تفسير القرآن الحكيم تقريظ العالم العامل والقاضي الفاضل خادم السنة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر
القرآن كتاب الله إلى خلقه، يرسم لهم فيه طريق الهدى والسعادة، أو هو كما وصفه به سبحانه وتعالى {بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه} (إبراهيم: ٥٢) ونِعم البلاغ. نزل هذا الكتاب المقدس في أمة كانت تتقاذفها الأهواء والعصبية، وتعمها الجهالة العمياء، فما أسرع ما وضعهم على المحجة الواضحة والطريق السوي، فصاروا أمة على قلب رجل واحد، كلمتهم واحدة، وهم يد على مَن سواهم. وبعد أن كانوا مستضعَفين يخافون جيرانهم من الفرس والروم وغيرهم، ولا يحميهم منهم إلا بَيْداؤهم المحرقة - غزوا أعداءهم وفتحوا بلادهم واستنزلوهم عن ملكهم، فصاروا سادة الأرض، كل هذا في بضع عشرات من السنين، وكل هذا بهداية الله لهم أن تَبِعُوا أوامره واستمعوا لكلامه. ثم هذا القرآن أعلى أنواع التشريع في الأرض، وأرقى ضروب الحكمة، فلما اهتدوا به ومرنت نفوسهم وعقولهم على حكمته - كانوا سادة بعقولهم وقلوبهم، قبل أن يكونوا سادة بقوتهم وأَنَفَتهم وجمع كلمتهم. وهو الذي قرر حقوق الإنسان في الأرض، من عدل وحرية ومساواة بين الناس، لا فضل لأحد على أحد إلا باتباعه في خاصة نفسه وفي معاملاته مع غيره وفي كل حالاته. ثم مرت عصور وأزمان، وإذا المسلمون متفرقون، وإذا هم مستعبَدون، وإذا لهم قوانين وتشريع أخذوه عن أعدائهم السابقين، وإذا هم لا يخجلون أن يقلدوا مَن كانوا في الحضيض، إذ هم في الذروة، وإذا هم يهجرون القرآن. ولقد صدق الله سبحانه حين أخبرنا - تحذيرًا لنا من أن نُعرِض عن كتابه بأن الرسول الأعظم سيد الخلق عليه السلام سيشكونا إلى ربه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: ٣٠) . تالله لو أن المسلمين رجعوا إلى هداية ربهم وعملوا بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذ أمره ربه بتبيين الكتاب لهم - لما كانوا على ما نرى من ضعف واستكانة وذلة، ولما امتلأت قلوبهم رهبة لأعدائهم، ونفوسهم حاجة إليهم. أخذ الصدر الأول والسلف الصالح رضي الله عنهم يتعلمون القرآن ويعلمونه للناس، ويرجعون إليه فيما يعرض لهم من شؤون وحوادث، لا يرضون حكمًا في دينهم ودنياهم إلا ما دل عليه القرآن أو جاء عن السنة المطهرة المفسِّرة له، نزولاً على حكم الله، فكان علماؤهم جميعًا عن هذا المصدر الواضح النقي يصدرون، وكانوا كلهم بهذا مجتهدين. ثم ضعفت النفوس والهمم، فظن بعضهم - عفا الله عنهم - أنهم يعجزون عن أخذ الأحكام من مصدرها الأول ومن منبعها الصحيح، فصار بعض العلماء يقلد مَن سبقه من أئمة الهدى وأعلام الإسلام، عن غير أمر منهم أو مشورة، بل مع نهيهم - رضي الله عنهم - عن التقليد. فكان هذا بدء الضعف، ثم توالت العصور، فإذا المقلد مقلَّد، وإذا الأمر فوضى، وإذا هم فرق وشيع، وبلغ بهم الأمر إلى التناحر بالسيوف نصرًا لعصبية المذاهب! وأمامك تاريخ المسلمين، فسترى فيه توالي الأرزاء والمحن، فكلما بعدوا عن كتاب ربهم أبعد الله عنهم العز والنصر، وهكذا كان ميزان رقيهم وانحطاطهم. ولما ضعفت السليقة العربية في المتكلمين بهذه اللغة أنشأ علماء الإسلام يفسرون لهم كتاب الله، وكلٌّ على قدر همته، فكثرت أنواع التفاسير للسلف والخلف، متقدمين ومتأخرين، وتراجم العلماء والأئمة بين أيدينا - أو أكثرها، وقد يندر جدًّا أن نجد منهم مَن لم يؤلف كتابًا في التفسير، فلم تُعْنَ أمة بكتابها من الوجهة العلمية بمثل ما عنيت الأمة الإسلامية بالقرآن، ولم تفرط أمة في حفظ ما كُتب شرحًا لكتابها بمثل ما فرطنا. فأين هذه التفاسير الجليلة للأئمة المتقدمين؟ ! ذهب أكثرها حتى لم نجد تفسيرًا لرجل من الأئمة المجتهدين إلا تفسير أبي جعفر الطبري المتوفَّى سنة ٣١٠، وما بقي بعده فهو لمؤلفين ممن سموا أنفسهم مقلدين. ولقد كان المتقدمون يعنون في أكثر أمرهم بتفسير القرآن بما ورد من أحاديث مرفوعة، وآثار موقوفة، وباستنباط أحكام الفقه منه، تعليمًا للناس كيف يفهمون وكيف يصلون إلى الاجتهاد. ثم ترك المتأخرون ذلك ولم يكن همهم إلا الإطالة في أبحاث لفظية لا جدوى لها ولا فائدة إلا في النادر والشذوذ. حتى أن كتب التفسير التي بقيت مشتهرة فيهم وكثيرة بين أيديهم لا يطمئن الباحث المحقق إلى فهم معنى آية منها، ولا إلى استنباط حكم، بل ولا إلى الثقة بالنقل، فقد ملأ بعضهم تفسيره بقصص مكذوبة مفتراة وبأحاديث موضوعة، من غير تحرٍّ في الرواية، ولا استعمال لموهبة العقل السليم. وبالله، لقد أدْركنا الأزهرَ - وهو المدرسة الإسلامية الفذة في هذا البلد - يجعل التفسير علمًا لا يُؤْبَه له، وآية ذلك أنهم كانوا يجيزون الطالب بشهادة (العالِمية) وإن كان لا يفقه في التفسير شيئًا - ما عرف كيف ينبغ في المماحكات اللفظية. ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته، وعلمًا من أعلام الهدى، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي كتابها، ودلها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره، وكان منارًا يُهتدى به في هذه السبيل، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير، وكان - فيما أظن - يرمي بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك، فينهجوا نهجه، ويسيروا على رسمه، ولكنهم لم يأبهوا له إلا قليلاً، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ، وبقي دهماؤهم على ما كانوا عليه. ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار) فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام، وزادها وضوحًا وبيانًا، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة، وجمعها في أجزاء على أجزاء القرآن الكريم، ومضى لطيته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه، فكأنه أُلهم من روحه، لم يكل ولم يضعف، وها هو الآن قد أتم منه أجزاء تسعة، وكثيرًا من العاشر. فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طُبع على الإطلاق، ولا أستثني؛ فإنه هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح - إذ هو كتاب هداية عامة للبشر - لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين. ثم هو يُظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة، غير مقلد ولا متعصب، بل على سنن العلماء السابقين: كتاب الله وسنة رسوله. ولقد أوتي الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها وتمييز الصحيح من الضعيف منها - ما جعله حجة وثقة في هذا المقام، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه. ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله فيها، وأرشد إلى الموعظة بها. وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها. وأعلن حجة الله على الناس. فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر، ممن اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنه، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء، مع البلاغة العالية، والقوة النادرة. لله دره! وأما الرد على النصارى واليهود فإنه قد بلغ فيه الغاية، وكأنه لم يترك بعده قولاً لقائل، وذلك لسعة اطلاعه على أقوالهم وكتبهم ومفترياتهم. وهذا قيام بواجب قصَّر فيه أكثر المسلمين، في الوقت الذي تقوم فيه أوربة بحرب المسلمين حربًا صليبية - قولاً وعملاً - وتحاول سلخ المسلمين عن دينهم وإن لم يدخلوا في دينها، وها نحن أولاء نرى الجرأة العظمى بمحاولة تنصير أمة إسلامية قديمة متعصبة للإسلام، وهي أمة البربر المجيدة. وإن قيام أستاذنا بالرد عليهم بهذه الهمة من أجلِّ الأعمال عند الله ثم عند المسلمين. ولقد عرض لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في شؤون المسلمين فأفسدت على كثير من شبابهم هداهم ودينهم، فحللها تحليلاً دقيقًا وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة، وأقام الحجة القاطعة على أن الإسلام دين الفطرة، وأنه دين كل أمة في كل عصر. ونفى عن الإسلام كثيرًا مما ألصقه به الجاهلون أو دسه المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من أبنائه عن سبيله، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة ليضموهم إلى صفوفهم وينزعوهم من أحضان أمتهم. وإنه لكتاب العصر الحاضر، يفيد منه العالم والجاهل، والرجعي والمجدد. بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين. وأنا أرى من الواجب على كل مَن عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته والاستفادة منه، وبث ما فيه من علم نافع لعل الله أن يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها بالجهالات المتكررة. ولو كانت حكومتنا حكومة إسلامية حقيقة لطلبنا منها أن يُدرس في مدارسها ومعاهدها حق الدرس، ولكنا نعلم أنها لا تلقي للدين بالاً، بل لا تدفع عنه مَن أراد به عدوانًا، والطامة الكبرى أنها تحمي مَن يعتدي عليه بقوانينها الوضيعة. فلم يبق للمسلمين رجاء إلا أن يعملوا أفرادًا وجماعات في سبيل الدفاع عنه، وإظهار محاسنه للناشئة التي تكاد تندُّ عنه، وهم عماد الأمم. ولعلِّي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم يشفِ فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث فيها، وذلك بحول الله وقوته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شاكر ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاضي الشرعي