(مراكش) لمكاتبنا الفاضل في تونس لم تزل الأخبار تتوارد علينا يومًا فيومًا بسوء حالة هاته المملكة الإسلامية وتعاسة سكانها إلى درجة يخشى معها سوء العاقبة وفساد المنقلب. ولا تزال رجالها في غفلة عما هم عيه من موجبات السقوط والاضمحلال فداخليتها على غاية من الاحتلال والفوضى قد ضربت أطنابها بسائر أنحائها، فالقبائل بعضها لبعض عدو، والدولة عدوة للجميع، والدول الأورباوية قد اشتدت وطأتها عليها بنزف أموالها ولولا التحاسد لفقدت استقلالها من قديم فدولة الأسبان تود الاستيلاء عليها منذ عهد بعيد وترى أنها أحق الدول بذلك؛ لقدم المجاورة التي بينهما وكل من فرنسا وإنكلترا وألمانيا يزاحمها ويسعى في احتلال جزء منها، ولهذا السبب عاشت دولة المغرب العليلة ولم يفارق جسمها المنهوك الروح. كان على عهد السلطان مولاي الحسن نهضة تحريرية في جرائد الإسلام حذرته وأنذرته سوء العاقبة وأطلعته على ما يجب عليه سلوكه لحفظ مملكته من السقوط والتلاشي، ولم ينجح شيء. وبقي متماديًا في شأنه يقاتل رعاياه ويبتز أموالهم التي حرم الله، وازداد نفوذ الأجنبي في أيامه زيادة لها بال، إلى أن وقعت حادثة مليلة الشهيرة التي دفعت حكومة المغرب لأجلها عشرين مليونًا من الفرنكات لحكومة الأسبان إرضاء لها عن تعدي قبائل الريف على حدودها وعلى رعاياها. وهكذا كان يدفع الأموال الطائلة بغير انقطاع، وكانت أيامه كلها منقسمة إلى عملين عظيمين: وهما سفك دماء الرعايا لأخذ أموالهم، ودفعها للأجانب على وجه الترضية. ولم يصدر عنه أدنى عمل لإصلاح المملكة. ولما تولى السلطان عبد العزيز عليها أملت الناس أن يجري فيها بعض الإصلاحات لحداثة سنة المقارنة لنور التمدن الحالي الذي وقع له طنين لسمع الصم ونطق به البكم فضلاً عن السامعين المبصرين، فذهب ذلك الأمل أدراج الرياح، وسار في إدارة المملكة سير أبيه وجده الخالي عن كل تنظيم وخروج عن المعتاد. ومن تأمل في أحوال هاته الدولة وفيما هي عليه من سوء التدبير يدخله الذهول والحيرة والاستغراب، فإن الإصلاح ولاسيما الابتدائي ضروري لكل ذي عقل سليم وفكر مستقيم، ويحكم بعدم لياقة هاته العائلة الحاكمة وعدم صلوحيتها لأقل الأعمال (وهنا ذكر الكاتب جملة غالى بها في ذم كل أفراد الأسر الإسلامية المالكة لا سيما دولة المغرب اضربنا عن ذكرها صفحًا) . هذا، ولقد كتبنا هذه الأسطر القليلة تمهيدًا لما سنكتبه بعد في هاته المملكة الحاضرة وفيما يجب عليها اتباعه في الاستقبال لاستقامة أحوال المسلمين طبق الشريعة المطهرة، وكتاب الله وسنة رسوله بين أيدينا وسيرة السلف الصالح بين أظهرنا. وحيث كانت جريدتنا المنار موقوفة على خدمة المسلمين وموسمة بذلك نطلب من محررها الفاضل ومن براعة قلمه ومن عموم جرائد الإسلام أن يعضدونا في هذا العمل ويفوقوا سهام اللوم والتنديد نحو هاته المملكة أو تستقيم، والله بالسرائر عليم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ش. د) (المنار) كلنا على علم إجمالي بحال هذه المملكة وبعدها عن الإصلاح، وكتبنا في ذلك نبذًا متفرقة، وما كنا نظن أن ملوكها بهذه الدرجة التي ذكرها بل لا نزال نظن أن في وصفه لهم مبالغة في الذم ونرجو أن يبين في مقالاته الآتية عنها الحقائق من غير مذمة شعرية. في ليلة الثلاثاء الماضية اخترمت المنية رجلًا من خيرة رجال العلم والفضل وحملة الأقلام وهو السيد وفا أفندي زغلول أمين الكتبخانة الخديوية. مات رحمه الله تعالى عن خمسين عامًا قضاها في خدمة العلوم والآداب، وقد ترك آثارًا علمية نافعة منها كتاب الرد المبين، وكتاب البرهان الساطع على وجود الصانع. وكتاب التحفة الوفائية في اللغة العامية، ورسالة في الرد على ابن خلدون. وكان محرر جريدة الكوكب المصري التي كانت تصدر قبل الثورة العرابية، وكتب مدة في الوقائع الرسمية، وله في الجريدتين مقالات تؤذن بفضله، أما وفاؤه ومحاسن أخلاقه فقد رأينا وروينا عنها ما يدل على طيب أعراقه وكمال تهذبه، فنسأل الله تعالى أن يحسن عزاء شقيقه المفضال السيد نصر الدين أفندي المحامي الشهير وسائر آله الكرام. *** (تطبق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) كتب إلينا صديقنا الفاضل مؤلف كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) يعترف بأن انتقادنا عليه بهضمه حق المنار في محله، ويعتذر واعدًا بتوفيته حقه في طبعة ثانية قال: (فأثر لدي خطئي في بخس حق المنار كثيرًا وهو في الحقيقة خطأ يخجل منه كل مؤلف لأنه جرم ضد التاريخ، ولكن لي من كرم أخلاقكم أكبر شفيع على إسدال سترة المعذرة على هذه الهفوة وسأجعل أول واجب علي عند الشروع في الطبعة الثانية إصلاح تلك الغلطة البينة.. إلخ) . وهذا كما ترى دليل على فضل الرجل وأنه ما قال في الكتاب بأنه لم يسمع بأن عاقلاً قام يبحث عن أسباب اضمحلال الأمة الإسلامية إلا ذهولاً عن المنار كما هو ظننا الحسن به. *** أقبل الحر على مصر وأقبل معه وفود حزب الأحرار من الأستانة العلية، ولا يقدمون في مثل هذه الأيام إلا لأمر ذي بال، وممن حضر من زمن قريب الفاضلان محمد توفيق أفندي مدير المكتب الإعدادي سابقًا في بلدتنا طرابلس الشام، وعلي مظهر بك، فعسى أن تتلا في الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى هذه الحركة التي كادت تكون عامة بالتي هي أحسن.