(١٢) ألْمَعْنَا - فيما سبق - أن إنكلترا تسعى جهدها في صيانة هندها، فاستئجارها لقبرص واحتلالها، وفتحها لسودانها واعتراضها في باب المندب واستعمارها لعدن، ومخاللتها للإمارات ومشايخ القبائل المنتشرة على شطوط الشمر وظفار والسارحة في مهامه حضرموت وحمايتها لإمامة مسقط وتبوُّئها بعض المراكز المهمة في خليج العجم وإنشاؤها الشركات التجارية التي تمخر ببواخرها النهرين دجلة والفرات وقيامها بشؤون الملاحة فيهما، ورغبتها في الاستئثار بمد السكة الحديدية من طرابلس الشام إلى الكويت على خليج العجم، كل ذلك ما حمل إنكلترا عليه إلا محافظتها على الهند، أو يقال: إن امتلاكها للهند جرّ للقيام بهذه الأعمال والشؤون مصادفةً واتفاقًا. وهذا لا يعنينا، إنما الذي يجدر بنا أن نفكر فيه، ونمعن النظر في نتائجه هو أن تلك الأعمال التي أتتها إنكلترا في شطوط جزيرة العرب والبلاد التي على جنابتيها يُخشى أن تشعر قلب تلك الدولة طمعًا في الجزيرة، فتصيبها دائرة من قبلها، وتزجّ في سلطتها، وتصبح خالصة لها من دون المؤمنين، فعليهم أن يتآمروا ويستفرغوا وسعهم في تلمُّس الوسائل العاملة في صيانتها وحماية حوزتها، ويندفعوا اندفاع السيل وراء ما تشير به عقلاؤهم، وتتعاهد عليه نبهاؤهم من عقد جمعيات وإنشاء شركات وفتح مدارس، وغير ذلك مما يكوّنهم أمة تعرف لها الأمم حقًا، وتحفظ لها حرمة، وليكن على ذكر منك أن إنكلترا إن طمعت في جزيرة العرب، فإنما تطمع باستعمار سواحلها، ولا وصول لها إلى أحشائها وداخليتها من بلاد حضرموت ونجد. على أنه إن تعذر ذلك على الإنكليز في زمن، فلا يتعذر على أنسالهم فيما يأتي من الأزمان، لا سيما وهم قوم حزم وتدبير، يهتمون لشؤون أمتهم المستقبلة، ولو بعد مئات من السنين، كما يهتمون لشؤونهم الحاضرة؛ لأن حب الذات والجنس بلغ من نفوسهم مبلغًا لم يبلغ مثله من نفوس قوم آخرين. هذه، وأستراليا ملكوها كلها بتبوُّء سواحلها، أما جوفها، فلم يزل مجهولاً غامض الشؤون، لكنهم يستشرفونه شيئًا فشيئًا، ويتبسَّطون في بسائطه رويدًا رويدًا. ليس في الدول مَن يُضارِع إنكلترا في نفوذها في جزيرة العرب، فيعارضها فيما تروم مطامعها منها، ويُسَهِّل عليها أن تلقم فرنسا لقمة من أصقاع إفريقيا وتسقيها من فوقها نهرًا من أنهارها، أو بحيرة من بحيراتها إذا هي وقفت في طريقها. إن تمكن الإنكليز من عدن هو في المعنى تمكنٌ من بلاد اليمن. كَمُنوا في تلك الزاوية ردحًا، ثم طَفِقوا يتجسسون شؤون تلك البلاد، ويتنسَّمون أخبار أهلها، ويتعرفون سِيَر حكامها، فألفوا مجالاً واسعًا لجري خيول دهائهم، وبيئة صالحة لنمو ميكروب نفوذهم، واتفق أن المريض جاهل بعلم الهيجين (حفظ الصحة) ، فتمكنت منه علة (السُّل الرئوي) وطبيبه ممن يرى رأي أهل الطب القديم الذاهبين إلى أن الفصد العام من أنجع الأدوية في شفاء الأدواء، وقد عالجه بتلك الطريقة أولاً وثانيًا، فلم تنجع وهو الآن يعمل في جسمه المباضع، فعسى أن يكون قد اقترب شفاؤه. اتخذ الإنكليز بلدة عدن مستودعًا للفحم الحجري الذي تحتاجه سفنها، وهي ماخرة في عرض تلك البحار، وكانت إذ ذاك بلدة حقيرة قليلة السكان، رديئة الهواء، لا تجارة لها تُذكر، فاهتم الإنكليز بشأنها اهتمامه بكل أرض حلَّها، ومَهَّد للتجارة سُبلاً تئول لاتساعها، وتأمين أصحابها، فتحوَّل إلى عدن معظم تجارة جدة والحُدَيِّدَة وقنفده ومخا والبصرة أيضًا. وتكاثر سكانها حتى أربوا على الأربعين ألفًا. وقد رُفع هيكل الإصلاح فيها على أركان العدل والأمن والحرية، وألزم كلاً من الأهلين بواجباته وعرّفه حقوقه، ونبّهه للمطالبة بها، ووجوب المحافظة عليها، وجد في تحسين حال البلدة، وتوسيع طرقاتها ونظافتها، وإصلاح ماء الشرب فيها حتى اعتدل هواؤها، وتبرّج جمالها، وأضحت تحاكي المدن الأوروبية ومن جري ذلك تقاطر إليها السواح والتجار من كل الجهات، وترددت عليها وفود أهل اليمن للتجارة والنزهة، فكانوا كلما رأوا حسنًا فيها تذكروا ضده في بلادهم، فنغلت نياتهم على حكومتهم، وأرصدوا لها الشر، وهي قد أعيتها الحيلة في أمرهم، وسلكت في إرضائهم كل سبيل إلا سبيل الحكمة، فلم تفلح. ولم تجتزئ إنكلترا بعدن وتقصر طرفها عليها، بل شحت [١] فاها لالتقام ما حولها من البلاد، وطفقت تتبسط في مخاليفها [٢] رويدًا رويدًا، حتى أنشأت لنفسها منطقة منفسحة الأطراف تزاحم بتخومها منطقة النفوذ العثماني. أما ولايات الحجاز فلا طمع للإنكليز فيها، حتى لو أُلقيت إليه مقاليدها (والعياذ بالله) قلص يده عنها، لكنه يتمنى لو تنتظم شؤون إدارتها الداخلية؛ ليكون الحجيج الهندي على راحة في أداء نسكه، والإتيان بواجباته الدينية [٣] . (ولايات النهرين العربية) المُعارِض لإنكلترا فيها هو الروسية؛ لأنها تطمع - كما قلنا - في الوصول إلى الخليج العجمي؛ لتجعله فوَّهة الطريق لتجارتها، وتستولي في سبيلها على جميع الولايات التي تسقى بمياه النهرين، وإنكلترا تحذر ذلك منها وتكرهه أشد الكره؛ لأن الخليج العجمي يشبه أن يكون خليجًا هنديًّا؛ لقربه من الهند ولكونه طريق التجارة البَريّة بين الهند وبين سائر بلاد العراق والأرمن وآسيا الصغرى وحلب، بل هو فوهة طريق أوروبا التجاري البري. ومما يزيد في أهميته ما قلناه من أنهم يتداولون في إيصال السكة الحديدية إليه من إحدى حواضر (موانئ) البحر المتوسط؛ فيمسي أقرب طريق يصل أوروبا بالهند والشرق الأقصى حتى إنه يقلل من أهمية ترعة السويس أو يزيلها. فأنت ترى أن مصلحة إنكلترا في الخليج العجمي قوية، وما معنى قوة مصلحته فيه إلا قوة مصلحتها في البلاد التي تواصله بمحصولاتها الزراعية وسلعها التجارية، وتتناول منه مثل ذلك: وكما قيل في ولايات النهرين من تعارض سياستي إنكلترا والروسية يقال في: (ولايات الأرمن والأكراد) وتلك الولايات في قلق دائم واضطراب داخلي شديد، كما أشرنا إلى السبب فيه؛ فالأرمن يطلبون من الدولة إصلاحات، أو بعض امتيازات يصعب عليها إجابتهم إليها، أما الأكراد فلا يرغبون فيما يطلبه الأرمن؛ لأنه يئول في المعنى إلى انفصالهم عن تابعيتهم للأتراك، وهذا مما يأنفون منه، ومن جرّاء ذلك حدثت مذابح جمّة بين القبيلين، وقد شايعت دول أوروبا الأرمن على طلباتهم ورغائبهم، وواطأتهم على مناصبة الدول العثمانية، لا سيما إنكلترا؛ فإنها كادت تتظاهر بتعضيدها لهم. واللبيب يفهم غايتها بعد ما قدّمنا من الشرح ما قدّمناه، ولا يخلو التصريح من فائدة. إنكلترا تودُ أن تستقل الولايات الأرمنية؛ لتقوم حاجزًا وسدًّا بين الروسية وبين العراق، فيُصان العراق والخليج العجمي من شَرِّها وكيدها، ثم تتربص هي به الدائرات فتلتهمه. أما الروسية فكان شأنها في ثورة الأرمن عكس شأن إنكلترا؛ وذلك أنها عضدت الدولة العلية في كبح جماحهم، وتسكين ثائرتهم لا حبًّا بالدولة، بل حبًا بمصلحتها وتمهيدًا لآمالها؛ فإنها تتربص بالدولة الانحلال الطبيعي؛ لتكون أول من يُسارِع إلى ابتلاع الولايات الأرمنية، يرشد إلى ذلك أن الروسية أيّدَت مطالب الكريديين، وراشت سهام فتنتهم، فنالوا ما نالوا، وما فضل الكريديين على الأرمنيين لولا ما ذكرنا من أطماعها في هؤلاء دون أولئك؟ إذن التزاحم بين إنكلترا والروسية في شأن الأصقاع الواقعة بين جبل أراراط شمالاً وخليج العجم جنوبًا، شديد جدًا، وكيف النتيجة يا تُرى؟ النتيجة غامضة لتكافؤ القرنين وتوازن القوتين، ولعل إنكلترا تصانع الروسية وتجاملها بإطلاق يدها في المملكة الصينية وتستعيض هي عن ذلك بمد سرادقات سلطتها فوق تلك الأصقاع العراقية والأرمنية بل ما يدرينا أن تتجسم الأطماع في مخيلة الدولتين فيقتسمان آسيا شرقًا لغرب كما تريدُ إنكلترا مناصفةَ فرنسا إفريقيا شمالاً لجنوب، فتستبد إنكلترا بنصف آسيا الجنوبي ويُسلم للروسية نصفها الشمالي. دعنا من عالم الخيال، ولنأخذ في الكلام على العنصرين الأرنؤطي والرومي المتوطنين في مكدونيا.
(المنار) لا ينسى أن الكلام في المسألة الشرقية وتمثيل المطامع الأوروبية، وقد صرّح الكاتب بأن هذا من قبيل الخيال، فلا يعترض عليه الأغبياء بأنه يهب بكتابته بلاد الدولة العلية (صانها الله) ويولي عليها أعداءها (خذلهم الله) ((يتبع بمقال تالٍ))