الفصل الخامس (مقام خديجة عند قومها) ما أكرم هذا المقام , وأي بليغ لا تأخذه الهيبة إذا دعي لتصور هذه المنزلة؟ سيدة بطلعتها الفخامة والشرف يتجليان، والجمال والكمال يتآلفان، ومزايا كالزهر نفحًا وطيبًا ... وكزهر السما بهاءًا ونورًا من شرف حَسَب، إلى كرم محتد، إلى سؤدد قبيل، إلى عز عشيرة، إلى جمال ذات، إلى كمال صفات، إلى فضل حجى، إلى طهارة نفس، ذلك ما كان تتزين به سيدتنا (خديجة) وذلك ما كانت تحل به بين قومها في المكانة العالية والمقام الكريم. هذه المزايا ليست بالبدع من الأشياء، ولا نبأها بغريب من الأنباء، بل هي معهودة في كثير من النسوة، ومع ذلك لم يكن لاسمهنّ نصيب بغير الخمول، قد طويت أعلامهن، ولم ينشر ذكرهن، ولم يسمُ في أقوامهن مقامهن، فكيف تسامى اسم (خديجة) وعلت منزلتها؟ إنما كان لخديجة ذلك الشرف بشيء آخر غير مزاياها. ذلك الشيء هو ارتقاء مدارك قومها , وسلامة أذواقهم , وحسن انتظام مجتمعهم. وليس بكافٍ لتعالي امرئ أن يكون كاملاً بل لا بُدَّ مع ذلك من إحاطة قومه علمًا بفضائله , ووجود ميل فيهم للفضائل والكمال , ومن المشهور أن الحجارة الكريمة عند من لا يعرف مزيتها لا قيمةَ لها , وهي عند عارفيها فوق القيم , فالحق أن ارتفاع من يستحق الرفعة في قوم ليس دليلاً على فضله وسعادة جده وحده , بل هو دليل أيضًا على فضل أولئك القوم وسعادة جدهم، فقد ربح قوم كان للأفاضل منزلة كريمة لديهم، وخسر قوم لا يعلو بينهم إلا من استعان بجيش من الحيل والخداع، وحواشٍ من النقائص المتغلبة على الطباع. وإذا كنا معجبين بالسيدة (خديجة) لوفرة مزاياها الشريفة , فنحن بقومها الذين شرفوا هذه المزايا أشد إعجابًا. وليست (خديجة) وَحْدَها هي التي نالت مقامًا كريمًا في قريش , بل كثير من فضليات نسائهم نلْنَ المقامَ الكريم فيهم , وكان لكثير منهن آثارٌ مشكورةٌ في مساعدة الإسلام , الذي نقل العرب وغيرهم إلى أعلى مما كانوا فيه , ولم يستطعن ذلك بما لهنَّ من القدر الذي يليق بإنسان ذي رأي معدود، وعقل مذكور، ونفس مشابهة , وَحَسْبُكَ من هذا أن الرجل العظيم عمر بن الخطاب أبا العدل وأبا الفتوح وأبا السياسة والإدارة لم يكن إسلامُه إلا بمحاورة سيدة من أولئك السيدات القرشيات , هي أخته فاطمة زوجة ابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. نحن نعلم أن أكثر الناس يمرون بالمزية يعهدون أمثالها , فلا يلتفتون إليها ما لم تكن رائعةً وفوق ما اعتادوا , وهذا عندنا ضارٌّ؛ لأن فيما يعهدونه أيضًا ما يستحق الالتفات إليه، ويغري بالانتفاع منه إن كان مفيدًا، والتغافل عن الإنسان المفيد إذا لم يكن فوق العادة يوصل إلى الحرمان أَلْبَتَّةَ من ذلك الرائع المنشود، والسامي الذي هو فوق المعهود. ولا يشكنَّ القارئ في أن كثيرًا من الأشياء التي صرفتنا الألفة عن إجلال شأنها هي في جلالة الشأن عند الإمعان فوق ما نتصور. وفي كثير مما لا نتفكر فيه منها ما تخر الأفكار صاغرة أمام زاخر فوائده، وباهر أسراره؛ فلذلك أحببنا أن نمر بقارئنا مرةً في تفصيل جملة تلك المزايا التي شرفها قوم (خديجة) حتى كانت بها كريمة المقام فيهم؛ لأنه ربما اختلج في صدره التعجب من إكبارنا شأن مزايا معهودة في كثيرين , وقد يكون قارئنا من حزب الأكثرين الذين لا يبالون بالمعهودات، ولا يطربون بغير الغرائب. نعم، نعم نحن لم نطرف بما فوق المعهود، ولم نُهدِ ما وراء المشهود، ولا عذنا بمبتدعات التصور، ولا لذنا بغرائب الحوادث، وشواذ المصادفة، وخوارق العادة، ولم نمت إلى أفئدة القراء إلا بمعروف له أمثال، ومألوف لا تضيق بتصديقه الأفكار، ولكن الأمر في هذه المعهودات على ما قلنا. وإذا ثبنا إليها بنظر الإمعان غير وسنانة عين بصيرتنا ألفينا فيها عند سأم النفس من لذة الحس، أعظم ما نتوق إليه من لذة التصور وفائدة الإدراك. وإذا كانت الحياة واحدة كان جديرًا بنا أن نقف متذكرين هذه الوحدة أبدًا أمام كثرة اختلاف المظاهر، وشدة احتجاب الأسرار , ولم يكن حسنًا بنا أن ننسى أحاسن ما تلده لنا هذه الأم من الصور التي لا تُحْصَى. إننا بتذكرنا مَن سادوا وشادوا، وبتذكرنا من صلحوا وأصلحوا، بتذكرنا من أوجدوا وابتدعوا - نتذكر تاريخ أمنا الحياة , وترتاح نفوسنا باستجلاء أحسن صورها، وتتوارد عليها اللذة باشتياقها إلى نصيب من ثروة تلك الأم التي جادت بمقاديرَ منها عظيمة على إخواننا أصحاب تلك المظاهر، ولابسي تلك الصور، ولم لا نتوق إلى حديث ذلك التراث وهو يملأ كنوزًا إن عجزت أفكارنا أن تحيط بكُنْهِ جواهره خبرًا فهي لا تعجز أن تأتينا بلذة من التأمل في بديع كيانها , والأمل ببلوغ ما تميل إليه النفس منها. * * * الفصل السادس (فضائل خديجة والفضائل عند قومها) تبارك واهب الحياة، فقد أبدع لنا في (خديجة) المثال الأسنى منها، وأطلع لنا في شخصها زواهر الإنسانية الفضلى، وبنور هذه الزواهر رأينا مدارك قريش في الأفق الأعلى، وتربيتهم الأدبية والعقلية في المنزلة العليا. نحن مَعْشَرَ بني الحياة متفاوتون كثيرًا في قوى النفوس , وأكثرنا في الحقيقة مغبون الحظ، منقوص النصيب من القوى التي تكون بها الحياة هنيئةً شريفةً مسعدةً لصاحبها وغيره , وقليل منا من رزقوا فضلاً من هذه القوى النافعة الآتية بالغبطة والحُبُور. ولدى التأمل نجد استعداد فطرة الشخص هو الأساس في حسن الحظ من هذه القوى النافعة , ثم للتربية دخل كبير , فإذا اجتمع في الشخص استعداد حسن وتربية حسنة كان حظه عظيمًا من فضائل النفس , وقد اجتمعتا في (خديجة) فرأينا في سيرتها ذلك المثال السني، والكمال السمي. عرفنا حسن استعدادها؛ لأن التربية وحدَها لا تفعل شيئًا في جوهر النفس إذا كان غير صالح لفعلها كما لا يصلح الماء لأن تطبع فيه ما تشاء، وعرفنا حسن تربيتها؛ لأن الاستعداد وحده لا يسير بصاحبه إلى المرغوب في المجتمع. ومن حسن استعداد هذه السيدة وحسن تربيتها عرفنا شيئًا آخر جديرًا بالتنويه, وقلما رأينا من نوَّه به أو التفت إليه , فلذلك عنينا به نحن كثيرًا في صدد هذه السيرة وهو ارتقاء قوم (خديجة) ارتقاءً عظيمًا فإن التربية الشخصية مقتبسة في الغالب من التربية العمومية. والمجتمع غالبًا أشبه بالمرآة يرينا من الأشياء مقبولاً ومردودًا ومسكوتًا عنه. وتشتهر المقبولات حتى يطلق عليها اسم المعروف، والمردودات حتى يطلقَ عليها اسم المنكر، ويضطر الناس إلى تقرير تربية عمومية هي أن لا يخالف المعروف، ولا يوافق المنكر، ويبقى للناس سبح في المسكوت عنه من الأشياء حتى يرى كل منهم رأيه فيها , فهذا يستحسن شيئًا حتى يوجبه على نفسه، وذاك يستقبح شيئًا حتى يحرمه عليها. وأعقل الناس في هذه الأشياء المسكوت عنها من جعل المعروف والمنكر معيارًا لها , فكل ما قرب من المعروف كان حسنًا , ويكون وجوبه على حَسَب درجة قرْبه من المعروف، وكل ما قرب من المنكر كان مسترذلاً، ويكون حظره على حسب درجة قربه من المنكر، والأصل في المنكر هو الأذى والعدوان , وعليه قِيسَ الأصل في المعروف قياس الضد , فالأصل فيه العدل والإحسان. فعلى هذين الأصلين تقوم دعامة النظريات في التربية، وعليهما تشاد الأعمال فيها. وأي باحث لا تأخذه هيبة إذا اطلع على ما كان لقوم (خديجة) من التعمق في في دقائق هذا الفن من حيث النظر، وعلى بدائع النتائج فيه من حيث العمل، أي والله إن هؤلاء القوم النازلين في ذلك البلد الصغير البعيد، وإخوانهم الآخرين الضاربين في تلك الفيافي يدهش المطالع ما يراه لهم من الباع الطويل في فن التربية على مقتضى مجتمعهم ذاك. فتراهم مثلاً لما كانت السماحة ضرورية ولا سِيَّمَا لذلك الاجتماع جعلوها في المقام الأول , ولم يأتوا بطبعها في النفوس حتى نبغ فيهم أجواد بلغوا بهمتهم في الجود الكواكب , وازَّينت الأرض بمناقب هممهم، وإيثار أخيهم الإنسان على أنفسهم، كما فعل كعب بن مامة الذي آثر رفيقة بمائه , ومات هو عطشًا. ولما كانت الشجاعة ضربة لازب لكل شخص , وكل جماعة في كل زمان وكل مكان تجدهم جعلوها شعار المحامد وتاج المناقب , وسيروا فيما ضربوه من الأمثال قولهم: (الشجاع موقى، والجبان ملقى) وكانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجمون بالموت على الفراش , ولما بلغ عبد الله بن الزبير - وهو ابن أخي خديجة - قتل أخيه مصعب، خطب فقال: (إن يُقْتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إننا لا نموت حتفًا ولكن قطعًا بأطراف الرماح وموتًا تحت ظلال السيوف. وإنْ يقتل المصعب فإن في آل الزبير خلفًا منه) ذلك لأنهم كانوا يكرهون الحياة إذا لم تشرف , ويرون الحياة الرذيلة معرضة للعدم أكثر من الحياة الشريفة , ولمثل هذا يقول علي بن أبي طالب: (بقية السيف أنمى عددًا، وأطيب ولدًا) وتقول الخنساء وهي إحدى الشهيرات في العرب: نهين النفوس وبذل النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها لا يستنكرن أحد إذا قيل له: إن الشجاعة - وهي السجية التي لا ترقى الأمم إذا خلت منها - كانت في العرب من الأخلاق الفاشية التي لا يعتدّون بأحد منهم ما لم تكن فيه , وقد سهل على نفوسهم انطباع هذا الخلق فيها؛ لأن أكثر شيء كانوا يتناقلونه هو حديث الشجعان، وإقدامهم في الشدائد حتى فضلوا، والجبناء وإحجامهم فيها حتى رذلوا، وهنالك من الشعر في الشجاعة والشجعان ما يفعل في النفوس فعل السِّحْر، فيستنزلها من الخوف على الحياة والهرب بها إلى الخوف على الشرف حتى تهون النفوس في سبيله، كقول عنترة وهو أحد مشهوري شجعانهم: بكرتْ تُخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل ... لا بُدَّ أن أُسْقَى بكأس المنهل فاقني حياء لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل وقد يظن ظانّ أن شجاعة العرب وبَأْسهم لم يكن إلا فيما بينهم , ومثل هذا الظن من قلة الاطلاع عل جملة أخبارهم , فنحن لا نزيد أن نأتي بآية على شجاعتهم مما فعل هؤلاء القوم بعد إسلامهم , فإن ذلك مشهور ولكن حسبنا أن ندل القارئ على ما كان من بأس العرب يوم ذي قار إذ أراد كسرى أن يوقع سوءًا ببني بكر بن وائل؛ لسبب لا محلَّ لتفصيله , فجهز عليهم جيشًا كثيفًا؛ لِيهلكهم به , وبلغهم خبرُه؛ فتجهزوا له، وأعانهم قبائل أخرى , فتوافوا بواد اسمه ذو قار وكانت الهزيمة على جيش كسرى حتى تبعهم العرب إلى داخل البلاد الفارسية , وهي واقعة مشهورة كثرت فيها الأشعار، وظهر فيها ما للشجاعة من الفضل في كسب الفخار، وحمى الذِّمَار، واتقاء العار، وفي هذه الواقعة يقول الأعشى أعشى بني بكر: وجند كسرى غداة الحنو صبحهم ... منا غطاريف ترجو الموت وانصرفوا لقوا ململمة شهباء يقدمها ... للموت ... لا عاجز منا ولا خرف فرع نمته فروع غير ناقصة ... موفق حازم في أمره أنف فيها فوارس محمود لقاؤهم ... مثل الأسنّة لا مِيل ولا كُشفُ لما رأونا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكر فينصرفوا قالوا البقية والهنديّ يحصدهم ... ولا بقية إلا السيف فانكشفوا لو أن كل مَعَدٍّ كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض لمثل الهام تختطف إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت ... حتى تولت وكاد القوم ينتصفوا بطارق وبني ملك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها الشُّنُف من كل مرجانة في البحر أحرزها ... تيارها ووقاها طينها الصدف كأنما الآل في حافات جمعهم ... والبيض برق بدا في عارض يكف ما في الخدود صدود عن سيوفهم ... ولا عن الطعن في اللبات منحرف وفي هذه الواقعة يقول العديل بن الفرج العجلي: ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار وما يعدون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... لما استلبنا لكسرى كل أسوار وفيها يقول شاعر آخر من بني عجل: إن كنت ساقيةً يومًا ذوي كرم ... فاسقي الفوارس من ذهل بن شيبانا واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم ... واعلي مفارقهم مسكًا وريحانا وهي واقعة شهيرة ظهرت فيها الشجاعة العربية أكمل مظهر , وكان المنذر لهم بنية كسرى وعزمه لقيط الأيادي إذ كتب إلى بني شيبان يخبرهم بذلك في شعر مشهور غاية في البلاغة والتحميس واستثارة العزائم , وفيه يقول: قوموا جميعًا على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا وقلدوا أمركم لله درّكمو ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مسترفًا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون مُتِّبِعًا طورًا ومُتِّبَعًا حتى استمر على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا فحما ولا ضرعًا [١] وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغى له الرفعا فعلى مثل ما ذكرنا كان نصيب العرب عامَّةً , وقبيلة خديجة خاصَّةً من الشجاعة التي لا قوام للأمم بدونها , وكانوا لا يعتدون بالجبان، ولا يعدونه شيئًا مذكورا. وينبئك بذلك قول أحد شعرائهم: خرجنا نريد مغارًا لنا ... وفينا زياد أبو صعصعة فستة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعة ثم لم يكن نصيب قوم (خديجة) في فقه النفس والحكمة والمعارف بأقل من نصيبهم في الشجاعة؛ فقد كانوا يتناقلون المعارف، ويتدارسونها من غير كتب , وكان لهم إلمام قليل بحركات الكواكب والأنواء التي تتبعها. وهو يقتضي شيئًا من معرفة الحساب , وكان لهم معرفة غير قليلة بالطب، وحفظ الصحة سواءٌ كان طبّ الإنسان أو طبّ الحيوان. والطِبّ يقتضي أيضًا نصيبًا من علم الخواص , التي أودعها الباري في المعدن والنبات والحيوان. أما معرفتهم بالأخبار أي: التاريخ فحدث عنها ولا حرج , وكانوا يعبرون عن هذا العلم بعلم النسب , فإن علم النسب في الحقيقة ليس عبارة عن معرفة نسب الأشخاص والقبائل؛ فإن هذه معرفة بسيطة لا تستحق أن تُسمّى عِلْمًا , وإنما كان النسابون يعرفون أخبار أولئك الأشخاص وأخبار تلك القبائل , وهذا هو التاريخ وربما كان السبب في اشتهار هذه المعرفة باسم علم الأنساب أن عارفي الأخبار كان إليهم المرجع في معرفة الأنساب التي من أهم فوائدها معرفة تفريع القبائل , وإلحاق الفروع بأصولها على شدة البعد بين الأصول وتلك الفروع أحيانًا. وقد كان منهم اختصاصيون بهذا العلم يلقون منه على من يتحلقون حولهم. قال رؤبة بن العجاج: قال لي النسابة البكري: (يا رؤبة لَعَلَّكَ من قوم إن سكت عنهم لم يسألوني , وإن حدثتهم لم يفهموني) يعيب بذلك على الذين لا يرغبون في تلقي هذا العلم حق الرغبة. قال رؤبة: فقلت له: إني أرجو أن لا أكون كذلك. قال: فما آفة العلم ونكرته وهجنته؟ قلت: تخبرني. قال: (آفة العلم النسيان، ونكرته الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله) . وأما الحكمة والآداب والبيان فقد بلغ فيها هذا الشعب العربي من الانصباب على حفظها ودراسة الكَلِم الجوامع فيها مبلغًا عظيمًا , ويمكنني أن أقول: إنها من أشهر ما اشتُهِرَ عنهم. وهل يجد الباحث معنى من المعاني التي يخطر للنفس فيها الاستحسان أو الاستهجان إلا ويجد لهم الشافي الوافي من البيان في تصويره وإبرازه بأبدع حلة , ولا ينبئك ببعض ذلك شيء كالمأثور من كلمهم الجوامع التي سارت مسير الأمثال، وكانت كالدرر الفرائد بين سائر الأقوال، ولا نستطيع أن نأتي هنا بقليل من ذلك الكثير لِكَيْلاَ نبعدَ بالقارئ عن سياق السيرة , ولكنا نذكر خبرًا واحدًا يدل على مقدار عناية العرب بتذاكر الحكم والآداب، وصياغتها بأبدع البيان، ومقدار ما وسعت منها تلك الأفكار. ذكروا أن عمْرو بن الظرب العدوانِيّ وحممة بن رافع الدَّوْسِيّ اجتمعا عند ملك من ملوك حِمْيَر، فقال: تساءلا حتى أسمعَ ما تقولان. فقال عمرو لحممة: أين تحب أن تكون أياديك؟ قال: (عند ذي الرتبة العديم، وعند ذي الخلة الكريم، والمعسر العديم والمستضعف الحليم) . قال: من أحق الناس بالمقت؟ قال: (الفقير المختال والضعيف الصوَّال، والغني القوَّال) . قال: فمن أحق الناس بالمنع؟ قال: الحريص الكاند والمستميد [٢] الحاسد، والمخلف الواجد) قال: مَن أجدر الناس بالصنيعة؟ قال: مَن إذا أُعْطِيَ شَكر، وإذا مُنِعَ عذر، وإذا مُطِل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: مَن أكرم الناس عشرة؟ قال: (مَن إذا قرب منح، وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح) . قال: مَن ألأَم الناس؟ قال: (من إذا سأل خضع وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع [٣] ، ظاهره جشع، وباطنه طَبَع) [٤] . قال: فمَن أجلّ الناس؟ قال: (مَن عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزة الظفر) قال: فمَن أحزم الناس؟ قال: (مَن أخذ رقاب الأسود بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيب دبر أذنيه) قال: فمَن أخرق الناس؟ قال: (مَن ركب الخطار، واعتسف العثار، وأسرع في البدار قبل الاقتدار [٥] ) قال: مَن أجود الناس؟ قال: (مَن بذل المجهود، ولم يأسَ على المفقود) قال: فمَن أبلغ الناس؟ قال: (مَن حلَّى المعنى العزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحزيز) . قال: من أنعم الناس عيشًا؟ قال (مَن تَحَلَّى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف) . قال: فَمَن أشقى الناس؟ قال: (مَن حسد على النعم، وسخط على القسم، واستشعر بالندم على ما انحتم) . قال: فَمَن أغنى الناس؟ قال: (مَن استشعر اليأس، وأظهر التجمل للناس، واستكثر قليل النعم، ولم يسخط على القسم) قال: (فمَن أحكم الناس؟) قال: من صمت فادَّكر, ونظر فاعتبر , ووُعظ فازدجر) قال: (من أجهل الناس؟) قال: (مَن رأى الخرق مغنمًا، والتجاوز مغرمًا) . وما ذكرناه من جهة معارف القوم الذين نشأت منهم هذه السيدة كافٍ في الدّلالة على أنه كان من جملة ما يعنون به من التربية تثقيف ناشئتهم , بما عندهم من المعارف على الطريقة التي ألفوها وتعودوها في التعليم , وهي الطريقة الطبيعية الساذجة الخالية من الاصطلاحات والتعاريف والتفاصيل التي يحتاج إليها نَفَر قليلون , ويستغني عليها الآخرون. ولِكل فرع أهله الذين بهم استعداد لالتقاطه بسهولة , ولا يكلف البليد في شيء أن يكد في تفهمه مدركته، أو ينضي في حفظه ذاكرته، أو في توسيعه مخيلته. ثم قد كان مما عُنِيَ به العقلاء من رهط خديجة التربية على العدل , ولقد أسلفنا شيئًا عن وَلَعِهِمْ بِهِ، وحِرْصِهِمْ على حماية المظلوم، ووقاية المهضوم. وكذلك ولعوا بامتداح العفاف وتشريف الأعفاء والعفائف، وإجلال الطهارة وأهلها , وكان من أكرم ألقابهم وأجلها لقب الطاهر والطاهرة , وقد حازت السيدة (خديجة) هذا اللقب الشريف باستحقاقٍ إذ كان يقال لها: (الطاهرة) . فإذا عرف المطالع الكريم أن لهؤلاء القوم حظًّا كبيرًا من هذه الأشياء , التي هي أصول الفضائل نَعْنِي: السماحة والشجاعة والحكمة والآداب والبيان والعدل والتعفف كان جديرًا به أن لا ينظر إلى صغر شأن ذلك المجتمع إذا قُورِنَ بِبلاد الحضارة , فإن الفضل الإنساني الممنوح مِن يد الفاطر المبدع لا يتوقف على زخرف البيوت , وكثرة الدور في البلد الواحد , بل يصل ذلك الفضل بإرسال رَبّانِي مِن يَدِهِ سبحانه إلى الذرات الصغيرة التي في الأدمغة , ويختص به سبحانه أفرادًا مِمّن عنوا بتوجيه العقول والقلوب إلى تصفية النفس، وتزكيتها من النقائص، وتحليتها بالفضائل ممن لم يجعلوا أكبر همّهم تجويد المأكل والملبس والمسكن والفراش. فإذا كثر من هؤلاء الأفراد في أُمّة ظهرت وإن حلّ الخفاء بهم، واستوفت وإن بخس الوزن لهم، ولم يكن الأفراد الذين تَلَقَّوْا هدية الفضل الإنساني من الإحسان الربّاني قليلين في قوم (خديجة) الفاضلة , بل كانت كثرتهم خير مقدمة لخير نتيجة هي ظهور ذلك الرسول الكريم الذي كان من أكبر مميزات جماعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , أولئك الذين وافاهم الوحي ينعتهم بما هم أهله قائلاً: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:١١٠) . ((يتبع بمقال تالٍ))