للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدرس العشرون

الوحي وأقسامه
م (٦٠) إمكان الوحي:
تقدم أن إثبات النبوة يتوقف على إثبات كون الإنسان مركبًا من جسد وروح،
وأن الروح ليست من عالم الملك المادي المشهود؛ وإنما هي من ملكوت أعلى
مغيب بحقيقته عنا، وقد عرفنا أرواحنا بآثارها، لا بكنهها وأسرارها، وكما يمتاز
أفراد من الناس بالقوة الجثمانية على سائر أهل قطرهم، أو على سائر الناس
كقيصر روسيا السابق إسكندر الثالث الذي كانت تلين في يديه المعادن، حتى إن
كان ليغمز الريال الروسي من وسطه بأصبعه، فيصير مجوفا كالفنجانة، ويضع
فيه زهرة ويعطيها لإحدى عقائل النساء في مجلسه ذاك، كذلك يكون لبعض
الأناسي قوة روحانية يفوقون فيها سائر البشر، فإذا كان من أثر القوة الجسدية ما
ذكرنا عن قيصر روسيا السابق؛ فإن من آثار قوة الروح في البشر ما هو أظهر من
ذلك وأبعد في التفاوت بين أفراد الناس.
آثار القوة الروحية سعة العقل والعرفان وشدة العزيمة والإرادة المساعدة على
العمل بما يحيط به العقل من المعرفة بالمصالح، حتى إننا نرى الرجل الواحد يحيي
أمة أو أممًا بعد مماته، ويجمع شملها بعد شتاتها، ويعمل ما تعجز عنه الملايين
كعمل السلطان صلاح الدين، في قهر ملوك أوربا وإعادة سلطة المسلمين، وكعمل
بسمرك في الوحدة الألمانية، وواشنطون في تحرير البلاد الأميركانية، حتى إن
بعض أهل الزيغ والجحود توهموا أن ما أعطيه الأنبياء من سياسة البشر وإصلاح
شؤونهم وتقويم مدنيتهم هو نحو ما ذكرنا عن هؤلاء الملوك والسياسيين، وما أبعد
ما يتوهمون؛ فإن هؤلاء الرجال ظهروا في أمم لها أديان تهديها، وشرائع وقوانين
تحكم بها، وجيوش منظمة تحمي حقيقتها، وتدافع عن حوزتها؛ ولكنها أساءت
استعمالها، أو رزئت بإهمالها، فأرشدوها إلى الانتفاع بما وهبت فعملت بإرشادهم
وأسعدوها بالرأي الصحيح فسعدت بإسعادهم، فأين هذا من حال الأنبياء
والمرسلين، الذين بُعثوا في أقوام وثنيين، يدعونهم إلى ترك ما هم عليه من
الاعتقادات، ونبذ ما ألفوه من التقاليد والعادات، ولم يكن لهم في إبان ظهورهم قوة
مُلك يعتمدون عليها، ولا شرائع يقتبسون منها، وهل قياس هؤلاء بأولئك، إلا
كقياس الحدادين بالملائك، وإنما ضربنا بهم المثل لبعد المسافة بينهم وبين سائر
الناس، كما أن المسافة بينهم وبين الأنبياء في البعد على نحو تلك النسبة أو أبعد
منها.
م (٦١) ضروب الوحي وأنواعه:
الوحي في اللغة اختصاصك أحدًا بكلام، أو إعلام تخفيه عن غيره، وأصله
الإشارة السريعة كما قال الراغب. ووحي الله إلى الأنبياء عبارة عما يختصهم به من
المعارف التي يريد أن يعملوا بها، وأن يبلغوها الناس للاهتداء بها؛ بحيث يكونون
على بينة من ربهم، وثقة تامة بأن ذلك من لدنه سبحانه وتعالى، ولا يعلم كنه
الوحي وحقيقته إلا من اختصهم الله تعالى به. وقصارى ما يصل إليه علمنا أن
نعرف بالدليل أنهم صادقون في دعوى الوحي وتبليغنا عن العليم الحكيم الرحمن
الرحيم ما مست حاجتنا إليه، وسبق التنبيه عليه، وأن نفهم ما ورد عنهم في ذلك
الوحي من بيانه، ورسومه وأقسامه.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: ٥١) فالآية
الشريفة ناطقة بأن طرق كلام الله لأنبيائه ثلاثة: أحدها: الوحي بلا واسطة، وقد
غلَّب هذا الإطلاق في العرف والاصطلاح؛ وإنما تكون للنبي تلك الأنواع أو بعضها
بالقوة الروحانية الفائقة التي فطره الله تعالى عليها.
من وظيفة تلك القوة وآثارها تمزيق الحجب المادية التي حجبت الروح عن
معالمها، وكسر المقاطر الحسية [١] التي عاقتها عن العروج إلى عالمها، فتعرج
بإذن الله تعالى إلى الملكوت، وتتصل بمن شاء الله تعالى من عماره المقربين،
تتصل بالمَلَك المسمى بروح القدس والروح الأمين {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ
أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: ٥٢) .
يتلقى النبي بهذا العروج الروحاني عن الله تعالى من المعارف التي لا ينالها
الناس بكسبهم ما هم في أشد الحاجة إليه في نظام جمعياتهم، وإصلاح أحوال
معيشتهم؛ ولتطهير عقولهم من أدران الشرك والجهل بالله تعالى، وتنظيف نفوسهم
من لوث الأخلاق الذميمة والسجايا الرديئة، وتحليتهم بالعقائد الحقة والأخلاق
الفاضلة والآداب الصحيحة والعبادات البدنية المرضية التي تمدّ العقائد والأخلاق
والآداب، وتُسْتَمَدُّ منها؛ لأنها كالبريد بين العقل والنفس، وبين الجسد والحس.
وهذا التلقي قد يكون بالإلهام، وعبرت عنه الآية بالوحي المطلق، وهذا الحرف
مستعمل في القرآن بمعنى الإلهام كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ
اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً} (النحل: ٦٨) ... إلخ، وقال جل ذكره: {وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: ٧) الآية، وليس كل موحى إليه بالإلهام
الصحيح نبيًّا مرسلاً، بل النبي هو الموحى إليه بالدين الذي يُرشد به الناس،
وكذلك يقال في مكالمة المَلَك التي وقعت للسيدة مريم عليها السلام، وهي ليست
بنبية على الصحيح الذي عليه الجمهور، والرؤيا الصادقة من هذا القسم، وكانت
أول وحي نبينا عليه الصلاة والسلام كما ورد في حديث البخاري المشهور، وأدخل
بعضهم الإلقاء في القلب في معنى وحي الإلهام، واستدلوا عليه بقول عبيد ابن
الأبرص:
وأوحى إليّ الله أن قد تآمروا ... بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي
نعم إنه يريد بالوحي أن الله خلق في قلبه علمًا بذلك لا يعرف مصدره، وهذا
هو الإلهام. ولكن ورد في الحديث ذكر الإلقاء والنفث في الروع مضافًا إلى روح
القدس، فيدل على أنه يكون من القسم الثالث وهو الوحي بواسطة الرسول، والكل
وحي، وهذا الأول ما يكون بغير واسطة.
هذا النوع من التلقي عن الله تعالى يحصل في روح النبي دفعة واحدة من
غير أن تكون الروح متعلقة بشيء من الأشياء التي تشغلها عن الحس؛ لتجتمع
الهمة ويتم الانسلاخ عن العالم المادي، والاتصال بالعالم الروحاني، وهو الوحي
بدون واسطة مطلقًا، وأما النوع الثاني فهو ما يقيض فيه للنبي ما تتعلق به نفسه
ويشتغل به حسه، حتى تجتمع الهمة ويصح توجه الروح وتبلغ الكمال في قوتها
العقلية، بعد الانقطاع عن الشواغل الكونية، فيكون ذلك حجابًا له بين عالم الغيب
وعالم الشهادة، ويأتيه الوحي من وراء هذا الحجاب، ومن ذلك النار التي رآها
موسى عليه السلام في الشجرة فطار إليها لبه، وعلق بها قلبه، وانحصرت في
مشكاتها روحه، فكان منها فتوحه، وجاءه منها العلم والحكم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
تَكْلِيماً} (النساء: ١٦٤) وكل كلامه تعالى يسمى وحيًا، ولذلك قال عز وجل:
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (طه: ١٣) .
وبقي التلقي عن الله تعالى بواسطة المَلَك المسمى بالروح، وهو القسم الثالث
المُعَبَّر عنه في الآية بقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ} (الشورى: ٥١)
إلى النبي ويُعَلِّمه بما يلقيه في قلبه بإذنه تعالى ما يشاء سبحانه أن يوحيه كما قال:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ} (الشعراء: ١٩٣-
١٩٤) فهذه الآية تدل على أن المَلَك يُلْقِي ما يريد الله إلقاءه للنبي في القلب، فهو
خطاب للروح لما يكون بينهما من الاتصال، وقد ورد في الصحيح أن المَلَك كان
يتمثل بهيئة الإنسان ويؤيده قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً
سَوِياًّ} (مريم: ١٧) وهل يكون كلامه حينئذ ككلام البشر كما في حديث الإيمان
والإسلام والإحسان، أم هو مناجاة روحية على كل حال كما هو ظاهر قوله تعالى:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: ١٩٣-١٩٤) أم يكون تارة
هكذا، وتارة كذلك؟ الله ورسوله أعلم.
م (٦٢) الوقوف عند النصوص:
علينا أن نفهم النصوص وما لنا أن نزيد فيها ولا ننقص منها؛ لأن هذا مما لا
يُعْرَف إلا بالقياس، ولا مجال في حقيقته للعقل ولا للحواس، وما اختلف المختلفون
وفرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا همُّ كل فرقة الرد على الأخرى، إلا لتسمية هذا الوحي
بأنواعه كلام الله تعالى، وإيحائه تكليم الله عز وجل، ولو لم يرد إلا لفظ الوحي
والإيحاء، والتعليم والإنباء، كقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} (النساء: ١١٣) وقوله تبارك اسمه: {نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: ٣) لما
كان لهم أن يقولوا ما قالوه في الصفة النفسية والصفة اللفظية، ولا أن يثبتوا له
سبحانه صوتًا وحروفًا إلى غير ذلك مما نمسك عن الخوض فيه عملاً بهدي
الراشدين، وفي الحديث الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أحيانًا
كصوت السلسلة على الصفوان) ، ولعل ذلك حجاب كنار موسى، وقد علمنا من
الآية أن القرآن الكريم أطلق لفظ التكليم على الوحي الذي بمعنى الإلهام، ورؤى
المنام، والذي بواسطة الحجاب، والذي بواسطة الروح الذي ينزل على القلب،
وظواهر الآيات تنأى بك عن قياس التمثيل، وتربأ بنفسك عن القال والقيل، والله
يقول الحق وهو يهدي السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))