إذا نظرنا إلى ما بين أيدينا من لوازم حياتنا ضرورية وحاجية وكمالية، ألفينا أننا عالة على أوروبا في كل شيء منها، إما بالذات وهو الأكثر، وإما بالواسطة وهو الأقل، فمن يخيط منا ثوبه إنما يخيطه بالآلات والأدوات والخيوط الأوروبية، ونسيج الثوب من أوروبا في الغالب، وما عساه يوجد من أداة وآلة للقطع أو الحرث والعذق من صنع أهل البلاد، فحديدها مجتلب من أوروبا، إذ لا يوجد في بلادنا من يستخرج الحديد من معادنه، ويهيئه لعمل الآلات منه، بَلْهَ (أي اترك وهي بمعنى فضلاً عن كذا) البواخر البحرية بأنواعها، والمركبات البرية وأصنافها، وسائر المعامل والمصانع، وما فيها من الآلات البخارية والكهربائية. السواد الأعظم منا ينظرون إلى هذه الأعمال والمصنوعات فيقولون: إن الإفرنج عقولهم في عيونهم وأيديهم، ونحن عقولنا في رءوسنا وقلوبنا، يعنون أن عقولنا لا يمكن أن تنشأ عنها أعمال عظيمة؛ لأنها لم تكن في أعضاء عاملة. تلغط بهذا القول عامتنا، ولو أن لهم عقولاً لعلموا مواضعها ووظائفها، واستنزلوها من رءوسهم إلى أعينهم وأيديهم وأرجلهم، وجعلوها المحرك لكل أعضائهم وجوارحهم، والمدبر لجميع منافعهم ومصالحهم، أستغفر الله؛ إن وجود الشيء لا يقتضي العلم به، ولو بوجه ما، فكيف يقتضي كمال العلم والحكمة بالوصول من كل شيء لثمرته، والإشراف من كل مبدأ على غايته؟ هذا لا يهتدى إليه إلا بكمال التعليم والتربية على العمل، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وأما خاصتنا ونبهاؤنا فإنهم ينظرون من تلك الأعمال العظيمة إلى مناشئها ومبادئها، فيرون أنها ثمرة علوم وفنون كثيرة رياضية وطبيعية واقتصادية ... إلخ، يتأملون فيرون أن عمل الإبرة يحتاج فيه إلى كثير من هذه العلوم والفنون، فضلاً عن الجواري المنشآت في البر والبحر ونحوها من المصنوعات العظيمة التي قامت بها المدنية الحادثة، وكل أمة تنكبتها فهي معرضة للزوال. ربما طاف في نفوس هؤلاء طائف الغيرة على بلادهم وقومهم، وفكروا في مجاراتهم للأمم القوية، وكيف تكون هذه المجاراة وبماذا تكون؟ لكن التفكير من غير تشمير، ينتهي في الغالب إلى سوء المصير، انتهى بالأكثرين إلى اليأس والقنوط، الذي هو أدوأ الأمراض النفسية وأقتلها. رأوا أننا نحتاج في هذه المجاراة إلى المال الكثير لإنشاء مدارس للفنون وللصنائع، وإلى كثير من المعلمين الناصحين لأجل تعميم ذلك في البلاد، ولا مال عندنا يفي بالغرض، ولئن وجد المال عند قوم منا فهم لا يبذلون للمدارس، لجهلهم بفائدة العلوم والفنون، ولا للصنائع؛ لعدم ثقتهم بنجاح العمل، ثم برواج المصنوع الوطني إذا نجح مع معارضة مصنوعات أوروبا له، وهي أجود صنعاً وأرخص ثمناً، لقلة النفقات ووفرة الآلات، وكثرة المهرة من العمال، ولأن ذويها أقدر على نشرها في الممالك الدانية والقاصية بالتجارة، وأرضى باليسير من الربح، لكثرة المال والثقة بالمآل. ولا يوجد عندنا من المعلمين الوطنيين معشار ما نحتاج إليه لتعميم التعليم اللازم، ولا ثقة لنا بالأجانب؛ لأنهم لطمعهم في بلادنا وللعداوة السياسية التي بيننا وبينهم، لا يمكن أن ينصحونا ويعلمونا ما نستقل به عنهم ونقطع طرق المطامع عليهم، بل ننازعهم أسباب الحياة والبقاء، ونضارعهم في التقدم والارتقاء. وما يؤمنهم إذا ساهمناهم في صنائعهم وساميناهم في معارفهم أننا نسمُوهم ونَبَذّهم (نعلوهم ونغلبهم) ، وقد كنا نحن السابقين في ميادين المدنية إلى كل اكتشاف في العلم واختراع في الصناعة، وقد أخذوا عنا فأربوا علينا وآثارنا عندهم تدل علينا. هذا ما يحملهم على استبدال الغش بالنصيحة، وسلوك سبل الإفساد عوضًا عن انتهاج طريق الإصلاح، ولقد انخدع بهم بعض أسلافنا من قبل، فألقوا إليهم من أزمة التعليم، ومهدوا لصناعتهم وتجارتهم الطرق، فكانوا وبالاً على كل بلاد تبوءوها، استأثروا بجميع منافعها وعمدوا إلى ما فيها من لغة وجنسية وأدب ودين ونفوذ حكومة وصناعة وتجارة، فأماتوا بعض ذلك، وأضعفوا البعض الآخر، فمنها ما فقد استقلاله بالكلية، ومنها ما ينتظر ذلك، وكانت تلك عاقبة المغرورين. هذا ما أوقع أكثر المفكرين في هاوية اليأس، وقطع بهم أسباب الرجاء، نظروا إلى أوروبا في نهايتها، وإلى أهل بلادهم في بدايتهم (على أنهم لم يبدءوا بعمل، وهذه البداية مفروضة) ، فقالوا: لا يبلغ الظالع شأو الضليع، ولا يمكن أن يسابق الفُسْكل (الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل) . المُجلِّي (أول خيل الحلبة في السباق) ، ثم نكصوا على أعقابهم، بل نكسوا على رءوسهم مسجلين على أمتهم الهبوط. وعدم الرجاء بالنهوض إلى أبد الأبيد، أما المتفكرون الأقلون عددًا، والأكثرون هدًى ورشدًا، الذين لم يسمح لهم يقينهم باليأس من رَوْح الله والقنوط من رحمته، فقد ردوا على أولئك قائلين: من طلب الغاية في المبدأ لا ... يؤب إلا بالقنوط والشقا ومن يسِرْ سيرًا طبيعيًّا لها ... يبلغ بالتوفيق منها المنتهى فيجب أن نطلب الأمر في إبانه، ونأخذه بربانه وأوله) ، ولا نحتاج في هذا أن نساهم الأوروبي في اكتشافه واختراعه من أول الأمر، بل نحن أحوج إلى مساهمته في ما هو أفيد من هذا وأسهل من ضروب التربية والتعليم، وهو التعليم الذي لا يتوقف على الآلات والأدوات، ولا يحتاج فيه إلى الأساتذة والمعلمين من المكتشفين والمخترعين، والتربية التي نستغني فيها عن الأظآر والمربيات الأوروبيات. نحن أحوج إلى التربية والتعليم اللذين يشعران قلوبنا معنى الأمة والوطن والجنس، إذ لسنا الآن إلا أفرادًا متبددين متفرقين متنافرين متخاذلين متدابرين متنازعين متباغضين، لا جامعة تجمعنا، ولا رابطة تضمنا وتربطنا، لا يحن قريب لقريب، ولا يرعى حبيب ود حبيب، ولا يرقب أحد في آخر إلاًّ ولا ذمة، وانتهى بنا الأمر إلى أن وضع لنا بعض المحققين في علم الاجتماعي البشري هذه القاعدة، وهي أن العداوة والبغضاء فينا مرتبة على نسبة القرب، فهي على أشدها للأقرب، فالقريب فالبعيد فالأبعد. لا جرم أن هذا يكاد يكون خروجًا عن البشرية، وهبوطًا إلى أخس أنواع الحيوان الأعجم، كالسمك الذي يأكل بعضه بعضًا، فهل نحن مع هذه الحالة أمة، ولا يكون مجموع الأفراد أمة إلا إذا كان كل فرد منهم يشعر في نفسه بأن منزلته من سائر الأفراد منزلة يده أو عينه مثلاً من سائر بدنه، ولسنا كذلك كما نعلم ويعلم الناس أجمعون. هل لنا وطن نعمل لترقيته وإعلاء شأنه، ونحتاج للفنون والصنائع لكي نستعين بها على ذلك، أنَّى والعمل للوطن من خواص الأمم المجتمعة لا الآحاد المتفرقة؟ هل لنا لغة نحافظ عليها فنجتهد في نقل العلوم إليها؟ كيف والمتفرغون للغتنا الشريفة يستغرقون العمر في البحث عن عوارض الألفاظ التي وضعها النحاة والصرفيون، فيتعلمون اللغو لا اللغة، ومن يقضي بضع عشرة سنة ليعلم أن (زوايا) ما صارت زوايا إلا بعد خمسة أعمال، هل يتفرغ لمعرفة زوايا الأعمال الحقيقية وهي ثلاث لا خمس؟ وهل ترك لغتنا وتعلم الفنون باللغات الأجنبية فيه حياة لنا وسعادة لأمتنا، إذا أردنا أن نكون أمة كسائر الأمم المتمدنة؟ هل لنا جنسية نسبية أو لغوية تقرب البعيد وتجمع الشتيت؟ كيف ونحن أمشاج وأخلاط من أجناس وشعوب شتى، هل لنا دين نأتمر بأوامره، وننتهي عن مناهيه، ونتأدب بآدابه التي تؤلف بين القلوب مهما كانت فاسدة، كما ألفت بين قلوب الهمج من جاهلية العرب، فجعلتهم إخوانًا على سرر متقابلين، يفتخر التاريخ بفضائلهم ومناقبهم، وبعد ما كانوا عارًا على النوع الإنساني، كادوا يرتقون عنه إلى مصاف العالين من ملائكة رب العالمين. كيف ونحن في الدرك الأسفل من فساد الأخلاق، كما أومأنا إلى ذلك آنفًا وذكرنا قاعدة عالم الأخلاق والاجتماع فينا. وأما أعمالنا فهي على نسبة أخلاقنا طبعًا فشا فينا السكر والبغاء والميسر (القمار) والظلم والتعدي والبغي ... إلخ إلخ إلخ. وحيث قد تبين أننا فاقدون لكل الجوامع التي تتكون بها الأمم، وتقوم بها الممالك والدول، فنحن أحوج الآن إلى التربية والتعليم اللذين يوجدان لنا هذه الجوامع المفقودة، حتى إذا ما عادت لنا نمدها ونقويها بالفنون الرياضية والطبيعية التي فيها عظمتها وكمالها، وإلا فإن تعلم تلك الفنون بصيغة غربية، ولغة غربية تكون عونًا للغرباء من أهل تلك اللغة أو الصبغة على تمكنهم من البلاد، والقبض على أزمة منافعها، بل وعلى امتلاكها بالمرة. هؤلاء الحكام الشرقيون الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، فيمهدون بذلك السبل لتداخل الغربيين في بلادهم باسم الإصلاح، أليسوا من المتعلمين تلك الفنون والراطنين بتلك اللغات؟ أليس منهم الخائنون لسلطانهم، البائعون لأوطانهم بثمن بخس، دراهم معدودات، وكانوا فيها من الزاهدين، كل هذا مشاهد معروف حتى عند العامة، فلا حاجة للتطويل فيه والاستشهاد عليه. فيجب على العلماء والكتاب الشرقيين أن يوجهوا عنايتهم الكبرى إلى هذا الأمر (تكوين الأمن) ، ويجتهدوا فيه قولاً وعملاً، ويجب على مؤسسي المكاتب والمدارس الوطنية ومعلميها وأساتذتها أن يجعلوه نصب أعينهم، وأهم ما تدور عليه تعاليمهم، بحيث يغرسون في قلب كل تلميذ أن حياته كلها لأمته وبلاده، وأن علمه وعمله لا شرف له فيهما إلا إذا صرفهما لمنفعة الأمة والبلاد، ويجب على جميع العقلاء من الشرقيين أن يساعدوا هؤلاء الذين يجاهدون في سبيل الأمة والوطن، ومن تقاعد عن مؤازرتهم ومعاضدتهم فهو خائن لأمته ودولته، وعامل على خراب وطنه، فما بالك بمن يعاكسهم ويشاكسهم ويقاومهم ويصادمهم. كل خائن ملعون، يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، فنسأل الله تعالى أن يقي أهل بلادنا من هذه اللعنات، وان يوفقهم للعمل بما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم [١] ، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله تعالى، وهو الموفق.