في لبس قلنسوة أهل الكتاب وأكل ذبائحهم واقتداء الشافعية بالحنفية
ذكرنا في الجزء الثامن عشر أنه شاع أن بعض علماء مصر أفتى رجلاً ترنسفاليًّا بجواز لبس القلنسوة التي يلبسها أهل أوربا وتسمى (البرنيطة) وأن بعض الناس أكبر هذه الفتوى جهلاً منهم بالدين، وذكرنا من هداية السنة السَنَيَّةِ ما تَبيّن به أن الإسلام لم يقيد أهله بزي مخصوص؛ لأن الزي من العادات التي تختلف باختلاف حاجات الشعوب وأذواقهم وطبائع بلادهم فهو مباح لهم فلم يكن من حكمة هذا الدين العام لجميع البشر أن يقيد شعوب الأرض كلها بعادة طائفة منهم كأهل الحجاز أو غيرهم؛ ولهذا لبس النبي عليه الصلاة والسلام من لبوس النصارى والمجوس والمشركين كما ثبت في الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إلى بعضها في ذلك الجزء ولذلك ترى للمسلمين في كل قطر زيًّا يشاركهم فيه غالبًا من ليس من دينهم؛ بل أكثر لبوسهم مأخوذ عن النصارى برمته ومنه زي العثمانيين الرسمي كما تقدم. ثم بعد كتابة ما أشرنا إليه رأينا في بعض الجرائد أن الذي أفتى بما ذكر هو مفتي الديار المصرية، وأنه أفتى بفتويين أخريين كانتا أيضًا موضوع لغط الجاهلين الذين لا يعرفون من الدين إلا ما ينسب إليه من العادات والتقاليد الشائعة بين المسلمين في بلادهم خاصة. وقد ذكر في إحدى الجرائد نص الأسئلة التي رفعت إلى المفتي مع أجوبتها، ويقال: إن بعض أصحاب الجرائد اشترى ورقة الفتوى من الترنسفالي بمال كثير لظنه أن فيها ما يثبت مخالفة المفتي في ذلك للمشهور من مذهب الحكومة التي يفتي به الحكومة وللمعروف عند العامة، فيؤاخَذ!! وسعى بعد ذلك في نشرها في الجرائد وانبرت إحداها للرد عليها أو التنويه بخطئها بدعوى المدافعة عن الدين. ولو كان صاحبها يعتقد بأن الفتاوى خطأ كلها أو بعضها لكان الواجب عليه أن لا يصرح بأن إمامًا كبيرًا أفتى بها؛ لأن كثيرًا من الناس في مشارق الأرض ومغاربها يثقون بفتواه ويعملون بها ولا يصدهم عن ذلك أن صاحب جريدة سياسية لم يرضَ بها. فإن كان يرى أن المستفتي معتقد بصحة الفتوى فكان عليه أن يقنعه بعدم صحتها إن قدر. أما الأسئلة التي قدمها الترنسفالي للمفتي فهي بنصها: (١) يوجد أفراد في هذه البلاد تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعود الفوائد إليهم فهل يجوز ذلك أم لا؟ (٢) إن ذبحهم (أي: نصارى الترنسفال) مخالف؛ وذلك لأنهم يضربون البقر بالبلط وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية والغنم يذبحونها من غير تسمية أيضًا هل يجوز ذلك أم لا؟ (٣) إن الشافعية يصلُّّون خلف الحنفية بدون تسمية ويصلون خلفهم العيدين ومن المعلوم أن هناك خلافًا بين الشافعية والحنفية في فرضية التسمية وفي تكبيرات العيدين فهل تجوز صلاة كلٍّ خلف الآخر أم لا؟ هذا نص الأسئلة كما نشرتها الجرائد. فأما المسألة الأولى فقد علمت ما فيها. وأما الثانية فظاهر السؤال أنه عن جواز فعلهم وليس من شأن المسلم أن يبحث عن أفعال غير المسلمين في نفسها، فلا بد أن يكون المراد الاستفهام عن جواز أكل المسلم من تلك الذبائح، وقد أفتى المفتي بالجواز واستدل عليه بالآية وهو موافق في ذلك للجماهير من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين كما ستعلم ذلك بنصوصه. وأما المسألة الثالثة ففتواه فيها بالجواز موافق لعمل سلف الأمة الصالح بلا استثناء، وإنما استنكرها الجاهلون؛ لأن بعض الفقهاء من الحنفية والشافعية حكى في ذلك خلافًا مبنيًّا على استنباطاتهم المعروفة الناشئة عن التعصب للمذاهب الذي يفرق بين المسلمين ويجعلهم شيعًا، كل شيعة تبطل عبادة الأخرى وكأنهم يرون أن يكون لكل أهل مذهب مساجد خاصة بهم كالنصارى: وكل خير في اتباع مَن سلف ... وكل شر في ابتداع مَن خلف كان الإمام أحمد يرى الوضوء في الفصد والحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب؟ هكذا كان السلف الصالحون، حتى جاء الخلف المتعصبون المفرقون، ولكن سَورة التعصب للمذاهب قد سكنت في هذا العصر لذلك لا يرى المفسدون وجهًا للغط في هذا الجواب. * * * طعام أهل الكتاب أما مسألة ذبيحة أهل الكتاب فهي التي أكثرت اللغط فيها الجريدة السياسية والسؤال ناطق بأن أهل تلك البلاد (الترنسفال) يذبحون البقر بعد ضربها بالبلطة ولكن موضع المخالفة لبعض المسلمين أنهم لا يذكرون اسم الله عليها. والمفتي أفتى بالأخذ بنص آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) ؛ فقد قال الله هذا بعد آية تحريم الميتة، وأحل طعامهم وهو يعلم ما يقولون عند الذبح ويعلم ما يعتقدون بعُزَيْرٍ والمسيح. وإننا ننقل بعض كلام أئمة السلف من الصحابة والتابعين في ذلك ثم نأتي بفقه الدين في تحريم الميتة وما أُهل به لغير الله فنقول: جاء في تفسير الآية من كتاب (فتح البيان في فهم مقاصد القرآن) ما نصه: (والحاصل أن حل الذبيحة تابع لحل المناكحة على التفصيل المقرر في الفروع. والطعام اسم لما يؤكل ومنه الذبائح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح ورجحه الخازن. وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب من اللحم وغيره حلال عند المسلمين وإن كانوا لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: ١٢١) ، وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزير وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح، وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول. وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل. وهو قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: ١٢١) . ويدل عليه أيضًا قوله:] وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ [وقال مالك: إنه يُكره ولا يُحرم. وسئل الشعبي وعطاء عنه فقالا: يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله. وأما مع عدم العلم فقد حكى الكيا الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية ولما ورد في السنة من أكله (صلى الله عليه وسلم) من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في الصحيح أيضًا وغير ذلك) . ثم ذكر أهل الكتاب مَن هم واستثناء سيدنا علي بني تغلب منهم؛ لأنهم من العرب الذين لم يأخذوا من النصرانية إلا شرب الخمر وذكر الخلاف في المجوس ونقل بعد ذلك عن القرطبي أنه قال: (قال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم وكذلك اليهود) وفي تفسير ابن جرير نحو ما تقدم ومنه روايات عن الصحابة بحل ما ذبحه النصارى للكنائس عملاً بعموم الآية. فعلم من هذه النقول أن ذبائح أهل الكتاب حِل عند جماهير المسلمين وإن لم يكن ذبحها على الطريقة الإسلامية؛ بل وإن كانت على خلاف الطريقة الإسلامية عملاً بإطلاق الآية الكريمة التي هي آخر ما ورد في الأكل نزولاً وبذلك استدل مفتي الديار المصرية وقال في نصارى الترنسفال: إنهم من أشد النصارى تعصبًا في دينهم وتمسكًا بكتبهم ثم قال: (ومجئ الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) من بعد آية تحريم الميتة: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (المائدة: ٣) بمنزلة دفع ما يتوهم من تحريم طعام أهل الكتاب؛ لأنهم يعتقدون بألوهية عيسى وكانوا كذلك كافة في عهده عليه الصلاة والسلام إلا مَنْ أسلم منهم. ولفظ (أهل الكتاب) مطلق لا يصح أن يحمل على هذا القليل النادر فإذًا تكون الآية كالصريح في حل طعامهم مطلقًا كما كانوا يعتقدونها حلاًّ في دينهم دفعًا للحرج في معاشرتهم ومعاملتهم) . اهـ وهو موافق للنقول التي قال بها جماهير الأئمة كما تقدم. * * * الفقه في تحريم الميتة وكيفية التذكية {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: ١٤٥) . وألحق في آية المائدة بالميتة ما في حكمها مما مات بغير قصد التذكية وهو المنخنقة بدخول رأسها بين عودين أو في حبل ونحو ذلك والموقوذة وهي التي ضُربت بعصا أو حجر غير محدد ولا بقصد الذبح حتى انحلت قوتها وماتت والمتردية من شاهق، والنطيحة أي التي تموت بالمناطحة وما أكل السبع، قال تعالى بعد ذكر هذه الأنواع: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: ٣) ؛ أي: ما أدركتم فيه حياة فذكيتموه بالقصد ثم قال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (المائدة: ٣) وهي أحجار كانوا يذبحون عليها للأصنام. فأما تحريم ما أهل لغير الله به فهو أشد المحرمات تحريمًا؛ لأن علة تحريمه تتعلق بحفظ جوهر الإيمان؛ لأن ذكر اسم غير الله مما يعتقد على الذبيحة ضرب من الوثنية وعمل المشركين، وأما الميتة فقد قيل: إن علة تحريمها أن احتباس الدم فيه يجعل أكلها ضارًا وهو تعليل ينافي إطلاقه علم الطب كما ينافيه الكتاب والسنة الصحيحة في الإذن بأكل الصيد تصيده بالجوارح فيموت من غير تذكية وكذلك صيد اليد بشرطه قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (المائدة: ٤) أي: ما أحضره الكلب ونحوه لصاحبه ولم يأكل منه روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك فعلى نفسه) ، وفي رواية لهم أن عديًا قال: قلت: وإن قتلن: قال (وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها) قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيد؟ قال: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكُلْه وإن أصبته بعرضه فلا تأكله) ، وقد اختلف في تفسير المعراض فقيل هو سهم لا نصل له ولا ريش وقيل هو خشبة ثقيلة في آخرها عصا محدد رأسها وقيل هو عصا في طرفها حديدة وكأنه كان يطلق على هذه الأشياء، وكانوا يرمون الصيد بها والمراد بالخزق الخدش فإذا جرحت هذه العصا الصيد فمات حل أكله. وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة والحكم مجمع عليه إلا أن أحمد وإسحق منعا الصيد بالكلب الأسود البهيم وفي رواية من حديث عدي متفق عليها أيضًا أنه قال عليه السلام: (إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة) ومذهب الشافعي أنه إذا أكل منه بعد إحضاره يحل. وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي ثعلبة الخُشني قال: (إذ رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن) وروى البخاري والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة أن قومًا قالوا: يا رسول الله إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: (سمّوا عليه أنتم وكلوا) وكانوا حديثي عهد بالكفر. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنَّا نصيد الصيد فلا نجد سكينًا إلا الظرار وشقة العصا، فقال صلى الله عليه وسلم: (أمر الدم بما شئت) الظرار: جمع ظر بالكسر وظرر وهو الحجر المدور المحدد. و (أمر) من أمار الشيء ومار إذا جرى أو من مرى الضرع إذا مسحه ليدر، فعلم من مجموع الأحاديث أن الصيد قد يحل وإن مات ولم يذبح وأن التسمية مستحبة غير واجبة ولا شرط للذبح وعليه ابن عباس وأبو هريرة والشافعي، وأن إراقة الدم بأي شيء جائز وأن أخذ الكلب للصيد ذكاة شرعية على أنواع منها الذبح المعروف وهو للغنم ونحوه من الحيوان الصغيرة، ومنها النحر وهو يدل على أن ما قالوه في تعليل تحريم الميتة غير صحيح وعلى أن الذبح المعروف الآن وهو قطع الحلقوم والمريء ليس من الأمور التي تعبدنا بها في الذبح، بحيث لا تصح الذكاة بدونه مطلقًا؛ بل الذكاة الشرعية على أنواع: منها الذبح والمعروف وهو للغنم ونحوه من الحيوان الصغير، ومنها النحر وهو للإبل والخيل والبقر جاءت السنة بذلك في الجميع ومنها الصيد كما علمت، ومنها أن الجنين يوجد في بطن أمه ميتًا فيؤكل تبعًا لها إذا ذكيت بنوع من أنواع التذكية الصحيحة ومنها العقر والجرح. روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فندَّ بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحوش، فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا) ، والجمهور على أن الرمي تذكية له خلافًا لمالك. وروى مَن عدا الشيخين من هؤلاء عن أبي العُشَراء (بضم ففتح واسم عطارد) عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة قال: (لو طعنت في فخذها لأجزأك) ، وقد حمل أبو داود هذا على المتردية والنافرة والمتوحشة وأخذ بهذا الشافعية وكثير من الفقهاء ولكن السؤال يدل على الإطلاق وإن كان في سند الحديث الأخير مقال. فعلم من هذه الأحاديث الصحيحة أن التذكية الشرعية هي ما كانت بقصد من الإنسان إلى إماتة الحيوان لأكله، فإن باشر ذلك بنفسه فله أن يفعله بكل محدد جارح وإن كان حجرًا إلا أنه جاء في حديث النهيُ عن التذكية بالسن والظفر فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله إنَّا نلقى العدو غدًا وليس معنا مُدًى (جمع مُدية وهي السكين) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ما لم يكن سنًّا أو ظُفرًا) وسأحدثكم عن ذلك (أي: عن سبب استثناء السن والظفر) أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة. وقد اختلف في هذه الجملة هل هي من المرفوع أو مدرجة والراجح أنها مدرجة لتعليل النهي ولذلك لم يرضَ جميع العلماء هذا التعليل بل قال بعضهم: إن علة النهي هي أن في الذبح بالسن والظفر تعذيبًا للحيوان. وقيل غير ذلك. وكما تصح التذكية بكل آلة جارحة تصح بأية كيفية ممكنة كما رأيت في الإذن بأكل ما خزقه المعراض والإذن بالطعن في الفخذ. والبلطة التي جاء ذكرها في سؤال الترنسفالي لا تقل عن هذه المحددات إنهارًا للدم وعقرًا للحيوان، على أنه قال: إنهم يعقرون البقر أو يضربونه بها ثم يذبحونه وظاهر أن الذبح قبل الموت فإذا فرضنا أن الضرب بالبلطة وقذ (وهو ليس بوقذ؛ لأنها آلة محددة ولأن الضرب بها يقصد به التذكية للأكل لا الإهلاك) فهو داخل فيما استثنى الله تعالى بقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: ٣) ؛ فإنهم يذبحونها كما قال السائل فأين مكان الغيرة على دين أهل الترنسفال أن يأكلوا الموقوذة ممن لا يغار على دين نفسه فهو يفتي بغير علم؟ ثم إن هذه الأحكام كلها خاصة بالمسلمين وأما أهل الكتاب فغير مكلفين بها عملاً لأن الذين يقولون من العلماء أنهم مكلفون بفروع الشريعة كالشافعية يريدون بذلك أنهم يعذبون على تركها في الآخرة عذابًا زائدًا على عذاب ترك الإيمان لا أنهم يطالَبون بها في الدنيا فالمسلمون متفقون إذًا على أنهم غير مطالَبين بهذه الأحكام وطعامهم مع هذا حلال بنص الكتاب كيفما كان إلا ما حرم لذاته عندنا وعندهم كلحم الخنزير إذا أكلوه. وقد علمت أن جماهير أئمة السلف والخلف أباحوا ذبائحهم وإن لم يذكروا اسم الله عليها؛ بل وإن ذكروا اسم غيره عملاً بعموم الآية التي اعتبروها مخصصة للأمر بالتسمية وملاحظة لقاعدة عدم مطالبتهم بفروع الشريعة. علمت أيضًا أن ما أهل به لغير الله هو أشد المحرمات؛ لأنه من أعمال الشرك وأنه مع ذلك قد أحل أكله أكثر المسلمين من طعام أهل الكتاب فلأن يحلوا ما ذكاه أهل الكتاب على غير طريقة التذكية عند المسلمين أولى فقد رأيت من الأحاديث الصحيحة التساهل في أمر التذكية وكثرة أنواعها حتى يكاد يتعذر أن توجد طريقة للتذكية لا تشملها هذه الأحاديث. إن سلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين اعتبروا كل مَن يُنسب إلى اليهودية والنصرانية مِن أهل الكتاب الذين تحل ذبائحهم سواء تمسكوا بدينهم أم لا إلا ما نقل عن علي كرم الله وجهه من استثناء بني تغلب من متنصّرة العرب معللاً ذلك بقوله: إنهم لم يأخذوا عن النصارى إلا شُرب الخمر. واكتفى الجماهير بنسبتهم إلى النصارى ومن هنا تورع بعض أئمة المالكية كالقاضي أبي بكر بن العربي واشترط في حل ذبائح النصارى أن يأكل منه قسيسهم وعامتهم فلم يكتفِ بعمل من ينتسب إليهم دون علماء دينهم ورؤسائه وجرى على هذا التورع مفتي الديار المصرية في فتواه للترانسفالي فقال ما نصه كما نشر في الجرائد: (وأما الذبائح فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب الله تعالى في قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) ، وأن يعولوا على ما قاله الإمام الجليل أبو بكر بن العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح من مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم ويعد طعامًا لهم كافة) ، ثم أوضح هذا بما نقلنا بعضه من قبل، وقد تقدم أن القرطبي قال: (جمهور الأمة على أن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم) وممّن صرّح بحل ذبيحة بني تغلب سعيد بن المسيب والحسن البصري وهما أعلم أئمة التابعين وأورعهم، فلعل المفتي زاد في الورع عليهما تأثرًا بقول المالكية الذين تلقى مذهبهم أول اشتغاله بالعلم، وإن كان لا يعمل الآن إلا بقوة الدليل وأراد موافقة الإجماع في فتواه من حيث العمل بها لا من حيث اشتراط ما قاله ابن العربي، فإن الجماهير لا يشترطونه كما علمت. * * * نص فتوى القاضي أبي بكر بن العربي قال في تفسير آية: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) من كتابه (أحكام القرآن) ما نصه: (هذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق وإنما كرره الله تعالى ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتحرج إلى تطويل القول. ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل تؤكل معها أو تؤخذ منه طعامًا؟ وهي المسألة الثامنة فقلت: تؤكل؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله أباح لنا طعامهم مطلقًا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه. ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا نساءهم أزواجًا فيحل لنا وطؤهن فكيف لا نأكل ذبائحهم والأكل دون الوطء في الحل والحرمة؟) اهـ. وقد استنكر هذه الفتوى بعض الطلاب الذين لا يعرفون من الإسلام إلا ما يرون عليه قومهم من العادات الدينية، فسأل عنها أبا عبد الله الحفار أحد علماء المالكية فأجاب بما نصه: (لا إشكال فيه - أي: قول ابن العربي - عند التأمل؛ لأن الله أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم على الوجه الذي أبيح لهم من ذكاة فيما شرعت فيه الذكاة على الوجه الذي شرعت. ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا في ذلك الحيوان المُزكّى ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرم الله سبحانه علينا بالخصوص كالخنزير وكالميتة التي لم تقتل بقصد الأكل وأما ما لم يحرم علينا على الخصوص فهو مباح كسائر أطعمتهم وكل ما يفتقر إلى الذكاة من الحيوانات، فإذا كان على مقتضى دينهم حل لنا أكله، ولا يشترط في ذلك أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا؛ ذلك رخصة من الله وتيسير علينا. وإذا كانت الذكاة تختلف في شريعتنا فتكون ذبحًا في بعض الحيوانات ونحرًا في بعض وعقرًا في بعض وقطع عضو كرأس وشبهه كما هو ذكاة الجراد ووضعًا في ماء حار كذلك كالحلزون فإذا كان هذا الخلاف عندنا بالنسبة إلى الحيوانات فكذلك قد يكون شرع في غير ملتنا سل عنق الحيوان على وجه الذكاة فإذا أجاز الكتابي ذلك أكلنا طعامه كما أذن لنا ربنا سبحانه ولا يلزمنا أن نبحث عن شريعتهم في ذلك؛ بل إذا رأينا أهل دينهم يستحلون ذلك أكلنا كما قال القاضي أبو بكر؛ لأنها طعام أحبارهم ورهبانهم. (وإنما وقع الاستشكال في هذه المسألة؛ لأن سل عنق الحيوان عندنا لا يستباح به أكل الحيوان بل يصير ميتة، فصارت الطباع نافرة عن الحيوان المفعول به ذلك، فحين أباح القاضي ذلك من طعام أهل الكتاب وقع استشكاله ولا إشكال فيه على ما قررته. وعلى المحمل الذي ذكرته حمله بعض أئمتنا المتأخرين المحققين) . اهـ. ولم يذكر الحفار بقية أنواع التذكية الشرعية من أخذ الكلاب وغيرها من الجوارح المعلمة للصيد وإتيانها به ميتًا ومن الرمي بالسهم والصيد بالمعارض وما ذكرناه كافٍ. *** كلام الشيخ محمد بيرم في مسألة الخنق ذكر الفقيه الحنفي الشيخ محمد بيرم الخامس في كتابه (صفوة الاعتبار) مبحثًا طويلاً في ذبائح أوربا ونقل عن أهل مذهبه أن ذبائح أهل الكتاب حلال مطلقًا وجاء بتفصيل في أنواع المأكول في أوربا ثم قال ما نصه: (وأما مسألة الخنق فإن كان لمجرد شك فلا تأثير له كما تقدم وإن كان لتحقق فلم أَرَ حكم المسألة مصرحًا به عندنا وقياسها على تحقق تسمية غير الله أنها محرمة عند الحنفية وأما عند من يرى الحل في مسألة التسمية كما هو مذهب جمع عظيم من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فالقياس عليها يفيد الحِلِّية؛ حيث خصصوا بآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) آية، {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: ١٢١) آية، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (المائدة: ٣) وكذلك تكون مخصصة لآية المنخنقة ويكون حكم الآيتين خاصًّا بفعل المسلمين والإباحة عامة في طعام أهل الكتاب؛ إذ لا فرق بين ما أهل به لغير الله وما خنق فإذا أبيح الأول فيما يفعله أهل الكتاب فكذلك الثاني. وقد كنت رأيت رسالة لأحد أفاضل المالكية نص فيها على الحل وجلب النصوص من مذهبه بما ينثلج به الصدر سيّما إذا كان عمل الخنق عندهم من قبيل الذكاة كما أخبر كثير من علمائهم، وأن المقصود التوصل إلى قتل الحيوان بأسهل قِتلة لتوصل إلى أكله بدون فرق بين طاهر ونجس مستندين في ذلك لقول الإنجيل على زعمهم فلا مرية في الحِلِّية على هاته المذاهب. فإن قلت: كيف يسوغ تقليد الحنفي لغير مذهبه؟ قلت: أما إن كان المقلد من أهل النظر وقلد الحنفي عن ترجيح برهان فهذا بما يقال: إنه لا يسوغ له ذلك؛ أي: إلا أن يظهر له ترجيح دليل الحل ثانيًا، وأما إذا كان من أهل التقليد البحت كما هو في أهل زماننا فقد نصوا على أن جميع الأئمة بالنسبة إليه سواء والعامي لا مذهب له وإنما مذهبه مذهب مفتيه، قوله: أنا حنفي أو مالكي، كقول الجاهل: أنا نحوي، لا يحصل له منه سوى مجرد الاسم، فبأي العلماء اقتدى فهو ناجٍ. على أن الكلام وراء ذلك فقد نصوا على الجواز والوقوع بالفعل في تقليد المجتهد لغيره والكلام مبسوط في ذلك في كثير من كتب الفقه وقد حرر البحث أبو السعود في شرح الأربعين حديثًا النووية وألف في ذلك رسالة عبد الرحيم المكي فليراجعهما من أراد الوقف على التفصيل. فإن قيل: قد ذكرت أن الخنزير محرم وإن كان من طعامهم فلماذا لا يجعل مخصصًا بالحِلية بهذه الآية؛ أي: آية طعامهم، وإذا جعلت آية تحريمه محكمة غير منسوخة، فكذلك تكون المنخنقة؟ ولماذا تقيسها على مسألة التسمية ولا تقيسها على مسألة الخنزير؟ وأي مرجح لذلك؟ فالجواب أن المأكولات منها ما حرم لعينه ومنها ما حرم لغيره فالخنزير وما شاكله من الحيوانات محرمة لعينها ولهذا تبقى على تحريمها في جميع أطوارها وحالاتها. وأما متروك التسمية أو ما أهل به لغير الله والمخنقة فإن التحريم أتى فيه لعارض وهو ذلك الفعل ثم أتى نص آخر عام في طعام أهل الكتاب وأنه حلال فأخرج منه محرم العين ضرورة وبالإجماع أيضًا وبقي المحرم لغيره وهو مسألتان: إحداهما: مسألة التسمية. والثانية: مسألة المنخنقة. فبقيتا في محل الكل لتجاذب كل من نصي التحريم والإباحة لهما فوجدنا إحداهما وهي مسألة التسمية وقع الخلاف فيها بين المجتهدين من الصحابة وغيرهم وذهب جمع عظيم منهم إلى الإباحة وبقيت مسألة المنخنقة التي يتخذها أهل الكتاب طعامًا لهم مسكوتًا عنها فكان قياسها على مسألة التسمية هو المتعين لاتحاد العلة. وأما قياسها على مسألة الخنزير فهو قياس مع الفارق فلا يصح؛ إذ شرط القياس المساواة. وإنما أطلنا الكلام في هذا المجال؛ لأنه مهم في هذا الزمان وكلام الناس فيه كثير والله يؤيد الحق وهو يهدي السبيل.اهـ. * * * توضيح القول في الموقوذة وإدراك ذكاتها قال القاضي البيضاوي في تفسير الموقوذة: هي المضروبة بنحو خشب أو حجر حتى تموت، من (وقذته) إذا ضربته، وتبعه في ذلك أبو السعود الحنفي في تفسيره وكذلك السيد محمد صديق حسن في تفسيره فتح البيان وزاد أن الوقذ هو شدة الضرب حتى يسترخي ويشرف على الموت (قال) : وشاة موقوذة: ضُربت بالخشب، وهذا هو المنصوص في القاموس وشرحه وغيرهما من المعاجم. وفي مجمع بحار الأنوار: (الوقيذ والموقوذ هو الذي يقتل بغير محدد من عصا وحجر) وقد صرح الإمام الرازي بأن الموقوذة في معنى الميتة والمنخنقة قال: (فإنها ماتت ولم يسلْ دمها) وهذا لا خلاف فيه فإن الوقذ هو الضرب بغير المحدد. وقد ذكر في تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: ٣) ، أنه استثناء من جميع ما تقدم من المنخنقة إلى قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} (المائدة: ٣) وهو قول علي وابن عباس والحسن وقتادة (قال) : فعلى هذا أنك إذا أدركت ذكاته بأن وجدت له عينًا تطرف أو ذنَبًا يتحرك أو رجلاً تركض فاذبح فإنه حلال فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال) اهـ بحروفه. والتعبير بالذكية يؤيده فإن أصلها - كما قال الرازي وغيره - إتمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه ومثله الذكاء في السن ويقال: ذكيت النار؛ أي: أتممت إشعالها، كأنه يقول: إلا ما أتممتم أنتم إماتته بذبح ونحوه. وقال في فتح البيان في مقاصد القرآن: ففي قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: ٣) ، استثناء متصل عند الجمهور وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقًا وفيه حياة ثم ذكر خلاف غير الجمهور، وقال في إدراك الذكاة: وأما كيفية إدراكها فقال أهل العلم من المفسرين: إن أدركت حياته بأن توجد له عين تطرف أو ذنَب يتحرك فأكله جائز. وقيل: إذا طرفت عينها أو ركضت برجلها أو تحركت فاذبح فإنه حلال. وقال الآلوسي في تفسيره: أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه، وعن السيدين السندين الباقر والصادق رضي الله عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن. وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد. وقال بعضهم: يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل أن يضطرب بعد الذبح لا قبله. اهـ وأطال ابن جرير في رواياته عن الصحابة في تأييد الأول. فعلم بهذا أن ما يضرب بمحدد كالبلطة لا يسمى وقيذًا ويدل على ذلك حديث صيد المعراض في الصحيحين وغيرهما: (وإن أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكله) ، وأنه لو كان من الوقيذ فإن ما يفعله أهل الترنسفال من ذبحه وإسالة دمه بعد ضربه محلل له كما تقدم وإنما ذكرنا هذه النقول؛ لأننا بعد كتابة ما تقدم وتمثيله للطبع رأينا الجريدة السياسية تدَّعي أن ما يفعله أهل الترنسفال من الوقذ وأنه لا يحل وإن ذبح وسال دمه. وقد زادت على كلام الترنسفالي قولها: (ثم يذبحونها تتميمًا لقتلها فيسيل منها الدم مصفرًّا دالاًّ على حصول الارتجاج المخي المفسد للدم ... ) ... إلخ والسائل لم يقل ذلك ولو قاله لما كان مانعًا لصحة التذكية وحل الذبيحة؛ إذ لم يشترط أحد من المسلمين أن يسيل الدم أحمر أو أسود وإنما اشترطوا علامة تدل على الحياة حتى حركة أصغر الأعضاء كالجفن، وسيلان الدم بأي لون من أقوى علامات الحياة. ولكن السياسة إذا تلاعبت بالدين لا تبالي بكتاب ولا سنة ولا قول إمام ولا مفسر ولا فقيه ولا لغوي، فقد خالفت جميع العلماء في الموقوذة. * * * (الخلاف في التسمية) خلُص لنا مما تقدم أن كتاب الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب مطلقًا لم يشترط في ذلك أن يأخذنا بأحكام الإسلام في التذكية، وأن أكثر المسلمين من السلف والخلف أخذ بهذا الإطلاق؛ فأكل النبي وأصحابه من اللحوم التي طبخوها والجبن الذي عملوه إلا أن الحنفية اشترطوا أن لا يعلم الآكل أن ما عرض له من اللحم قد أُهل به لغير الله أو تُرك ذكره عليه وكل ما نقلته الجريدة فهو عن مفسريهم وفقهائهم وخالفهم في ذلك أكثر العلماء كما تقدم ونص على ذلك مفتي الحنفية في بغداد الشهاب الآلوسي في تفسيره. وقال الطبري في تفسير {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} (الأنعام: ١٢١) الآية: (واختلف أهل العلم في هذه الآية هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عينت به وعلى هذا قول عامة أهل العلم. وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد قال: حدثنا يحيى ابن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري قال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (الأنعام: ١١٨) ، {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام: ١٢١) فنسخ واستثنى من ذلك فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} (المائدة: ٥) والصواب من القول في ذلك عندنا أن هذه الآية محكمة فيما أنزلت لم ينسخ منها شيء وأن طعام أهل الكتاب حلال وذبائحهم ذكية وذلك مما حرم على المؤمنين أكله بقوله: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} (الأنعام: ١٢١) بمعزل؛ لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميتة وما أهل به للطواغيت. وذبائح أهل الكتاب ذكية سموا عليها أو لم يسموا؛ لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله يدينون بأحكامها يذبحون بأديانهم كما يذبح المسلم بدينه سمى الله على ذبيحته أو لم يسمه إلا أن يكون ترك من ذكر تسميته على ذبيحته على الدينونة بالتعظيم أو بعبادة شيء سوى الله فيحرم حينئذ أكل ذبيحته سمى الله أو لم يسمِّ) ا. هـ ويعني بالأخير من يترك التسمية لترك الدين السماوي بالمرة أو للدخول في الوثنية. ويؤيد تخصيصه الآية بالذبح للطواغيت أن الآية مكية وآية حل طعام أهل الكتاب مدنية وهي من آخر القرآن نزولاً. والشافعية يحلون ترك التسمية ولو عمدًا وقالوا: إن النهي مقيد بقوله تعالى:] وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [وفسر الفسق بقوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} (الأنعام: ١٤٥) وهو ما كان يفعله المشركون لطواغيتهم وأهل الكتاب يحرمونه مثلنا وقد أطال الإمام الرازي في ترجيحه (راجع التفسير الكبير) ، أما إذا لم يعلم الآكل أنهم أهلوا به لغير الله أو تركوا التسمية فأكله حلال بإجماع السلف والخلف كاللحم الذي يباع عادة في بلاد اليهود والنصارى ولم يحضر المسلم ذبحه ومنه اللحم الذي يباع في بلاد الترنسفال. وأما ضرب البقر بالبلطة قبل ذبحه ليضعف فهو لا ينافي التذكية الشرعية عندنا لو فرضنا أنهم مطالَبون بها وقد علمت أنهم غير مطالبين. * * * (تأييد الفتوى وحقيقتها وما به الإفتاء) فظهر أن الفتوى مؤيَّدة بالكتاب والسنة وعمل السلف والخلف وأقوالهم وأن خلاف الحنفية فيها لا يتحقق في واقعة الفتوى؛ إذ لا يمكن العلم بأن كل لحم يراه المسلم هناك لم يذكر اسم الله عليه ولو فرضنا أنه تحقق فمذهب الجمهور أقوى من مذهبهم لقوة أدلته، والمفتي يجب عليه أن يفتي بما يراه أقوى دليلاً وأقوم قيلاً وأنفى للحرج بإجماع المسلمين من السلف والخلف، وإذا كانت المحاكم الشرعية تسأل المفتي في مصر عن الصحيح من مذهب أبي حنيفة فليس كل مسلم مكلفًا بهذا المذهب بل المسلمون مكلفون بكتاب الله وما صح عن رسوله، وعلى العلماء النظر في ذلك والترجيح به بين أقوال العلماء. وقد نقل عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يقولون: لا يصح لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف دليلنا، وكذلك كان يقول جميع أئمة المسلمين (راجع نصوصهم في مقالات المصلح والمقلد من مجلد المنار الرابع) فلم يبق بعد هذا إلا أن يرجع صاحب تلك الجريدة عن اعتراضه بغير علم ويعلن ذلك في جريدته ليظهر أنه غير سيء القصد وغير متلاعب بنصوص الدين عمدًا، ومتهجم على تحريم ما أحل الله قصدًا، ويثبت أن ما يقوله بعض الناس من أن هذه الجعجعة قد انفرد بها صاحب هذه الجريدة الذي ليس من أهل هذا الشأن دون العلماء والفقهاء وسائر الجرائد؛ لغرض سياسي لغيره، شخصي له فهو يتوقع قضاء لبانته منه كما قضاها من غيره. ونختم الكلام بتذكير المفتات على الشرع بقوله تعالى في سورة النحل بعد حصر المحرمات في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلا المضطر إليه. وهو: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: ١١٦-١١٧) . * * * (قول في اجتهاد المفتي وتقليده) أما اللغط بأن إفتاء مفتي الديار المصرية بغير مذهب الحنفية يتضمن دعوى الاجتهاد فيمكن الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن تقليد أهل النظر الذين يسمون علماء بالمذاهب هو عبارة عن اتباع ما يعتقدون أنه الأقوى دليلاً من أقوال الأئمة وقد أشرنا إلى أن مفتي الديار المصرية لهذا العهد تلقى مذهب الإمام مالك في أول تحصيله للعلم فيجوز أن يكون يعتقد ترجيحه إلى الآن، وإن كان تلقّى مذهب الحنفية وبرع فيه وعرف صحيحه من غيره فإن لم يكن يرجح جميع مسائله فيجوز أن يكون يعتقد رجحان بعضها، وقد قال العلماء كافة بأن تقليد بعض الأئمة في بعض المسائل وتقليد آخر في بعضها جائز وما من عالم شهير إلا وله فتاوى فيما يخالف المذهب الذي ينسب إليه. وفي مقالات المصلح والمقلد بيان في ذلك. والثاني: أنه مجتهد وما كان لمَن يفسر القرآن بمثل ما يفسره به ويقيم الحجج منه على بطلان التقليد واستحقاق صاحبه لمقت الله وعذابه أن يكون مقلدًا وحسبك من ذلك تفسير الآيات المنشورة في هذا الجزء فراجعها واعتبر بها إن كنت من المؤمنين، أما إنكار المقلدين الجاهلين عليه الاجتهاد فلا قيمة له؛ إذ ليس للمقلدين من حجة ولا هم من أهلها، فَبمَ ينكرون؟ وقد نشرنا ولا نزال ننشر من الدلائل والبراهين على بطلان التقليد في غير التفسير ما فيه مقنع لمن لم يختم الله على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة. وقد كتب مفتي الديار المصرية في التوحيد والتفسير ما يقصر عنه كل ما كُتب فيهما مما وصل إلينا من كتب الأولين والآخرين، وفضل الله ليس محصورًا في زمن معين، ولا رحمته مقيدة بأفراد مخصوصين، بل تسع كل شيء. ولا ينافي ذلك إفتاؤه الحكومة والمحاكم بمذهب الحنفية فإنهم يسألونه عنه لا عن اجتهاده ومن يسأله عن رأيه يفتيه به. فإن قيل: إن من علماء هذا العصر من يطعن فيه. نقول: إن هؤلاء الطاعنين من الحاسدين أو المقلدين الذين أخذوا على أنفسهم تفنيد مَن يتبع الكتاب والسنة من غير نظر في أدلته وقد طعن في الأئمة العظام من قبله مَن هم في طبقتهم علمًا واجتهادًا ولهذا قال ابن عباس (رضي الله عنه) : (استمعوا قول القراء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها) رواه ابن عبد البر في كتاب العلم، والمراد بالقراء العلماء، وبه عبّر في الإحياء، وروى مثل ذلك عن مالك بن دينار بلفظ (العلماء) وقد ذكرت بعض ما طعن به على الأئمة الأربعة لغيرهم كالبخاري وأضرابه بعض أهل العلم في عصرهم في كتاب (الحكمة الشرعية) . * * * (واقعة تناسب ما تقدم) جاء في ذكر حوادث المحرم سنة ست وثلاثين ومائتين وألف من الجزء الرابع من تاريخ الجبرتي ما نصه (ص٣١٦) : وفيه من الحوادث أن الشيخ إبراهيم الشهير بباشا المالكي بالإسكندرية قرر في درس الفقه أن ذبيحة أهل الكتاب في حكم الميتة لا يجوز أكلها وما ورد من إطلاق الآية فإنه قبل أن يغيروا ويبدلوا في كتبهم فلما سمع فقهاء الثغر ذلك أنكروه واستغربوه ثم تكلموا مع الشيخ إبراهيم المذكور وعارضوه، فقال: أنا لم أذكر ذلك بفهمي وعلمي، وإنما تلقيت ذلك عن الشيخ علي الميلي المغربي، وهو رجل عالم متورع موثوق بعلمه، ثم إنه أرسل إلى شيخه المذكور بمصر يعلمه بالواقع، فألف رسالة في خصوص ذلك وأطنب فيها فذكر أقوال المشايخ والخلافات في المذاهب واعتمد قول الإمام الطرشوشي في المنع وعدم الحل وحشا الرسالة بالحط على علماء الوقت وحكامه وهي نحو الثلاثة عشر كراسة (كذا) وأرسلها إلى الشيخ إبراهيم فقرأها على أهل الثغر فكثر اللغط والإنكار خصوصًا وأهل الوقت أكثرهم مخالفون للملة وانتهى الأمر إلى الباشا فكتب مرسومًا إلى كَتْخُدَا بيك بمصر وتقدم إليه بأن يجمع مشايخ الوقت لتحقيق المسألة وأرسل إليه أيضًا بالرسالة المصنفة. وأحضر كتخدا بيك المشايخ وعرض عليهم الأمر، فلطف الشيخ محمد العروسي العبارة وقال: الشيخ علي الميلي رجل من العلماء تلقى عن مشايخنا ومشايخهم لا ينكر علمه وفضله وهو منعزل عن خلطة الناس إلا أنه حاد المِزَاج وبعقله بعض خلل والأولى أن نجتمع به ونتذاكر في غير مجلسكم وننهي بعد ذلك الأمر إليكم. فاجتمعوا في ثاني يوم وأرسلوا إلى الشيخ علي يدعونه للمناظرة فأبى عن الحضور وأرسل الجواب مع شخصين من مجاوري المغاربة يقولان: إنه لا يحضر مع الغوغاء بل يكون في مجلس خاص يتناظر فيه مع الشيخ محمد بن الأمير بحضرة الشيخ حسن القويسني والشيخ حسن العطار فقط؛ لأن ابن الأمير يناقشه ويشن عليه الغارة، فلما قالا ذلك القول تغير ابن الأمير وأرعد وأبرق وتشاتم بعض مَن بالمجلس مع الرسل وعند ذلك أمروا بحبسهما في بيت الآغا، وأمروا الآغا بالذهاب إلى بيت الشيخ علي وإحضاره بالمجلس ولو قهرًا عنه فركب الآغا وذهب إلى بيت المذكور فوجده قد تغيب فأخرج زوجته ومن معها من البيت وسمَّر البيت فذهبت إلى بيت بعض الجيران. ثم كتبوا عرضًا محضرًا وذكروا فيه بأن الشيخ علي على خلاف الحق وأبى عن حضور مجلس العلماء والمناظرة معهم في تحقيق المسألة وهرب واختفى لكونه على خلاف الحق ولو كان على الحق ما اختفى ولا هرب والرأي لحضرة الباشا فيه إذا ظهر وكذلك في الشيخ إبراهيم باشا السكندري (كذا) وتمموا العرض وأمضوه بالختوم الكثيرة وأرسلوه إلى الباشا. وبعد أيام أطلقوا الشخصين من حبس الآغا ورفعا الختم عن بيت الشيخ علي ورجع أهله إليه. وحضر الباشا إلى مصر في أوائل الشهر ورسم بنفي الشيخ إبراهيم باشا إلى بني غازي ولم يظهر الشيخ علي من اختفائه) ا. هـ (المنار) هذا ما كان من علماء الأزهر في أوائل القرن الماضي وهم شيوخ علماء الأزهر الحاضرين أو شيوخ شيوخهم فيجدر بمشيخة الأزهر اليوم أن تنتصر للحق الذي انتصرت له من قبل. وإذا كان العروسي شيخ الأزهر يقول يومئذ في تلطيف أمر من يحرم ذبائح أهل الكتاب من العلماء أن في عقله خللاً فماذا ينبغي أن يقول شيخ الأزهر اليوم في جاهل بالشرع يحرم ذبيحة أهل الكتاب ردًّا على فتوى مفتي الديار المصرية بالحل المحتج عليها بالقرآن الكريم؟ وإذا كان أمير مصر في القرن الماضي رأى وهو في كمال استقلاله وعدم دخول النصارى في أعماله - أن العالِم الذي قال بعدم حل ذبائحهم يستحق النفي من بلاده فماذا يرى أمير مصر اليوم في ذلك وهو أعلم من جده بوجه الحاجة إلى محاسنة الأمم النصرانية والأخذ بالأقوال الشرعية التي تقنعها بأن ديننا دين مدنية وعمران! لعل الرئيسان العظيمان يريان ويقولان: إن سلفنا اهتموا بتأديب الشيخين اللذين حرما ذبائح النصارى؛ لأنهما من العلماء الذين ينخدع العوام بأقوالهم وأما المحرم لها اليوم فهو من رجال القوانين فلا يلتفت أحد إلى قوله في الدين وهو رأي صائب. وإن كان النهي عن المنكر من الواجب.