والرد على القائلين بها لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه
وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضًا من قول أهل الوَحدة , وهو مع كفره قول متناقض , فإنه قد يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد , وأن أقوال المشركين الذين قالوا: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح: ٢٣) والذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: ٣) والذين قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: ٥٣-٥٤) , والذين قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: ٦٨) ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد. وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجود إن كان أحدًا كان إثبات العدد تناقضًا , فإذا قال القائل: الوجود واحد وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد، كان هذان قولين متناقضين , فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر , وإذا قال قائل: الألسنة كلها لسانه , فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها , وذلك يقتضي أن لا يكون هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة , وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم فإنه ينقض قولهم، فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد. فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود فهذا صحيح , لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا عين وجود هذا , بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسم المنطقيون الكلي إلى جنس ونوع وفصل وخاصة وعرض عام، فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر , وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود , فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مُبايَنة لوجود كل مخلوق من مباينة وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر. وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال: لا يعرف التوحيد إلا الواحد وتصح العبارة عن التوحيد , وذلك لا يعبر عنه إلا بغير , ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره تناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا واحد يقتضي أن هناك واحدًا يعرفه , وأن غيره لا يعرفه هذا تفريق بين من يعرفه ومن لا يعرفه , وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا: من أثبت غيرًا فلا توحيد له، يناقض هذا , وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر عن توحيده , ورسوله عبر عن توحيده , والقرآن مملوء من ذكر التوحيد , بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد , وقد قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: ٤٥) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: ٢٥) , ولو لم يكن عنه عبارة لَمَا نطق به أحد , وأفضل ما نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يُتَصور تحقُّقه في الخارج , فإن الوحدة العينية الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين , ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد , كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما يتناول كل جسم وكل إنسان , وهذا الجسم ليس هو ذاك , وهذا الإنسان ليس هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك. وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً- التعبير عن التوحيد يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله , فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله، ولا يطلق عليه بأنه غير الله؛ لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه , ففي أحد الاصطلاحين يقال: إنه غير , وفي الاصطلاح الآخر لا يقال: إنه غير , فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونًا ببيان المراد لئلا يقول المبتدع: إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق , فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل مخلوقة في غيره , فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد , وهو قول الجهمية الذين كفّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا. وإن كان الواحد المعين لا يُكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها [١] . وأيضًا فيقال لهؤلاء الملاحدة: إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله , ومعلوم أن مَن جعل هذا صفة لله كان من أعظم الناس كفرًا وضلالاً , فمن قال: إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل , فإن الصفات والأعراض لا تكون عين الوجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن عربي يقول: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلامًا لله , وأما هذا اللحيد [٢] فزاد على هؤلاء , فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده , لم يجعل ذلك كلامًا له بل يقال: أن يكون [٣] هنا كلام له لئلا يثبت غيرًا له. وقد عُلم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله تعالى , وأن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة من صفات الله؛ ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح الإنكار , قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر: ٦٤) , وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ} (الأنعام: ١٤) وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (فاطر: ٣) , وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: ١١٤) , وكذلك قول القائل: وَجَدتُ المحبة غير المقصود لأنها لا تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما يكون إلا من عبد لرب , لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا - هو كلام فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يَخفى , فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: ١٦٥) , وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: ٥٤) , وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: ٢٤) , وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: ٤) ، {يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: ١٩٥) ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: ٢٢٢) , وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له , وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام , وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم , فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا. ثم نزل فذبحه. وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم - كلام باطل من كل وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح , فإن الإنسان يحب نفسه وليس غيرًا لنفسه والله يحب نفسه، وقوله ما ثَم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق والمؤمنون غير الله , وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مُقدمتَي الحجة باطلة قوله: لا تكون إلا من غير لغير، وقوله: غير ما ثم فإن الغير موجود , والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه؛ ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في هذا ويقول كما قال ابن الفارض [٤] . وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب , ولو أنصف الناس ما رأوا عابدًا ولا معبودًا - كلا المقدمتين باطل , فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد نفسه بنفسه كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (آل عمران: ١٨) والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه , فقد وجد نفسه بنفسه كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: ١٦٣) , وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل: ٥١) ، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: ١٩) وأمثال ذلك. وأما الثانية فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدًا ولا معبودًا - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض , فإنه إذا لم يكن عابدًا ولا معبودًا بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون؟ إن كانوا هم الله , فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه: الفقيرإذا صح أكل بالله فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله , وقد صرح ابن عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وَيَنْكَحُ وَيُنْكَحُ , وأنه موصوف بكل نقص وعيب؛ لأن ذلك الكمال عندهم كما قال في الفصوص: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفًا وعقلاً وشرعًا أو مذمومًا عرفًا وعقلاً وشرعًا , وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة (وقال) ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات , وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد , كما أن صفات العبد من أولها إلى آخرها صفات لله تعالى. هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك الذي لا ترى عابدًا ولا معبودًا يعاملك بموجب مذهبك , فيُضرب ويُوجع ويُهان ويُصفع ويُظلم , فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى قيل له: ما ثَم غير ولا عابد ولا معبود , فلم يفعل بك هذا غيرك , بل الضارب هو المضروب والشاتم هو المشتوم والعابد هو المعبود , فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه , قيل له: فقل أيضًا عبد نفسه، فإذا أثبت ظالمًا ومظلومًا وهما واحد فأثبت عابدًا ومعبودًا وهما واحد , ثم يقال له: هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح , وهذا الذي شبع ورَوِيَ هو نفس هذا الذي جاع وعطش , فإن اعترف بأنه غيره أثبت المغايرة , وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا , فبين العابد والمعبود أولى وأحرى , وإن قال: هو هو عومل معاملة جنس السوفسطائية , فإن هذا القول من أقبح السفسطة , فيقال: فإذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه وأهلك نفسه , والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: ٢٣) لكون نفسه أمرته بالسوء والنفس أمارة بالسوء , لكن جهة أمرها ليست جهة فعلها , بل لا بد من نوع تعدد إما في الذات وإما في الصفات , وكل أحد يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظَلم ذلك ليس هو إياه وليس هو بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه , وإذا كان هذا في المخلوقين فالخالق أعظم مباينة للمخلوقين من هذا لهذا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق وأفضل أهل الطريق، حتى يُفَضِّلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين، لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم بذلك أن الضلال لا حد له، وأنه إذا كفرت العقول لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق في نوع الإنسان , فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو من شرار الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب، بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين الذين يفسدون الدنيا والدين. والمقصود هنا رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال، وأما توبة مَن قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات , ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات، والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب , بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: ٥٣) وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين , وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: ٤٨) فإنها مقيدة خاصة؛ لأنها في حق غير التائبين لا يغفر لهم الشرك وما دون الشرك معلق بمشيئة الله تعالى. والحكاية المذكورة عن الذي قال أنه التقم العالم كله , وأراد أن يقول: أنا الحق، وأختها التي قيل فيها: إن الإلهية لا يَدَعُها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق الله هو من هذا الباب , والفقير الذي قال: ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب، وسدد الخطاب؛ ولكن هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله , ويَدَّعون أنهم [٥] من موسى وأمثاله , حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلَمَ وحسُن إسلامه , وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء , ودعاه إلى هذا القول وزينه له فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم , وأن قولهم من جنس قول فرعون فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال نعم ونحن على قول فرعون، وكان عبد السيد لم يسلم بعد، فقال: أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولمَ؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون , فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولاً صادقًا , قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمن سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة , أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود. فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل , وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل والواجب إنكارها , فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون , لا سيما وأقول: هؤلاء أشرُّ من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها , واعتقدها كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: ٧٣) , والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًّا من كفار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار. وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قُدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحًا , فإن ما يحمل عليها إذا لم يُعرف مقصود صاحبها [٦] وهؤلاء قد عرف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة , ولهم في ذلك كتب مصنفة وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضًا , وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يُلتفت إليه , ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل، فإن ضرر هذه على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السُّراق والخونة الذين لا يُعرفون أنهم سُراق وخونة، فإن هؤلاء غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببًا لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنًا وليًّا لله , فيصير منافقًا عدوًّا لله , ولقد ضربت لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحاجِّ؛ ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى قُبرُص فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى , وهؤلاء يجعلوننا شرًّا من النصارى , والأمر كما قاله هذا القائل. وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله , وأن كلامهم كلام العارفين المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم , فمنهم من دخل في اتحادهم وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق بالمجهولات، وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين، وهم بمنزلة من يعظم أعداء الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالي المشركين وأهل الكتاب، ظانًّا أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين. وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب، والله أعلم. (انتهت الرسالة)
(المنار) أرسل إلينا هذه الرسالة مع رسائل وفتاوى أخرى لشيخ الإسلام وناصر السنة الإمام أحمد تقي الدين بن تيمية - قدس الله روحه - أخونا في الله الأستاذ الفاضل الشيخ محمد بهجة الأثري البغدادي بإرشاد أستاذه صفوة أصدقائنا علامة العراق ورحلة أهل الآفاق السيد محمود شكري الألولسي رحمه الله تعالى، وهي منقولة بقلم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد علي الفضيلي الزبيدي البغدادي عن نسخة كثيرة الغلط والتحريف والسقط , قال: إنه اجتهد في تصحيحها ما استطاع , ونقول: إننا اجتهدنا بعده , فصححنا مما بقي من ذلك ما تيسر لنا ونبهنا على بعض ما يتيسر في الحواشي , ونحمد الله تعالى أن صار المراد منها كله مفهومًا، فنسأله تعالى أن يثيب الجميع: المؤلف والناسخ والمرسل والمرشد والناشر بفضله وكرمه.