بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد والشكر، إياه نعبد وإياه نستعين أما بعد: فقد أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في موعد ذكرى مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربيع الأول سنة ١٣٥٢؛ تيمنًا بظهور نوره المُشرق، الذي أضاء الكون كله، وإنما أضاءه بزوغ شمس هذا الوحي الإلهي، ونزوله عليه؛ فما أتى على صدوره بضعة أشهر إلا وكانت نسخه قد نفدت، فأعدت طبعه في تلك السنة منقحًا مزيدًا فيه قدر الثلث ونيفًا، ولولا خوف الملل على القارئين لزدته ضعفًا أو أضعافًا؛ ولذلك وعدت بأن أجعل له ثانيًا، وأصدرت الطبعة الثانية في يوم عرفة الذي أنزل الله عليه في حجة الوداع: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا} (المائدة: ٣) تفاؤلاً بتجديد هذا الكتاب لدعوته صلى الله عليه وسلم. فما جاء يوم عرفة الثاني (سنة ١٣٥٣) إلا وكانت نسخ الطبعة الثانية قد نفدت. وشرعت في الطبعة الثالثة، وتعمدت تأخير إتمامها كالتي قبلها؛ لنشرها في موعد الأولى من هذه السنة (١٣٥٤) . وفي غضون السنة الماضية تمت ترجمة الكتاب باللغة الأوردية، ونشرت في الهند، وهي مترجمة من الطبعة العربية الأولى. وتمت ترجمته باللغة الصينية فيها أيضًا مرتين، ويتولى طبع الأولى في قبودان مترجمها الأستاذ صاحب مجلة ضياء الهلال، وحمل الثانية مترجَمَةً الأستاذ بدر الدين الصيني من الهند إلى مصر، وعرضها عليَّ. وكان يريد إرسالها إلى بلد آخر في الصين لطبعها فأشرت عليه بأن يزيد فيها كل ما زدته في الطبعة الثانية؛ لأنها أجمع وأنفع، ولعلها لا تطبع إلا وقد نفدت نسخ الترجمة الأولى، ولعله يعيد تنقيحها بمعارضتها على هذه الطبعة الثالثة فإنها أصح وأكمل. ولم يبلغني أن أحدًا غير هؤلاء قد أتم ترجمته بلغة أخرى. وزدت في هذه الطبعة قليلاً من الفوائد، وإيضاحًا لبعض المسائل، وجعلت أكثرها في الحواشي، كما ترى في الحاشية الثانية من ص١٥٧، والأولى من ص ١٥٨، والحاشية (٢) من ص ١٨١، وما جعلته في الصلب أشرت إليه غالبًا كشرعية عتق الرقيق من غير المؤمنين، وليس فيها شيء من المقاصد الأصلية المقصودة بذاتها. علمنا إذن أنه أتى على ظهور الكتاب سنتان كاملتان، فأما انتشاره بالعربية فهو فوق المعتاد في الكتب الدينية، وقد قررت وزارة المعارف العمومية في هذه السنة صرفه لطلبة دار العلوم العليا، وهو يدرس في بعض المدارس الإسلامية في دمشق وبيروت. ويرجى نشره في السنة المدرسية الجديدة أيضًا بين طلاب الأزهر والمعاهد الدينية بمصر، وقد تولى رياستها شيخ الإسلام وخليفة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد مصطفى المراغي) الذي كان أول من قدر الكتاب قدره، وقرأ نصفه في جلسة واحدة، وأتمه في جلسة أخرى، ثم كتب في وصفه تلك الكلمة البليغة التي يراها قراؤه في صدر التقاريظ، وقد تنبأ أو بشَّر بأنه سيطبع في كل عام. ترجمة الكتاب باللغات الإفرنجية: ولكن قَصَّر المسلمون فيما يجب عليهم من ترجمته بسائر لغاتهم وبلغات شعوب الحضارة التي دعوناها به إلى الإسلام، وهي الإنكليزية والفرنسية والألمانية وهو واجب كفائي صرح بتمنيه كثير من أهل العلم والغيرة، وصرح بوجوبه بعض مقرظي الكتاب؛ فمنهم من تعسف وطالبني بهذه الترجمة أو بالسعي لها، ومنهم من أنصف وطالب به الأمة الإسلامية أو جمعياتها. أما الأمة فلا تنهض بالأعمال العامة إلا بزعمائها أو جمعياتها، وأما هذه الجمعيات عندنا فلا تزال في سن الطفولة، ولا يرجى من أمثالها عمل عظيم كهذا، فهي أفقر وأضعف همة من جمعيات المرتدين عن الإسلام جملته وتفصيله كالبهائية، والملاحدة المدعين للنبوة والمسيحية فيه، كالقاديانية، دع جمعيات النصارى التعليمية والتنصيرية التي تملك مئات الملايين من الجنيهات، وقد بثوا تعاليمهم في جميع أقطار الأرض، وهم يطمعون في تنصير المسلمين، على حين تتسلل شعوبهم من النصرانية سراعًا بسلطان ونظام كالشعب الجرماني، أو لواذًا بدون سلطان دولي ولا نظام كسائر الشعوب، وهي تمهد السبيل لنسخ الإسلام لها، وحلوله محلها. ولقد كان أرجى الجمعيات الإسلامية لهذا العمل في مصر، جمعية الدفاع عن الإسلام، التي هدمت باسم أقوى معول من معاول الإسلام قبل أن يتم بناؤها؛ وإنما كان هذا الرجاء فيها منوطًا برئيسها الشيخ محمد مصطفى المراغي، وما كان السعي لهدمها إلا سعيًا لهدم اسمه، وحرمان المسلمين من استعداده، ولكن الله نصره، وخذل من ناهضه، وجعل معول الهدم الذي كان بأيديهم سيفًا لنصر الإسلام بيده، فإذا بعصا موسى تلقف ما يأفك سحرة فرعون {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (الأعراف: ١١٨) ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: ٤٠) . فإن كان أهلاً للرجاء بأن يسعى لترجمة كتاب الوحي المحمدي ببعض لغات العلم الغريبة تمهيدًا لتبليغ الدعوة الإسلامية للناطقين بها - وتلك القوة الرسمية تكيد له - فأجدر به أن يكون أقدر على تحقيق ذلك بالفعل، وتلك القوة الرسمية وما وراءها من القوة الحقيقية طوع يده، ولن تكون ترجمة هذا الكتاب في موضع الثقة بها عند جميع الشعوب كما إذا كانت من قِبَل شيخ الإسلام وتحت إشرافه، وكان نشره وبث الدعوة به بإرشاده أو إجازته، مع العلم بأن مؤلفه قلم من أقلامه، وعلم من أعلامه، وأحمد الله - عز وجل - أن جدد لي وللأمة بعودته إلى مشيخة الأزهر ذلك الأمل بالزعامة الإسلامية العاملة التي فقدناها بوفاة الأستاذ الإمام منذ ثلاثين سنة. إن الأمة لم تفقد بوفاة ذلك الإمام شيئًا من علم الإسلام، وإنما فقدت زعيم الإصلاح العارف بحاجة زمانه، الذي نال الزعامة بسمو عقله، واستقلال رأيه وفهمه، وعلو همته وشجاعته، وإنصافه بإعطاء كل ذي حق حقه من العلم الصحيح والإخلاص فيه، وما كان يعوزه للنهوض بالإصلاح العام إلا الاستقلال بالزعامة التي تمكّنه من العمل؛ ولهذا كنا نسعى، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب. إذن لقد كان من حكمة الله أن (كتاب الوحي المحمدي) لم يترجمه بلغات الإفرنج مَنْ ليسوا أهلًا لترجمته، حتى لا أضطر إلى تخطئتهم، فيكون ذلك محبطًا لعملهم، أو مضعفًا للثقة بترجماتهم؛ وادخرها العليم الحكيم لمن هو أحق بها وأهلها. بلوغ الدعوة لأحرار الإفرنج، والمستشرقون منهم: لن يكون بلوغ الدعوة صحيحًا مرجوًّا إلا بوصولها إلى الأحرار، مستقلي الفكر من هذه الشعوب بلغاتهم، وأكثر أفراد المستشرقين الذين تعلموا العربية ليسوا من هؤلاء الأحرار المستقلين المنصفين؛ فإنهم ما درسوا العربية، ولا مارسوا كتب الإسلام ليعرفوا حقيقته ويعرفوا غيرهم بها، بل ليبحثوا عن عورات يتلمسونها فيها لينفروا أقوامهم عنه بتصويرها لهم بالصور المشوهة التي ينكرونها، كما نرى فيما اطلعنا عليه من كتبهم وفي معجمهم العلمي الذي سموه بدائرة المعارف الإسلامية، ومن خيبة الآمال بعلمهم ومصنفاتهم أن وجدت كتاب (مفتاح كنوز السُّنة) على غير ما كنت ظننت، وخلاف ما قلت في التعريف به، فإنني لم أستفد منه أدنى فائدة. وأما المستقلون منهم - وهم الأقلون - فقد غلبتهم الأفكار المادية على عقولهم، فقضاياها عندهم مسلمات كأنها لا مجال للبحث فيها، وقد قربنا مسافة الخلف بيننا وبينهم بما أقمناه في هذا الكتاب من البينات العلمية القطعية، على أن القرآن لا يمكن أن يكون من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا من مدارك عقله الظاهر، ولا ما يسمونه العقل الباطن؛ فإذا فرضوا أن للإنسان عقلاً باطنًا لا تعرف حقيقته يدرك به من علم الغيب والشهادة ما هو خفي وخارق للعادة في السنن المعروفة لكسب العلم من الحواس والفكر، وعللوا به ما يسمونه قراءة الفكرة ومراسلة الأفكار، وإدراك المنوم بالاستهواء المغناطيسي - وقد بينا لهم أنه لا يكفي لتعليل الوحي المحمدي - فأي بُعد بين هذا العقل الخفي المفروض في باطن الإنسان وبين وجود عقل خفي مثله في خارجه (وهو ما نسميه الملك كما نسمي الأول الروح) يكون الوحي الحقيقي باتصال أحدهما بالآخر كاتصال الكهربائية الإيجابية بالسلبية، وتولد النور من اتصالهما، فإن ما زعموه من انقداح وحي القرآن من عقل محمد الباطن وحده محال كما قررنا، وهذا أقرب التعليلين، والفرق بينهما قريب جدًّا؛ فما ثَمَّ إلا اختلاف الأسماء. وفوق هذا وذاك قيام البراهين الكثيرة على وجود الله الخالق لكل شيء، الذي دون الإيمان به لا يمكن القطع بشيء من مسائل الكون وسننه، فإنهم كلما أثبتوا شيئًا عادوا فنفوه، وكلما أبرموا أمرًا نقضوه. لقد قرب ظهور الحق لأحرار هذه الشعوب، وسنراهم بعد ترجمة هذا الكتاب يدخلون - إن شاء الله - في دين الله أفواجًا، وقد بطلت ثقتهم بكل ما عداه من الأديان. لعل كتاب الوحي المحمدي قد وصل إلى جميع هؤلاء المستشرقين الذين يعرفون العربية، فإنني أهديته إلى من عرفت عناوينهم، وأرسله غيري إلى أناس منهم، ومن عاداتهم أن يبحثوا عن كل كتاب جديد له شأن، وقد شكر لي بعضهم هذه الهدية بكلمة لم يزد عليها (كصاحب مفتاح كنوز السنة، الدكتور فنسنك) وانفرد العلامة الدكتور موريتس الألماني منهم بإبداء رأي فيه، فأنشر هنا نص كتاب الشكر الذي تفضل به، وهو: برلين ٨ سبتمبر سنة ١٩٣٣ جناب الشيخ العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم. بعد التحية والاحترام: فتفضلتم بإرسال إليَّ نسخة كتابكم الجديد (الوحي المحمدي) فالرجاء قبول جزيل الشكر على هذه الهدية النادرة القيمة، وبالخصوص على ما أظهرتم بها من عدم نسيان شخصي، ولا حاجة للتأكيد لكم أني اطلعت عليه بغاية الاهتمام، ولا ريب عندي أنه يجد كمثله في عالم العلماء. وفي أثناء هذا الاطلاع قد عثرت على جملة مسائل ونقط تستحق ملاحظات، لكن نظرًا لحجم هذا الجواب الذي لا يتسع أن أدخل في جميعها، أقتصر بواحدة منها، أي في معنى كلمة نبيء الأصلي (ص٢١) عند العبرانيين القدماء، فكان (نبيأ) في أوائل عصرهم المتكلم بصوت عالٍ، ثم الناطق في أمور أمته القضائية والسياسية، أي مثل ناصح ومستشار لإرشادها، لكن شيئًا فشيئًا تتبعًا لتقدم الدين الإسرائيلي تغير موقعه وصفته فصار واعظًا وناصحًا في الأمور الدينية؛ لأنه كان معتقدًا أن هذه الوظيفة صارت له، بناء على أمر من الله بذلك، وأنه المتكلم باسم الله، والدليل على ذلك أنه يستعمل في أول كلامه - أي نبوته - هذه الكلمات: هكذا قال ياهُو (وهو اسم إله بني إسرائيل وغيرهم من الأمم الشرقية المنتشرة بين الحجاز وبين سوريا الشمالية) ... إلخ. وفي الختام أكرر لكم الشكر الواجب مع تمنياتي الصميمة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... دكتور موريتس
يقول هنا العلامة الكبير: إن هذه الهدية نادرة القيمة، وأنه اطلع على الكتاب بغاية الاهتمام، وأنه لا يرتاب في أنه يجد في عالم العلماء ما ينبغي لكتاب مثله، فهؤلاء العلماء قد بلغتهم دعوته، وفهموا ما تحديتهم به من الآية الكبرى على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وما نزل عليه من وحي القرآن، ولم يقدر أحد منهم أن ينقضها، أو يأتي بتعليل لهذه المعجزة الدالة على إتيان محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن في أسلوبه ومعانيه، وما فيها من العلوم العالية التي لخصتها في المقاصد العشرة ولتأسيس أقوم دين وأقوى دولة وأمة في عشر سنين قَلَبا أعظم دول الأرض وأديانه في ثلث قرن. وما ذكره الدكتور من الملاحظة على بعض مدلول لفظ (النبي) عند اليهود فهو منقول من قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوسط، وقد ذكرت المعنى الذي أشار إليه في كلامي على النبوة من الطبعة الثانية (ص ٢٥) وهو في (٤١) من هذه الطبعة الثالثة. ولا أزال أتمنى لو يتفضل عليّ بغير هذه الملاحظة، وأخص بالذكر ما عساه ينتقده من جوهر الموضوع ولبابه، وإذن أرويه عنه بنص وأبلغه جوابي عنه. تعادي الأمم والدول وحاجتها إلى الإسلام: لا تزال دول أوربة وأمريكة وشعوبهما على ما وصفتهما به في مقدمة هذا الكتاب من الشقاء والشقاق، والرياء والنفاق، وقد عقدوا في هاتين السنتين مؤتمرًا بعد مؤتمر واتفاقًا بعد اتفاق، ولا يزالون كحمار الرحى يدور ولا يبرح مكانه، ليس للحق ولا للصدق عندهم قيمة، فقد ظلوا منذ عقدوا عهد (فرسايل) يجرون فيه مع ألمانية على قاعدة البرنس بسمارك (المعاهدات حجة القوي على الضعيف) حتى إذا اضطروها إلى نقضها سرًّا، كما نقضوها جهرا. وتجديد قوة حربية جوية يرهبونها، أذعنوا لمساواتها لهم في الحقوق والكرامة الدولية كرهًا، وكانوا يمارون فيها ويأبونها طوعًا، بل صاروا يخافونها أن تسطو عليهم، ويجددون المحالفات الدفاعية التي أفضت إلى الحرب العامة السابقة، حتى ذلوا لمحالفة الدولة الشيوعية عدوتهم كلهم، وأنَّى لهم الفرار من حكم كتاب الله في الأمر بالوفاء بالعهود والنهي عن جعلها دخلاً وخداعًا لأجل أن تكون أمة هي أقوى من أمة، فتكون المعاهدات أنكاثًا لا مندوحة عن نقضها كما بينا ذلك في محله [١] . بغوا واستعلوا على ألمانية وهم يعلمون أنها تعلوهم علمًا وصناعة ونظامًا، وفرائصهم ترتعد فَرَقًا من استعدادها السري للحرب، وقد ذاقوا بطشتها القاهرة، التي كادت تفتك بهم كلهم من قبل، ولكنهم اتكلوا على خداع معاهدتهم الخاطئة الكاذبة، وعلى تجديد محالفاتهم التي قصدوا بها أن يكونوا إلبًا واحدًا عليها، وأن تكون في عزلة لا تجد فيها وليًّا ولا نصيرًا. صاح زعيمها المجدد (هتلر) صيحة بنقض تلك المعاهدة، وتجديد السلاح الجوي والبحري والتعبئة؛ فراعتهم كزئير الأسد يجفل الغنم، وقالوا: إن سلم أوربة وحربها رهن يديه، وعمرانها وخرابها بين شفتيه، ظلوا يصيخون السمع لما سيقوله في خطابه السياسي العام، حتى إذا ما ألقاه كان حجة بالغة له، دامغة لخصومه، وصادعة لآخر حصن لدول الاتحاد الثلاث في وجهه (اتفاق ستريزا) فعادت إنكلترة تفاوض ألمانية في قواتها الجوية والبحرية، وكانت تستكبر عن هذا، وكشرت عن أنيابها لإيطالية فيما تحشره من جيوش وذخائر للعدوان على دولة الحبشة المعتصمة معهم بعهد عصبة الأمم، الذي هو في نظرها كسائر العهود الأوربية حجة القوي على الضعيف، وقد رأوا كيف رفضته بل رفسته كل من اليابان وألمانية برجلها، ولكن البلية كل البلية في تعارض مطامع الأقوياء، فزعيم إيطالية مغتر بقوتها، جانح لفتح الحبشة أو نقصها من أطرافها. وإنكلترة أعز منها وأقوى، وإن هذا لصدع في اتحاد هؤلاء الأحلاف لا يلتئم؛ فهذا الزعيم المعتز بسلطانه الشخصي يرى خيبته بعد الشروع في وسائل الزحف قضاء على نفوذه، وأمته في اضطراب لا ينقذها منه إلا فوزه فيه، وألمانية لابد لها من استعادة جميع مستعمراتها، وهي أقدر على إخضاع إنكلترة في الهواء والماء. وماذا تفعل فرنسة إذا تركته إنكلترة؟ وجملة القول أن هذه الدول وشعوبها لا تزال - ولن تزال - على ما وصفناها به في مقدمة الطبعة الأولى للكتاب من فساد لا علاج له إلا هداية الإسلام، دين الأخوة الإسلامية والعدل والرحمة والسلام؛ فيجب المبادرة إلى تبليغ دعوته، وإقامة حجته، وهو قد أعد عقلاء المسلمين لتعميم هذه الدعوة عندما ينهض زعيم مسلم لكفالتها وتوحيد النظام لها، ويرى قارئه الشواهد على هذا فيما نشرناه من التقاريظ في آخره، وفي مقدمتها قول شيخ الإسلام المراغي لمؤلفه: إنكم وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي.. . إلخ، وسائرها مؤيد لقوله، يدل على استعداد في الأمة لتنفيذه. استعداد المسلمين لدعاية الإسلام: ذكرت في آراء شيخنا الأستاذ الإمام من تاريخه (ص٩٣٩، ج١) أن أمم الحضارة في الغرب سيذوقون من فتن مدنيتهم ومفاسدها السياسية ما يضطرهم إلى طلب المخرج منها، فلا يجدونه إلا في الإسلام - إسلام القرآن والسنة لا إسلام المتكلمين والفقهاء - وأنه صرح بهذا مرارًا في دروسه في الأزهر وفي غيره. وأقول الآن: لكنه ما سمع لقوله هذا صدًى، ولا وجد على نار المسلمين هدًى، فكان يرجح أن هداية القرآن ستظهر في غيرهم من الشعوب الحية، وأن هؤلاء المسلمين الجغرافيين سيطلبون إسلام القرآن والسنة منهم تقليدًا لهم كما يقلدونهم في الزينة والإباحة والإسراف في الشهوات الذي أفسدهم جميعًا. وسمعت مثل هذا الرأي من الأستاذ المراغي وغيره من الأفراد، ولعلي أوسع علمًا واختبارًا لمسلمي الأقطار من كل هؤلاء، وأجدر منهم بسوء الظن فيهم، ولكن ظهر لي بتقبل عقلائهم لكتاب (الوحي المحمدي) بما تقبلوه به من إيمان وشهادة ورجاء وثناء ودعاء، أن استعدادهم لهداية القرآن والدعاية له قد دخل في طور جديد، ألم تر كيف تجاوبت أصوات المقرظين له في مصر وسورية والعراق وغيرها من الأقطار بقول القائلين إنهم كانوا يفكرون ويتمنون ويتساءلون قبله عن كتاب يصلح للدعوة إلى الإسلام فلا يجدون، حتى إذا رأوه وجدوه الضالة التي ينشدون؛ أو لم تر كيف شاركهم فيها أئمة المسلمين وملوكهم المتقون؟ فعلم من هذا أن المسلمين لا يمكن أن تعود إليهم الحياة إلا بمثل ما بدأ به سلفهم من روح القرآن وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام مالك: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما ذلك إلا أن يكونوا على علم بالقرآن يوقنون به أنه مصلح لجميع البشر، وأن حملته يجب أن يكونوا أئمة البشر وهداتهم، والمصلحين لما أفسدته المدنية المادية من عقائدهم وأخلاقهم، فإن لم يملكنهم هذا اليقين فلا رجاء في دينهم ولا دنياهم، ولكن نشر هذا اليقين فيهم يتوقف على نظام وزعامة يثق بها الخاص والعام، وسيرون الدعوة له تبث في هذا العام، وسنرى قد استعدادهم لتأييدها بأموالهم وأنفسهم فيسرنا - إن شاء الله -: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: ١٥) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار