة عسير، ولطريقته في تلك البلاد أتباع كثيرون يخضعون لشيوخ الطريقة خضوعًا روحيًّا إذعانيًّا، لا يقبل أهله فيه بحثًا ولا برهانًا عقليًّا ولا دينيًّا، كدأب عامة بلاد اليمن وإفريقيا، فمثل الإدريسية كمثل إخوانهم السنوسية. ومما امتاز به السيد محمد علي - رحمه الله تعالى - على شيوخ طريقتهم في هذا العصر أنه طلب العلم في الأزهر بجد وعناية فاستفاد في سنوات قليلة ما لا يدرك أكثر المجاورين في هذا المعهد مثله في بضع عشرة سنة، بل ما يقصر عنه فيه أكثر الشيوخ الذين يقضون عشرات السنين هنالك متعلمين ومعلمين، ذلك بأنه كان نَيِّر العقل، مستقل الفكر، لم تَقْوَ خرافات الطريقة ولا طريقة التعليم الأزهري العقيمة على أن تغلب على فطرته الزكية، ومن آيات ذلك أنه كان راضيًا عن المنار معجبًا به كثير الثناء عليه، وقد اقتنى جميع مجلداته السابقة على الحرب العامة الكبرى التي قطعت الصلة بيننا وبينه، ولما عادت في هذا العام جدَّد الاشتراك فيه، وكنا على وشك بإرسال بقية المجلدات التي تجددت لإكمال مجموعته عنده، ومنها أنه عقد اتفاقًا رسميًّا مع سلطان نجد كان من وسائله أنه هو على مذهب السلف في عقيدته، وقد هدم القبة التي كانت مبنية على قبر جده معترفًا بأنها من البدع المخالفة للأحاديث الصحيحة. ذهب الفقيد إلى بلاد عسير بعد ما كان من طلبه للعلم بقصد الإرشاد والتعليم، ولم يبلغنا عنه أنه كان مستشرفًا للإمارة والحكم، فكان إقبال الناس عليه عظيمًا، وكانوا يتحاكمون إليه حيث لا حكم للدولة العثمانية في داخلية البلاد فيحكم بينهم بالشرع على مذهب الإمام الشافعي الذي ينتمي إليه أكثر الناس هنالك، فارتابت فيه الدولة العثمانية، فكان رجالها يكيدون له، ويذيعون عنه أنه يغش الناس بالدخل والتلبيس وإظهار الكرامات المصنوعة، كزعمهم أنه يظهر للناس في بعض الليالي أنوارًا كهربائية من أدوات يخفيها عنهم فيوهمهم أنها تفيض من صدره على وجهه، وأمثال ذلك. والمعروف عنه أنه لم يكن يخطر بباله أن يخرج الدولة من البلاد ليؤسس له ملكًا فيها، بل كان يريد مساعدتها على إدارتها وإصلاح شؤونها بنفوذه الديني بشرط أن تكون أحكامها فيها شرعية محضة، وأن يلتزم حكامها الإداريون والقضائيون شعائر الدين، لا كذلك الباشا الذي أرسلوه إليه ليفاوضه فذهب مخاصرًا لامرأة إفرنجية بملابسها المعتادة، ومعها كلب لها فدخلت المسجد مع الباشا وتبعها الكلب. وقد أرسل الاتحاديون إليه بعد إعلان الدستور الشيخ توفيق خوجه العالم السائح المشهور ليكشف لهم حقيقته، وكان يعرف شخصه إذ كانا مجاورين في الأزهر، فكتب إليهم بما وقف عليه من حسن نيته وكذب الطاعنين فيه، وأخبروني بذلك في نادي نور عثمانية بالآستانة فذكرته للصدر الأعظم حسين حلمي باشا فرمى الشيخ توفيقًا بالبلاهة والغفلة، ولكن التهمة إغراء، وفي الحكم النبوية: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) رواه أبو داود والحاكم عن أربعة من الصحابة رضي الله عنهم. وقف الرجل على كيد رجال الدولة له فأخذ حذره وأجمع أمره على المقاومة، وانتهى ذلك بالحرب، فقتل في معركة واحدة من عسكر الدولة بعدد جميع رجاله، وعجزت الدولة مع إمام اليمن وشريف مكة عن القضاء عليه، بل كان ذلك هو السبب لرسوخ قدمه وتوطيد سلطانه. وقد أنكر المسلمون عليه في كل قطر مصافاته للحكومة الإيطالية في أثناء حربها لطرابلس واستمداد للسلاح والمال منها. وكان بعض العقلاء يجيب هؤلاء المنكرين بأنه لا حرج على مَن يأخذ من الأجنبي. وإنما الحرج على من يعطيه، وهو لم يعط أحدًا شيئًا ولم يساعد إيطالية على أهل طرابلس ولا على الترك بشيء. ثم أنكروا عليه موالاته للدولة البريطانية في أثناء الحرب الكبرى وأخذه منها السلاح والمال، ولذلك كافأته بإعطائه ثغر الحديدة، وأجاب عنه المحبون له بأن اتفاقه مع الإنجليز لم يكن إلا كاتفاقه مع الطليان من قبل، وهو أن يأخذ ولا يعطي، فلم يرض أن يقاتل الترك وإنما التزم للإنجليز أن لا يساعدهم أيضًا، وقيل: إنه كان يسمح للأهالي بإمدادهم بالقوت؛ وأن الإنجليز عاتبوه على ذلك فأجاب بأنه لم يساعدهم بنفسه، ولم يدخل في مواد الاتفاق أن يمنع الأهالي من الاتجار معهم، ولكن يقال: إن في اتفاقه معهم الاعترافَ لهم بحماية سواحله. وقد نقل إلينا عنه أنه قال: إنه لا يستحل أن يبدأ أحدًا من المسلمين بقتال، وإنما يقاتل من يقاتله، فحكم الأقوام والشعوب عنده كحكم الأفراد، فاعتداء بعضها على بعض كاعتداء الصائل إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل أبيح قتله كما هو مقرر في الفقه. ولكن لا ندري أكان يلتزم الدفاع في حربه لإمام اليمن ويقف فيه عند حد الضرورة؟ كيف وقد روي أنه استولى على عدة مواقع من مملكة الإمام؟ وأنه كان يطمع في أخذ سائر البلاد التي يقطنها الشافعية. ولو كان يعتقد صحة إمامة الإمام يحيى أو السلطان التركي لما كان لاجتهاده هذا وجه شرعي؛ لأن الإمام الحق هو صاحب السلطان فلا يعد إخضاعه البلاد صيالاً. كانت الروايات التي تصل إلينا في التنازع والتقاتل بينه وبين الإمام متعارضة وقد سعينا للتأليف والاتفاق بينهما قبل الحرب العامة وبعدها، وكنا نرجو أن نبلغ هذه الغاية بالرغم من أولي الدسائس بينهما الذين كانوا يمنون كلاًّ منهما بمساعدته على الآخر إذا هو واتاهما، ولكن الله توفاه إليه قبل ذلك، وقد بايع زعماء البلاد نجله السيد علي على أن يكون إمامًا لهم من بعده، وسننظر ما يكون من أمره، ونرجو أن يوفقه الله تعالى إلى ما فيه السلام والخير لقومه، والمرضاة لربه باتباع شرعه، وقد ذكر لنا عن نجله هذا أنه شاب مهذب في الثانية والعشرين، وأنه مشتغل بطلب العلم، وله من أبناء عمومته مستشارون أولو تجربة واختبار، وبصيرة في أحوال تلك البلاد، فعسى أن ينصحوا له بمكاتبة الإمام، والاتفاق معه على الاتحاد اليماني العام، ومنه أن يكونوا مستقلين في إدارة منطقتهم، ومرتبطين بمجلس الاتحاد في سياستهم، فذلك خير من استمرار القتال، وأحسن مآلاً من أماني الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.