للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد مصطفى المراغي


خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: ٢٦٩) .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الحكمة هي الفقه في القرآن.
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها معرفة القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومتشابهه
ومحكمه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه - وهي تفصيل للرواية الأولى عنه.
وروي عن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وعن غيره أنها معرفة ما في
القرآن من عجائب وأسرار.
ونحن نضم هذه الروايات بعضها إلى بعض فنقول: إن الحكمة هي الفقه في
القرآن، وذلك لا يكون إلا بمعرفة ناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وحلاله
وحرامه، وما اشتمل عليه من عجائب وأسرار، وعبر وعظات، ونظم صالحة
للاجتماع، ومعانٍ سامية للأخلاق، وهذا محتاج إلى وسائل، أولها العقل الراجح،
والبصيرة النافذة، ودقة الملاحظة، وسعة الاطلاع على سنة الرسول صلوات الله
عليه، وأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، وآراء السلف الصالح، ومذاهب
الأئمة، ومعرفة أحوال المجتمع الإنساني، وأسرار تطوره، وخصائص البيئات
المختلفة، وروح العصور السابقة، ونتيجة ذلك كله هي الإصابة في القول والعمل
أو خلق يوجه الإرادة إلى أعمال الخير طبقًا للعلم الصحيح، فيصدر العمل نافعًا
موصلاً إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وقد كان فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا محيطًا بعلوم القرآن، وقد رزقه
الله عقلاً راجحًا في فهمه ومعرفة أسراره وحِكمه، واسع الاطلاع على السنة
وأقضية الصحابة وآراء العلماء، عارفًا بأحوال المجتمع، والأدوار التي مر بها
التاريخ الإسلامي. وكان شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه، خبيرًا
بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية، ملمًّا بما في العالم من بحوث جديدة، وبما
يحدث من المعارك بين العلماء وأهل الأديان؛ فهو ممن أوتي الحكمة، ورزق
الخير الكثير.
وقد كان - بلا شبهة - أكبر المدافعين عن قواعد الإسلام وأشدهم غيرة عليها،
فني في خدمة دينه، وجاهد في الله حق جهاده، وأوذي في سبيل مبادئه، وصبر
وصابر إلى أن توفي رحمة الله عليه.
كان خصوم السيد رشيد ثلاث فرق: فريق الملحدين الذين لا يؤمنون بدين،
وفريق أهل الكتاب من غير المسلمين، وفريق من المسلمين الذين جمدوا على
أقوال الناس وابتعدوا عن معرفة السنن وعن هدي القرآن، وقد جاهد هذه الفرق
جميعها، ولقي من الفريق الثالث أشد العنت وأشد المقاومة؛ لأن بيده سلاحًا من
أشد الأسلحة خطرًا أمام العامة هو سلاح اتهام السيد رشيد بالكفر والزندقة في
الإسلام، والدليل بيد هذا الفريق قائم، وهو عدم موافقة السيد رشيد لمن يعتقدهم
العامة ويقدسونهم، وكيف يكون السيد رشيد على الحق مع أن فلانًا وفلانًا لا يقولون
قوله ولا يعملون عمله؟ وإقناع هؤلاء يحتاج إلى زمن طويل أطول من عمر السيد
رشيد، لكن الحق الذي يؤيد السيد رشيد أقوى من هؤلاء جميعهم.
لذلك ظفر السيد رشيد، وكثر أنصاره ومريدوه، بعد أن كان قليل الأنصار،
قليل المريدين، ووجد في الأوساط العلمية من اتخذ مبدأه وقفى على طريقه، ووجد
في العامة من تفتحت أعينهم للنور، وزالت عن قلوبهم غشاوات الجهل والباطل.
ولم يكن للسيد رشيد مبدأ جديد في الإسلام حتى يصح أن يقال إن له مذهبًا
ينسب إليه، بل كان مبدؤه مبدأ جميع علماء السلف: التحاكم إلى الله ورسوله عملاً
بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: ٥٩) ،
وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف أيضًا: تخير الأحكام المناسبة للزمن والنافعة للأمم
في مواضع الاجتهاد، وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف في كل ما يتعلق بذات الإله
سبحانه وصفاته، وكل ما يتعلق باليوم الآخر، فهو رجل سني سلفي، يكره التقليد،
وينادي بالاجتهاد، ويراه فرضًا على نفسه وعلى كل من قدر عليه.
من الحق أن نعد السيد رشيدًا من المجددين، وأن نعده من المجاهدين في
إحياء السنة؛ ومن الحق أن نعتبر بما كان للسيد رشيد من أناة وصبر في البحث
والقراءة والتأليف، والفتوى والمناظرة، ومن الحق أن نذكر أن هذه الأعمال
الصالحة قام بها احتسابًا، وأداها في سبيل الله.
فرحمة الله على السيد رشيد، وجزاه الله عن الإسلام أحسن ما يجازي به
رجلًا وهب حياته للعلم وللدين.
* * *
تعزية ملك العربية السعودية
وولي عهده
الرياض في ٢٥ جمادى الأول سنة ١٣٥٤
حكومة الحجاز
المنار: محمد شفيع رضا - القاهرة
أسأله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاءكم بفقيد الإسلام والمسلمين، وأن
يعوضه عنا بجناته ورضوانه، وأن يعوضنا في الله من يقوم مقامه في خدمة هذا
الدين والدعوة إلى الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز
* * *
جدة في ٢٥ جمادى الأولى سنة ١٣٥٤
المنار: محمد شفيع رضا - القاهرة
إن مصابنا ومصاب الإسلام بفقد والدكم السيد رشيد عظيم جدًّا، أسأله تعالى
أن يتغمده برحمته، وأن يعوضنا عنه خيرًا بفقده.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعود