للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


النزاع الديني في ألمانيا
بعض رجال الكنيسة يتحدون النازي [*]

(الريخ الثالث لا يحتاج إلى المسيحية) للأستاذ برجمان
(المسيحية نتيجة حضارة عليلة) لمؤلف نازي
تأتينا الأنباء البرقية في الفينة بعد الفينة بلمحات من النزاع القائم في ألمانيا
بين رجال الكنيسة البروتستانتية والنظام النازي. فما هو مثار الخلاف؟ وما هي
التعاليم النازية التي يعترض عليها رجال الكنيسة؟ وهل يكون هؤلاء المتحدون
للنظام النازي في دائرة الدين نواة للمقاومين في نواحي الحياة الأخرى؟
في أواسط نوفمبر الماضي أذاع نحو (من) ثلاثة آلاف من القساوسة الألمان
وكان يوم الاحتفال بانقضاء ٤٥٠ سنة على ميلاد مارتن لوثيروس بيانًا قالوا فيه:
(نحن وعاظ الإنجيل لا ينبغي (لنا) أن نستنزل على رءوسنا توبيخ النبي أشعيا
حيث يقول: (كلهم كلاب خرس لا يستطيعون النباح، مضطجعون نائمون،
ويحبون أوسن) وبعد ذلك أصدروا بيانًا آخر قالوا فيه: (إن كنيستنا تواجه يوم
الدينونة. والتهجم على الصليب ما يزال في بداءته، إن وثنية جرمانية جديدة قد
بزغت في أمتنا وقد غزت الكنيسة نفسها) .
وقد جاء هذان البيانان احتجاجًا على اتجاهات الحركة الموسومة بالحركة
الألمانية المسيحية في الكنيسة الإنجيلية الألمانية، أما السبب المباشر لإذاعتهما،
فكان اجتماع جمهور غفير ممن يسمون أنفسهم بالمسيحيين الألمان، حضره طائفة
من رؤوس الكنيسة وطالب فيه الدكتور ريتهولد كروس أحد متطرفي الحركة،
بإلغاء الصليب كشارة دينية، وحذف العهد القديم من التوراة من برامج التعليم في
المدارس، وجعل مقاومة اليهود خطة ثابتة للكنيسة البروتستانتية. وزعماء
الفريقين مصرون على السير بالنزاع إلى نهايته.
في ألمانيا نحو ٢٢ ألفًا من قساوسة الكنيسة البروتستانتية. ومن المتعذر أن
تعرف كم قسيسًا منهم تابع للحركة المسيحية الألمانية؛ لأن هذه الحركة ليست
عقيدة أو نظامًا معينًا يُعرف المؤمن به بالانضمام إليه، وإنما هي فلسفة أو وجهة
نظر إلى الحياة، ففي الانتخابات الكنسية التي تمت في منتصف السنة الماضية،
فاز المسيحيون الألمان بنحو (من) ثلثي الأصوات ولكن خصومهم يدعون أنهم
(أي المسيحيين الألمان) أرهبوا خصومهم وقت الاقتراع. ومع أن المسيحيين
الألمان، يختلفون من حيث تطرفهم في الدعاية إلى إلغاء الصليب وحذف العهد
القديم من برامج الدراسة، إلا أنهم جميعًا نازيون، وغرضهم استعمال الكنيسة
أداة لنهضة قومية؛ ذلك أن الكنيسة الإنجيلية الألمانية المؤلفة من الكنائس الثمان
والعشرين في مختلف الولايات الألمانية لها نحو (من) أربعين مليونًا من الأعضاء.
وفي ألمانيا كذلك نحو من عشرين مليونا من الكاثوليك و٨٠٠ ألف من أتباع
المذاهب الأخرى، عدا نحو نصف مليون يهودي (٥٦٤ ألفًا عن التدقيق سنة
١٩٣٠) وكل هؤلاء يتتبعون النزاع الديني القائم بعناية عظيمة. خذ مثلا على ذلك
ما قالته صحيفة جرمانيا الكاثوليكية: إذا كان التبشير بالمسيح في ألمانيا قد أصبح
في خطر فالمسيحيون الكاثوليك يصيبهم شيء من هذا الاضطهاد)
يعتقد المسيحيون الألمان: أن مبدأ الزعامة يجب أن يمتد إلى كل نواحي
الحياة القومية، وأن رؤساء الكنيسة يجب أن يخضعوا لزعامة وسيطرة الزعيم أو
المنقذ أودلف هتلر، والمتطرفون في هذه الحركة يقولون: إن (الدولة المندمجة)
لا يمكن أن تتم إلا إذا اندمج الألمان البروتستانت والألمان الكاثوليك في (الكنيسة
المسيحية الألمانية) التي زعيمها المستشار هتلر. أما هتلر فكاثوليكي ولا يخفى أن
إشاعة راجت من بضعة أشهر أنه ينوي أن يعتنق المذهب البروتستانتي القومي،
أي أن ينضم إلى الكنيسة البروتستانتية القومية، ولكن هذه الإشاعة كذبت.
و (المسيحيون الألمان يعتقدون كذلك أن السلالة Race يجب أن تكون
أساسًا للكنيسة كما هي أساس للدولة. وهذا أساس (الوثنية الجديدة) التي يشير
إليها القساوسة في بيانهم ويحتجون عليها، فالمثل العليا التي يرمي إليها هتلر، لا
يمكن تحقيقها إلا بواسطة شعب آري [١] كذلك يقول الزعماء المتطرفون في
(الحركة المسيحية الألمانية) لذلك يقترحون أن ينشئوا كورًا خاصة باليهود الذين
يعتنقون المذهب المسيحي، وكورًا أخرى منفصلة عنها للمسيحيين، وقد قال أحدهم:
ولما كانت المسيحية لا تستطيع أن تحول الرجل إلى امرأة كذلك لا تستطيع أن
تحول اليهودي إلى ألماني.
والمتطرفون في هذه الحركة يريدون ديانة أبطال، إنهم يريدون نوعًا جديدًا
من فلسفة الاستشهاد، تعبد فيها ألمانيا أبطالها، الممثلين في مليونين من أبنائها
سقطوا في ميادين الحرب الكبرى.
خذ مثلاً على ذلك الأستاذ أرنست برجمان، وهو من الزعماء النظريين لهذه
الحركة الجديدة، خطب في جمهور من الطبقة المثقفة في جامعة برلين فقال: ليس
للمسيحية مكان في الريخ الثالث، ومن شاء أن يوفق بين المسيحية والاشتراكية
القومية (حركة النازي) فليس مسيحيًّا حقيقيًّا ولا قوميًّا صحيحًا (نقلاً عن
نيويورك تيمس ٢٦ نوفمبر سنة ١٩٣٣) .
أما الدكتور ألفرد روزنبرج، أحد مستشاري هتلر المقربين، فيدعو إلى نوع
من التقوى أو الورع الذي يدفع أصحابه إلى مقاومة ومكافحة الماركسية (الشيوعية)
واليهودية والدعوة إلى الإسلام، يقول: (الجرمانية هبة من الله وأنت تطيع
أوامره بالذهاب إلى الحرب) وقوله: (إن سلالة الأسياد هي سلالة من المحاربين
(الصليبيين CRUSADEIS) الشقر وقد وصفت المسيحية في أحد الكتب
الجديدة التي نالت رواجًا عظيمًا، بأنها نتيجة حضارة معتلة أنشأها سكان حوض
البحر المتوسط المنهوكي القوى)
نشأت المقاومة لهذه التعاليم من الداء، واتجهت في الغالب إلى مقاومة ما
يحاوله (المسيحيون الألمان) من السيطرة على حياة ألمانيا الروحية، ولكن
النازيين كانوا قد جردوا الولايات الألمانية من حقوقها المستقلة، لكي ينشئوا منها
الدولة المندمجة أي الريخ الثالث الموحد. وكذلك نشأ القول بأنه لا معنى للاحتفاظ
بكنيسة مستقلة لكل ولاية من الولايات السابقة، فاعترضت مسألة تنظيم الكنيسة
الألمانية الموحدة، ومن يكون رأسها الأعلى؟
وجاءت المعركة الأولى في إبريل من السنة الماضية، فربحها القساوسة غير
النازيين؛ لأن المسيحيين الألمان (لم يكونوا قد نظموا صفوفهم بعد، أو لعلهم كانوا
أقلية حينئذ، ولكن لما كان لا بد من إنشاء كنيسة قومية انتخب القساوسة المعتدلون
في ٢٧ مايو الدكتور فريديمان فون بوديشونغ أول أسقف للريخ.
واحتدمت المعركة بعد الانتخاب؛ ذلك أن حكومة هتلر رفضت أن تعترف
بانتخاب الأسقف وهو غير نازي، ونظم رجال (الحركة المسيحية الألمانية)
صفوفهم بزعامة الدكتور ملر MUELLER الذي اشتهر بتنظيمه (ردهة الشهرة)
لرجال البحرية الألمانية في مدينة (ولميز هافن) وكان في خلال الحرب قسيسًا
لأورطة (تلور) من البحارة، ومن أقوى الدعاة لحرب الغواصات، وعدوا لدودًا
للاشتراكية واليهود، وبعد الحرب عُيِّنَ قسيسًا لأحد فرق الجيش في بروسيا الشرقية.
وكذلك اضطر (فون بود لشونغ) أن ينسحب فتفوق (المسيحيون الألمان)
على خصومهم، وامتدت المعركة إلى الشوارع حيث سرح مؤيدو الأسقف المنسحب
يوزعون النشرات يدعون فيها الجمهور إلى أن يعصوا أوامر (المسيحيين الألمان)
فرد عليهم خصومهم بأنهم حملوا الحكومة على أن تعلن أنها سوف تحاكم المنشقين
وكذلك تعرفت (مضارب التركيز) التي جمع فيها خصوم النازي إلى لباس
القساوسة بين رجالها، وفي أول يوليو بعث الرئيس هندبرج برسالة إلى الهر هتلر
يطلب إليه أن يعدل بين الجميع.
ولما اجتمع السنيودس (المجمع الكنسي) الأعلى في سبتمبر انتخب الدكتور
ملر أسقفًا للريخ، ومن ثم مضى هو وأتباعه في تحقيق التوحيد أو التعاون بين
الدولة والكنيسة، وفي المجمع الكنسي المذكور وافق المسيحيون الألمان على (البند
الآري) الذي أشرنا إليه سابقًا، وفرضوا على القساوسة أن يكونوا آريين وقرروا
أن يحذفوا كلمة (آمين) و (هللويا) من الطقوس الكنسية، ولعل ذلك لأن أصلهما
عبري، وقررت كنائس بروسيا الشرقية أن تدخل الموسيقى العسكرية في الحفلات
الدينية في ولاية برنسويك، وأشير على طلاب العلوم الدينية والقساوسة بالانضمام
إلى فرق الهجوم النازية، وأصبح مرأى العلم النازي حاملاً شارة الصليب [٢]
منظرًا مألوفًا على الكنائس.
ولكن المعارضة لم تلن، كما تقدم في بدء المقال، فاعترض أولا أسقفا
بافاريا وفرتمبرج ثم مجلسا إدارة كليتي الفقه في جامعتي ماربرج وكيل، ثم جاء
بيان الثلاثة آلاف أسقف، فوقف إزاء ذلك أسقف الرين، فعل (البند الآري) ولكن
الزعامة ما تزال في أيدي ملر وأتباعه، والنزاع ما يزال قائمًا.