للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مآثر قريش وخصائصها قبل الإسلام وبعده

أوردنا في رسالة خلاصة السيرة المحمدية جملة من خصائص قريش التي
فضلوا بها القبائل والشعوب، وكانوا أهلاً لظهور الإصلاح الإسلامي فيهم وبعثة
خاتم النبيين منهم، ثم رأينا في هذه الأيام جملة في ذلك فيها تفصيل لبعض ما
أجملناه هنالك وزيادة عليه في كتاب ثمار القلوب للثعالبي فأحببنا نشره في المنار،
ليكون كالتكملة لما أوردناه عند كتابة تلك الرسالة من غير مراجعة كتاب ما، وفيه
زيادة على ما هنا، على توخينا الإيجاز هنالك قال الثعالبي رحمه الله:

أهل الله
كان يقال لقريش في الجاهلية: أهل الله؛ لما تميزوا به عن سائر العرب من
المحاسن والمكارم والفضائل والخصائص التي هي أكثر من أن تُحْصَى.
(فمنها) مجاورتهم بيت الله تعالى وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله،
وصبرهم على لأواء مكة وشدتها وخشونة العيش بها.
(ومنها) ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة (الرفادة شيء تترافد به
قريش في الجاهلية تخرج فيما بينها مالاً تشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا)
والسقاية والرياسة واللواء والندوة.
(ومنها) كونهم على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليه السلام
من قَرْيِ الضيف ورفد الحاج والمعتمرين والقيام بما يصلحهم وتعظيم الحَرَم
وصيانته عن البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم.
(ومنها) كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ويؤتون من كل أَوْب بعيد
وفج عميق، فترد عليهم الأخلاق والعقول والآداب والألسنة واللغات والعادات
والصور والشمائل، عفوًا بلا كلفة، ولا غرم ولا عزم ولا حيلة، فيشاهدون ما لم
تشاهده قبيلة، وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض، ولا المجرب كالغمر،
ولا الأديب كالفضل، فكثرت الخواطر واتسع السماع وانفسحت الصدور، ورأوا
الغرائب التي تُشْحَذ، والأعاجيب التي تُحْفَظ، فثبتت الأمور في صدورهم،
واختمرت وتزاوجت، فتناتجت وتوالدت، وصادفت قريحة جيدة وطينة كريمة،
والقوم في الأصل مرشحون للأمر الجسيم؛ فلذلك صاروا أدهى العرب وأعقل
البرية، وأحسن الناس بيانًا، وصار أحدهم يوزن بأمة من الأمم، وكذلك ينبغي أن
يكون الإمام، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يزن جميع الأمم.
(ومنها) ثابت جودهم وجزالة عطاياهم واحتمالهم المؤن الغلاظ في أموالهم
المكتسبة من التجارة، ومعلوم أن البخل والنظر في الطفيف مقرون بالتجارة التي
هي صناعتهم، والتجار هم أصحاب التربيح، والتكسب والتدنيق، وكان في
اتصال جودهم العالي على الأجواد من قوم لا كسب لهم من التجارة عجب من
العجب، وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد في
الدين فتركوا الغزو؛ كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في الغصوب لم
يبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم والنجاشي بالحبشة
والمقوقس بمصر وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء، فكانوا مع طول ترك الغزو إذا
غزوا كالأسود على براثنها [١] مع الرأي الأصيل والبصيرة الناقدة فهذا يسير من
كثير من خصائصهم في الجاهلية [٢] .
فلما جاء الله تعالى بالإسلام وبعث منهم خير خلقه وأفضل رسله محمدًا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، تظاهر شرفهم، وتضاعف كرمهم،
وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعوا أهل الله، فاستمر عليهم وعلى سائر أهل مكة،
وعلى أهل القرآن هذا الاسم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن
هم أهل الله تعالى وخاصته) وقال لعتاب بن أسيد لما بعثه إلى مكة: (هل تدري
على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله) وسأل عمر بن الخطاب رضي الله
عنه نافع بن عبد الحارث الخزاعي حين قدم عليه من مكة من اسخلفتَ على مكة؟
قال: ابن أبزى. قال: استخلفتَ على أهل الله مولى؟ قال: إنه أَقْرَؤُهم لكتاب
الله تعالى، قال: (إن الله تعالى يرفع بالقرآن أقوامًا) .
قال بعض السلف: حسبك من قريش أنهم أهل الله وأقرب الناس بيوتًا من
بيت الله، وأقربهم قرابة من رسول الله، ولم يسم الله تعالى قبيلة باسمها غير
قريش وصارت فيهم ولهم الخصال الأربع التي هي أشرف خصال الإسلام - النبوة،
والخلافة والشورى والفتوح - فليس اليوم على ظهر الأرض وممالك العرب
والعجم في جميع الأقاليم السبعة ملك في نصاب نبوة، وإمامة في مغرس رسالة إلا
من قريش، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) وقال عليه
السلام: (قَدِّمُوا قريشًا ولا تَتَقَدَّمُوهَا وتعلموا منها ولا تعلموها) وأنشد:
إن قريشًا وهي من خير الأمم ... لا يضعون قدمًا على قدم
أي يُتَّبَعُونَ ولا يَتَّبِعُونَ، وقال الأعشى وهو يعاتب رجلاً ويخبر أنه مع شرفه
لم يبلغ مبلغ قريش:
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حق الشرب في ماء زمزم
وسيمر بك في هذا الكتاب من نكت فضائلهم، وغرر غرائبهم، ما تكثر
فائدته وتطيب ثمرته، وإن كان لا مزيد على وصف الجاحظ لهم ومدحه إياهم
وتخصيصه بني هاشم منهم فإنه رحمه الله ألقى جمة فصاحته واستنزف بحر بلاغته
في فصل له وهو قوله: العرب كالبدن وقريش روحها، وهاشم سرها ولُبُّها،
وموضع غاية الدين والدنيا منها، وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا، وحلي العالم،
والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر
شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم،
وينبوع العلم، ومناهل الظامي إلى الحلم، والسيف الحسام في العزم، مع الأناة
والحزم، والصفح عن الجرم، والإغضاء عن العثرة، والعفو عند القدرة، وهم
الأنف المقدم، والسنام الأكوم، والعزم المشمخر، والصبابة والسر، وكالماء الذي
لا ينجسه شيء، وكالشمس لا تخفى بكل مكان، وكالنجم للحيران، والماء البارد
للظمآن.
ومنهم العمران والأطيبان والشيخان والشهيدان، وأسد الله وذو الجناحين وسيد
الوادي وساقي الحجيج، وحليم البطحان، والبحر والحبر، والأنصار أنصارهم،
والمهاجر من هاجر إليهم أو معهم، والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق بين
الحق والباطل منهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير
إلا هم أو فيهم أو معهم أو يضاف إليهم، وكيف لا يكونون كذلك وفيهم رسول رب
العالمين، وإمام الأولين والآخرين، وسيد المرسلين وخاتم النبيين، الذي لم تتم
لنبي نبوة إلا بعد التصديق به، والبشارة بمجيئه، الذي عم برسالته ما بين الخافقين،
وأظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون، فقال: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} (المدثر:
٣٦) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: ١٥٨)
وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة) وقال:
(نُصِرْتُ بالرعب من مسيرة شهر، وأعطيت جوامع الكلم، وعُرِضَتْ عليَّ مفاتيح
خزائن الأرض) وقال: (أنا أول شافع ومُشَفَّع وأول من تنشق عنه الأرض) .
وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بحياته في القرآن فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: ٧٢) وقال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: ١) فأكد القسم وفسَّر المعنى ثم قصد نبيه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: ٤) ولا عظيم أعظم ممن عظَّمه الله كما أنه لا صغير أصغر ممن صغَّره الله
فأيُّ ممدوح أعظم وأفخر وأسنى وأكبر من ممدوح مادحه الله، وناقل مديحه،
وراوية كلامه جبريل، والممدوح محمد صلى الله عليه وسلم اهـ.