٣٦ - الخلافة والبابوية، أو الرياسة الروحية: الإسلام دين الحرية والاستقلال الذي كرم البشر ورفع شأنهم بإعتاقهم من رق العبودية لغير الله تعالى من رؤساء الدين والدنيا. فأول أصوله: تجريد العبادة والتنزيه والتقديس والطاعة الذاتية لله رب العالمين، وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام ليسوا إلا مرشدين ومعلمين: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: ٤٨) فلا سيطرة لهم على سرائر الناس، ولا حق الإكراه والإجبار، ولا المحاسبة على القلوب والأفكار، ولا مغفرة الذنوب والأوزار، ولا الحرمان من الجنة وإدخال النار، بل ذلك كله لله الواحد القهار العَفُوُّ الغفار، قال تعالى لخاتم رسله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: ٢١-٢٢) {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: ٤٥) {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام: ١٠٧) {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: ٥٢) {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: ٢١) {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: ٥٦) . وإنما تجب طاعة الرسول فيما يبلغه ويبيِّنه من أمر الدين عن الله تعالى، وما ينفذه من شرعه، دون ما يستحسنه في أمور الدنيا بظنه ورأيه، فالطاعة الذاتية إنما هي لله، ولذلك قال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: ٨٠) فطاعة الرسول ثم طاعة أولي الأمر من الأمة تَبَعٌ لطاعة الله التي أوجبها للمصلحة تنفيذًا للشريعة، على أن الرسول معصوم في تبليغ الدين وإقامته، وقد جعله الله أسوة حسنة لأمته، وكان الصحابة على هذا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقوله برأيه في المصالح العامة كالحرب والسلم ويبدون آراءهم، وكان يرجع عن رأيه إلى رأي الواحد منهم إذا تبين له أنه الصواب، كما رجع إلى رأي الحباب بن المنذر يوم بدر، وإلى رأي الجمهور بعد الشورى، وإن لم يظهر له أنه أصوب كما فعل يوم أحد. وقد قال: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواه مسلم من حديث رافع بن خديج، وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه من حديث عائشة. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن فيمن اتبعه منافقين، وكان يعرف بعضهم دون بعض، ولكنه يعاملهم معاملة المؤمنين؛ لأن من أصول شريعته أن يعامل الناس بحسب أعمالهم الظاهرة، ويوكل أمر القلوب والسرائر إلى الله تعالى. قال رجل له وقد رآه يعطي رجالاً من المؤلفة قلوبهم: يا رسول الله اتق الله، قال: ويلك، أَوَلَسْتُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ - وفي رواية: فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه - قال: لا تفعل لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم مِن مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب في قلوب الناس ولا أشق بطونهم) رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري. وإذا كان هذا شأن الرسول صلى الله عليه وسلم فهل يكون للخلفاء والأمراء - مهما عظُم شأنهم- أن يحاسبوا الناس على قلوبهم أو يسيطروا عليهم في فهمهم للدين أو عملهم به وربما كان فيهم من هم أعلم به منهم؟ كلا إن الخليفة في الإسلام ليس إلا رئيس الحكومة المقيَّدة، لا سيطرة ولا رقابة له على أرواح الناس وقلوبهم، وإنما هو منفذ للشرع، وطاعته محصورة في ذلك فهي طاعة للشرع لا له نفسه، كما تقدم آنفًا وبسط في المسألة (١، ٦، ٨) ولكن الأعاجم أفسدوا في أمر الإمامة والخلافة بما دست الباطنية في الشيعة من تعاليم الإمام المعصوم، وبما أفرط الفرس والترك ومن تبعهم في الغلو بإطراء الخلفاء مما يذكر مثاله في الخلاصة التاريخية الآتية، حتى فتحوا لهم باب الاستعباد، وقهروا الأمة على الخنوع والانقياد، انتهى كل غلو إلى ضده، فكان غلو الأعاجم في الخلفاء العباسيين سببًا للقضاء على خلافتهم، ثم كان تقديس الخلفاء العثمانيين سببًا لإسقاط دولتهم، وقد أبقى الترك لواحد منهم لقب (خليفة) مجردًا من معناه الشرعي والسياسي كما تقدم، ولم يمنع ذلك الناس ولا سيما أصحاب الجرائد عن وصفه بالقداسة، وبصاحب العرش، وغير ذلك من الإطراء بالقول والفعل. وكثر خوض المسلمين كغيرهم بذكر الخلافة الروحية، وفصلها من السلطة الزمنية السياسية، وإنَّا وإن كنا قد بيَّنا الحق في المسألة في هذا البحث نرى أن نزيدها إيضاحًا بنقل ما كتبه الأستاذ الإمام فيها نقلاً عن كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) قال رحمه الله: (الأصل الخامس للإسلام) (قلب السلطة الدينية) أصل من أصول الإسلام أنتقل إليه، وما أجله من أصل! قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها: هَدَمَ الإسلامُ بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، على أن رسول الله عليه السلام كان مُبَلِّغًا ومُذَكِّرًا، لا مهيمنًا ولا مُسَيْطِرًا، قال الله تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: ٢١-٢٢) ولم يجعل لأحد من أهله أن يَحُلَّ ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء [١] ، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفعه عن كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والإرشاد. قال تعالى في وصف الناجين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: ٣) وقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) وقال: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: ١٢٢) فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى الخير وهم المراقبون عليها لعلهم يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه، وتلك الأمة ليس لها فيهم إلا الدعوة والتذكير، والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتبع عَوْرَة أحد، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد، وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف [٢] وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يُحَصِّلَ من وسائله ما يؤهله للفهم كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة، وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار. فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يَعُدُّهُ لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما. وله بل عليه أن يطالب المُجيب بالدليل على ما يجيب به، سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من الأعمال، فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. السلطان في الإسلام لكن الإسلام دين وشرع، فقد وضع حدودًا، ورسم حقوقًا، وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله. فقد يغلب الهوى وتتحكم الشهوة، فيُغْمَطُ الحقُّ، أو يتعدى المعتدي الحد، فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد وهو السلطان أو الخليفة. الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، نعم شُرط فيه أن يكون مجتهدًا، أي أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها مما تقدم ذكره بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معًا. هو - على هذا - لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية، ولا يرتفع به إلى منزلة، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء العقل، وكثرة الإصابة في الحكم [٣] ، ثم هو مُطَاع ما دام على المَحَجَّة ونهج الكتاب والسنة، والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن النهج أقاموه عليه، وإذا اعْوَجَّ قَوَّمُوه بالنصيحة والإعذار إليه [٤] . لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق [٥] . فإذا فارق الكتاب والسنة في عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه [٦] ، فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (كراتيك) أي سلطان إلهي. فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى الإيمان، فليس للمؤمن ما دام مؤمنًا أن يخالفه، وإن اعتقد أنه عدو لدين الله، وشهدت عيناه من أعماله ما لا ينطبق على ما يعرفه من شرائعه؛ لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر ظهر هما دين وشرع، هكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى. ولا تزال الكنيسة تدعي الحق في هذه السلطة كما سبقت الإشارة إليه. كان من أعمال التمدن الحديث: الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، فترك للكنيسة حق السيطرة على الاعتقاد والأعمال فيما هو من معاملة العبد لربه، تشرع وتنسخ ما تشاء، وتراقب وتحاسب كما تشاء، وتحرم وتعطي كما تريد، وخول السلطة المدنية حق التشريع في معاملات الناس بعضهم لبعض، وحق السيطرة على ما يَحفظ نظام اجتماعهم في معاشهم لا في معادهم، وعَدُّوا هذا الفصل منبعًا للخير الأعم عندهم. ثم هم يهمون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في شخص واحد. ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرِّر الدين، وهو واضع أحكامه وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب بالإخضاع، وفي العقول بالإقناع، وما العقل والوجدان عنده إلا متاع، ويبنون على ذلك أن المسلم مُسْتَعْبَد لسلطانه بدينه، وقد عهدوا أن سلطان الدين عندهم كان يحارب العلم، ويحمي حقيقة الجهل، فلا يتيسر للدين الإسلامي أن يأخذ بالتسامح مع العلم ما دام من أصوله أن إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين. وقد تبين لك أن هذا كله خطأ محضٌ وبعد عن فهم معنى ذلك الأصل من أصول الإسلام. وعلمت أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم. ومن هنا تعلم (الجامعة) [٧] أن مسألة السلطان في دين الإسلام ليست مما يضيق به صدره، وتحرج به نفسه عن احتمال العلم، وقد تقدم ما يشير إلى ما صنع الخلفاء العباسيون والأمويون الأندلسيون من صنائع المعروف مع العلم والعلماء، وربما أتينا على شيء آخر منه فيما بعد. يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه أو ينازعه في طريق نظره) اهـ. *** الخاتمة: خلاصة اجتماعية تاريخية في الخلافة والدول الإسلامية [*] {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: ٥٣) .
(تمهيد) لقد كان فيمن قبلنا من البشر منذرون ورسل بُعثوا لهدايتهم، وملوك وحكام يتولون الأحكام والسياسة فيهم، وكان بعض الأنبياء ملوكًا، وكان بعض الملوك تابعين للأنبياء، وكان الملك والرياسة فتنة للملوك والرعايا، وللرؤساء والمرؤسين {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} (الفرقان: ٢٠) وكان رؤساء الدين من غير الأنبياء كثيرًا ما يشتركون مع رؤساء الدنيا من الملوك والأمراء في فتنة المال والجاه، فيكون بعضهم أولياء بعض في استعباد مرءوسيهم، والتمتع بأموالهم وأعراضهم، وكانت الشعوب تنقاد لأولئك الرؤساء إما بوازع الاعتقاد الديني، وإما بقهر القوة والسلطان، وإما بالأمرين جميعًا، وربما كان بعضها يضيق ذَرْعًا ببعض الملوك الجائرين فينزع يده من طاعتهم، يَثُلُّ عروشهم، ويولي أمره جماعة من الزعماء الذين نهضوا لمقاومة الجور والقهر بقوتهم، حتى إذا ما صار الأمر إليهم كانوا وهم عصبة أشد جورًا وبغيًا من الملك الواحد الذي لا يستطيع ظلمًا ولا هضمًا إلا بأعوانه من أمثالهم، وما زال الناس مرهقين بسيطرة رؤساء الدين الروحية في سرائرهم، ورؤساء الدين والدنيا معًا في ظواهرهم، إذا أووا إلى ظل العدل يومًا لفحهم هجير الجور أيامًا، وإذا تذوقوا من حلاوة الرحمة جرعة راحة تجرعوا من علقم القسوة آلامًا، يشقى الألوف منهم ليتمتع باللذة أفراد من المترفين، ويحرم الألوف من بُلْغَة العيش ويتمتع بثمرات كسبهم نفر من المسرفين. ما زال الناس كذلك حتى بعث الله خاتم رسله رحمة للعالمين، فجاءهم عنه بما فيه صلاح الدنيا وهداية الدين. فكان من أصول هدايته للبشر أن أسس لهم دينًا وسطًا وشرعًا عادلاً، ومملكة شورية: جعل أمرهم شورى بينهم، وأزال جبرية الملك وأثرته وكبرياءه من حكومتهم، وجعل أمر الرئيس الذي يمثل الوحدة ويوحد النظام والعدل في المملكة للأمة، ينتخبه أهل الرأي والعدالة والعلم من زعمائها، الموثوق بهم عندها، وجعله مسئولاً عنهم لديهم، ومساويًا في جميع أحكام الشريعة لأدنى رجل منهم، وفرض عليهم طاعته في المعروف من الحق والعدل، وحرَّم عليهم طاعته في المعصية والبغي والجور، وجعل الوازع في ذلك دينيًّا لينفذ في السر والجهر؛ لأن الطاعة الحقيقية لله وحده، والسيطرة لجماعة الأمة، وإنما الرئيس ممثل للوحدة، ولذلك خاطب الكتاب المنزل نبي هذا الدين المرسل، بمبايعة الناس على أن لا يعصوه في معروف وأمَره بمشاورتهم في الأمر، وقد أقام هذه الأصول صلوات الله وسلامه عليه بالعمل على أكمل وجه، فكان يستشيرهم ويرجع عن رأيه إلى رأيهم، ودعا في مرض موته مَن عساه ظلمه بشيء إلى الاقتصاص منه، وسار على سنته هذه خلفاؤه الراشدون من بعده، فكان هذا من أفعل أسباب قبول دين الإسلام وسيادته على جميع الملل والأديان، واستعلاء حكمه ولغته في الشرق والغرب، وخضوع الأمم الكثيرة له بالرضا والطوع، وانتشاره في قرن واحد من الحجاز إلى أقصى أفريقية وأوربة من جانب الغرب، وإلى بلاد الهند من جهة المشرق. ولو سار من جاء بعد الراشدين على سنتهم في اتباع هدي الكتاب والسنة، لعمت هداية الإسلام العالم كله. ولما تهافت عبيد الشهرة والشهوة على رياسته - التي هي خلافة للنبوة - والنزوان عليها بقوة العصبية؛ إذ ليس فيها تمتع باللذات الجسدية، ولا بعظمة السيطرة الجبروتية؛ فقد فرض الصحابة للخليفة الأول نفقة نفسه وعياله كرجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ولا أدناهم، ولكنه هو ومن بعده من الراشدين اختاروا أن يكونوا في معيشتهم دون الوسط من أمتهم. أما الاعتداء على عمر وقتله فلم يكن من حسد المسلمين ولا من كراهتهم له، ولا من طمع أحد أن يخلفه، بل كان من جماعة المجوس السرية انتقامًا منه لفتحه لبلادهم، وإسقاطه لملكهم، وأما التعدي على عثمان وقتله فقد كان بدسائس الفرس وعبد الله بن سبأ اليهودي، ولولا هاتان الفتنتان لما وصل الشقاق بين علي ومعاوية إلى ما وصل إليه، كما يعلم ذلك كل مُدَقِّق في التاريخ. اتسع ملك الإسلام وكثر خصومه من زعماء الملل والشعوب الذين أزال عظمتهم واستمتاعهم بملك بلادهم، وساوى بينهم وبين عبيدهم في الحقوق وكل أقوامهم عبيد لهم، ولم يكن الوازع الديني فيمن دخلوا فيه من هذه الشعوب مثله فيمن فهموه حق الفهم من العرب، ولم تكن كل بطون العرب كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولم يكن من السهل إيجاد نظام لقوة الخلافة تخضع له كل هذه الأمم والشعوب في الخافقين مع بُعْد الشُّقَّة وصعوبة المواصلات، فلهذا سهل على السبئيين والمجوس بَثُّ الفتن للإسلام وللعرب، وعلى معاوية تأليف جيش في الشام يقاتل به الإمام الحق أمير المؤمنين، ثم جعل خلافة النبوة ملكًا عضوضًا كملك الغابرين. سنة التغلُّب وعواقبها وإفساد الأعاجم لحكم الإسلام العربي فتح معاوية للأقوياء باب التغلب فأقبلوا إليه يهرعون، ولم يثبت ملك الأمويين معه قرنًا واحدًا كاملاً، ولما كان الإسلام قد أبطل عصبية العرب الجنسية، احتاج العباسيون أن يستعينوا على الأمويين بعصبية الأمة الفارسية، وكان للزنادقة والمنافقين من هؤلاء مكايد خفية، يريدون أن يديلوا للفرس من العرب، وللمجوسية من الإسلام، ولأجلها بثوا في المسلمين التفرقة بالغلو في آل البيت توسلاً للطعن في جمهور الصحابة ليفرقوا كلمة العرب ويبعدوا بهم عن أصول الإسلام الشوروي (الديمقراطي) وينشئوا فيه حكومة (أتوقراطية) مقدسة أو معبودة، بجعل رئاستها لمن يدعون فيهم العصمة من بيت النبوة، ليسهل عليهم بذلك إعادة الكسروية والمجوسية. ولما انكشف أمرهم للعباسيين عَوَّلُوا على جعل عصبيتهم من الترك، فكان المعتصم يشتري شُبَّانَهم من بلادهم وسائر النواحي ويجعلهم جنودًا له، ويطلق لهم العنان، ويمهد لهم هو ومَن بعده سبيل السلطان، جهلاً منهم بطبائع العمران، وكانوا أُولِي جهل وقسوة وفساد، فطغوا في البلاد، وأكثروا البغي والعدوان على العباد، حتى صاروا يقتلون الخلفاء أنفسهم وهم على عروشهم، أو يخلعونهم ويولون غيرهم بأهوائهم، فاختل بفسادهم النظام والطاعة بوازع الإسلام، فسهل على إخوانهم التتار اجتياح ملك العباسيين تخريبًا وتتبيبًا، وتقتيلاً وتمثيلاً، واستفحل أمر الباطنية من القرامطة وغيرهم، وقد كان جند الترك في العباسيين، كجند الإنكشارية بعده في العثمانيين، كان قوة لهم، ثم صار قوة عليهم ومُفسدًا لملكهم. وقد أفسد الأعاجمُ أمر الخلفاء العباسيين بالإطراء والتعظيم الذي ينكره الإسلام ولا تعرفه العرب بِشَرِّ من إفسادهم له بالاستبداد بهم والاعتداء عليهم، كما فعل السلطان عضد الدولة بذلك المظهر العجيب الذي أقامه للخليفة الطائع. قال السيوطي في ترجمة الطائع لله من تاريخ الخلفاء: وسأل عضد الدولة الطائع أن يزيد في ألقابه (تاج الملة) ويجدد الخُلَع عليه ويلبسه التاج، فأجابه، وجلس الطائع على السرير وحوله مائة بالسيوف والزينة، وبين يديه مصحف عثمان، وعلى كتفه البردة، وبيده القضيب، وهو متقلد بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربت ستارة بعثها عضد الدولة، وسأل أن تكون حجابًا للطائع حتى لا تقع عليه عين أحد من الجند قبله، ودخل الأتراك والديلم وليس مع أحد منهم حديد، ووقف الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين. ثم أذن لعضد الدولة فدخل، ثم رفعت الستارة وقبل عضد الدولة الأرض، فارتاع زياد القائد لذلك وقال لعضد الدولة: ما هذا أيها الملك، أهذا هو الله؟ فالتفت إليه وقال: هذا خليفة الله في أرضه (! !) ثم استمر يمشي ويقبل الأرض سبع مرات. فالتفت الطائع إلى خالص الخادم، وقال استَدْنِهِ، فصعد عضد الدولة فقبل الأرض مرتين، فقال: ادن إلي، فدنا وقبل رجله. وثنى الطائع يمينه عليه وأمره فجلس على كرسي بعد أن كرر عليه (اجلس) وهو يستعفي، فقال له: أقسمت عليك لتجلسن، فقبل الكرسي وجلس، فقال له الطائع: قد رأيت أن أفوض إليك أمر الرعية في شرق الأرض وغربها، وتدبيرها في جميع جهاتها، سوى خاصتي وأسبابي، فتولَّ ذلك. فقال: يعينني الله على طاعة أمير المؤمنين وخدمته، ثم أفاض عليه الخلع وانصرف اهـ. ثم ذكر المؤرخ من عاقبة هذا ما وصل إليه أمر الخلفاء بعد ذلك مع السلاطين؛ إذ كان الوجهاء فيهم كآحاد ركابهم. وما كان يفعله أمثال ذلك الملك الجاهل المتملق، وكل ما ذكر من تلك الهيئة منكرات في الإسلام. فتقبيل الأرض أشد تذللاً من الركوع والسجود، وقد صحت الأحاديث في النهي عن التشبه بالأعاجم في كبريائهم وبذخهم، حتى في الوقوف على رءوس ملوكهم أو بين أيديهم. اضطراب المسلمين في حكوماتهم وأما سبب وقوع ذلك وطول العهد عليه فهو أن التطورات الاجتماعية كانت تقضي بوقوع ما وقع من التصرف في شكل الحكومة الإسلامية، ولم يكن يمكن في تلك الأزمنة أن يوضع لها نظام يكفل أن تجري على سنة الراشدين، ولا طريقة أوائل الأمويين والعباسيين. في الجمع بين عظمة الدنيا ومصالح الدين. ولما صار هذا ممكنًا كان أمر الدين قد ضعف، وتلاه في جميع الشعوب الإسلامية ضعف حكوماتها، وضعف حضارتها، فلم تهتد إلى مثل ما اهتدى إليه الإفرنج من القضاء على استبداد ملوكهم شعبًا بعد شعب، فمنهم من قضى على الحكومة الملكية قضاء مبرمًا، ومنهم من قيد سلطة الملوك فلم يدع لهم من الملك إلا بعض المظاهر الفخمة التي يستفاد منها في بعض الأحوال، دون أن يكون لهم من الأمر والنهي في الحكومة أدنى استبداد. ذلك بأن كل من يُعطَى تصرفًا في أمر يجب أن يكون مسئولاً عن سيرته فيه، والتقاليد المتبعة في الملك أن الملك فوق الرعية، فلا يتطاولون إلى مقامه الأعلى ليسألوه عما فعل. وهذا شيء أبطله الإسلام بجعله إمام المسلمين كواحد منهم في جميع أحكام الشريعة، ونص على أنه مسئول عما يفعل بقوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها) ... إلخ (متفق عليه من حديث ابن عمر) وكان المسلمون يراجعون الخلفاء الراشدين ويردون عليهم أقوالهم وآراءهم فيرجعون إلى الصواب إذا ظهر لهم أنهم كانوا مخطئين، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطَّأتْه امرأة في مسألة فقال على المنبر: امرأة أصابت وأخطأ عمر. أو: ورجل أخطأ. غفل المسلمون عن هذا فتركوا الخلافة لأهل العصبية يتصرفون فيها تصرف الملوك الوارثين الذين كانوا يزعمون أن الله فضلهم على سائر البشر لذواتهم ولبيوتهم وأوجب طاعتهم والخضوع لهم في كل شيء، فلم يوجد في أهل الحل والعقد من الرؤساء من اهتدى إلى وضع نظام شرعي للخلافة بالمعنى الذي يسمي في هذا العصر بالقانون الأساسي يقيدون به سلطة الخليفة بنصوص الشرع، ومشاورتهم في الأمر، كما وضعوا الكتب الطوال للأحكام التي يجب العمل بها في السياسة والإدارة والجباية والقضاء والحرب، ولو وضعوا كتابًا في ذلك معززًا بأدلة الكتاب والسنة وسيرة الراشدين، ومنعوا فيه ولاية العهد للوارثين، وقيدوا اختيار الخليفة بالشورى وبيَّنوا أن السلطة للأمة يقوم بها أهل الحل والعقد منها وجعلوا ذلك أصولاً متبعة - لما وقعنا فيما وقعنا فيه. فأما الراشدون رضي الله عنهم فقد كانوا واثقين بتحريهم للحق والعدل ويصرحون بسلطة الأمة عليهم وهم واقفون في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من منبره، كما قال أبو بكر: وُلِّيت عليكم ولست بخيركم فإذا استقمت فأعينوني وإذا زغت فقوموني. وكما قال عمر: من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه. وكما قال عثمان: أمري لأمركم تبع. وأقوال علي وأعماله بالشورى معروفة على اضطراب الأمر وظهور الفتن في زمنه، وموت كثير من كبراء أهل العلم وتفرق بعضهم، ثم إنهم لم يكونوا قد دخلوا في عهد التصنيف ووضع النظم والقوانين، ولا شعروا بشدة الحاجة على ذلك لكثرة الصلاح وخضوع الأمة لوازع الدين. وما جاء عصر التأليف والتدوين إلا وكانت الخلافة قد انقلبت إلى طبيعة المُلْكِ بالبدعتين الكبريين اللتين ابتدعهما معاوية وهما جعل الأمر تابعًا لقوة العصبية، وجعل الخلافة تراثًا ينتقل من المالك إلى ولده أو غيره من عصبته، وشَغَلَ الناسَ عن سوء هاتين البدعتين سكونُ الفتنة التي أثارها السبئيون والمجوس وافترصها الأمويون، وما تلاه من اجتماع الكلمة وحقن الدماء في الداخل والعود إلى الفتوح ونشر هداية الإسلام وسيادته في الخارج، وذلك أن تأثير الفساد الذي يطرأ على الصلاح العظيم، لا يظهر إلا بتدرج بطيء. قاعدة ابن خلدون في العصبية مخالفة للإسلام خدع كثيرون بمظهر ذلك المُلْك حتى حكيمنا الاجتماعي ابن خلدون الذي اغتر باهتدائه إلى سنة قيام الملك وسائر الأمور البشرية العامة بالعصبية حتى أدخل فيها ما ليس منها، بل ما هو مضاد لها، كدعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فجعل مدارها على مَنَعَتِهِم في أقوامهم وقوة عصبية عشائرهم معتمدًا على حديث معارَض بآيات القرآن الكثيرة وبوقائع تواريخهم الصحيحة، وبنى على ذلك إلحاق الخلافة بالنبوة بما لبس عليه من ذلك، وإنما النبوة وخلافة النبوة هادمتان لسلطان العصبية القومية ومقرِّرَتان لقاعدة الحق واتباعه بوازع النفس والإذعان لشريعة الرب. وهذا قصص الرسل في القرآن الكريم ناقضة لبنيان قاعدته، وفي بعضها التصريح بعدم القوة والمنعة، كقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود: ٨٠) أم أيهم قامت دعوته بعصبية قومه، إبراهيم الخليل، أم موسى الكليم، أم عيسى الروح الكريم، أم خاتم النبيين، عليه وعليهم الصلاة والتسليم؟ ألم تكن جُلُّ مزايا بني هاشم في قريش الفضائل الأدبية دون الحربية، ألم يكن جل اضطهاده وصده عن تبليغ دعوة ربه من رؤساء قريش، ألم يكونوا هم الذين ألجأوه إلى الهجرة؟ وهم الذين نزل الله فيهم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال: ٣٠) الآية، حتى هاجر مستخفيًا. وسمى الله هجرته إخراجًا - أي نفيًا وإبعادًا - بمثل قوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} (الممتحنة: ١) حتى نصره الله تعالى بضعفاء المهاجرين والأنصار. وما آمن أكثر قريش إلا بعد أن أظهره الله عليهم وخذلهم في حروبهم له. نعم إن بعض كلام ابن خلدون في حكمة جعل الخلافة في قريش صحيح، وهو مكانتهم العليا في الجاهلية والإسلام التي لم ينازعهم فيها أحد من العرب، وأولى أن لا ينازعهم فيها من يدين بالإسلام من العجم، وذلك من أسباب جمع الكلمة، وقد أشار إلى ذلك الصديق رضي الله تعالى عنه في احتجاجه على الأنصار، وأما عصبية القوة الحربية فلم تكن علة ولا جزء علة لجعل الخلافة في قريش؛ لأن الإسلام قد قضى على هذه العصبية الجاهلية - يعترف ابن خلدون كغيره بذلك - فلا يمكن أن يجعلها علة من علل شرعه القويم، الذي مداره على جعل القوة تابعة للحق، خلافًا لسائر المبطلين من البشر الذين يجعلون القوة فوق الحق، فإما أن يكون تابعًا لها وإما أن تقضي عليه قبل أن يقضي عليها. وبهذا البيان الوجيز يعلم سائر ما في كلام ابن خلدون من شوب الباطل بتحكيم قاعدته في تصحيح عمل معاوية حتى في استخلاف يزيد وجعله مجتهدًا مخطئًا في قتال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ومصيبًا في استخلاف يزيد الذي أنكره عليه أكبر علماء الصحابة فنفذه بالخداع والقوة والرشوة. فهو يزعم أن معاوية كان عالمًا بقاعدته في أن الأمور العامة لا تتم إلا بشوكة العصبية، وبأن عصبية العرب كلهم قد انحصرت في قومه بني أمية، وأن جعل الخلافة شورى في أهل الحل والعقد من أهل العلم والعدالة والكفاية من وجهاء قريش غير بني أمية - لم يعد ممكنًا، وكل هذا باطل، وفي كلام ابن خلدون شواهد على بطلانه، وليس من مقصدنا إطالة القول في بيان ذلك هنا. وحسبنا أن نقول: إن عصبية العرب لم تنحصر في بني أمية لا بقوتها الحربية ولا بثقة الأمة بعدلهم وكفاءتهم، وإنما افترصوا حياء عثمان وضعفه فنزوا على مناصب الإمارة والحكم في الأمصار الإسلامية التي هي قوة الدولة ومددها. واصطنعوا من محبي الدنيا من سائر بطون قريش وغيرهم من يعلمون أنهم يواتونهم، وأكثر هؤلاء ممن لم يعرفوا من الإسلام إلا بعض الظواهر، وهم مع الحكام أتباع كل ناعق، فتوسلوا بهم إلى سن سُنَّة الجاهلية والقضاء بها على خلافة النبوة الشرعية [٨] . ولو شاء معاوية أن يجعلها شورى كما نصح له بعض كبراء الصحابة رضي الله عنهم ويجعل قومه وغيرهم مؤيدين لمن ينتخب انتخابًا شرعيًّا باختيار أهل الشورى - لفعل. وما منعه إلا حب الدنيا وفتنة الملك، ولكن عمر بن عبد العزيز لم يكن يستطيع ذلك بعد أن استفحل أمرهم وصاروا محيطين بمن يتولى الأمر منهم، وفي كتاب الفتن من صحيح البخاري أن أبا برزة الصحابي الجليل سئل وكان بالبصرة عن التنازع على الخلافة بين مروان وابن الزبير والخوارج - وهو أثر سنة معاوية - فقال: احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطًا على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم، إن ذاك الذي في الشام - والله - إن يقاتل إلا على الدنيا، وإن هؤلاء الذين بين أظهركم - والله - إن يقاتلون إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة - والله - إن يقاتل إلا على الدنيا اهـ. ويعني بالذين بين أظهرهم الخوارج الذي يسمون القراء ولذلك جاء في رواية أخرى زيادة: يزعمون أنهم قراؤكم. نعم إن الأولين من بني أمية وبني العباس استخدموا طبيعة الملك وتوسلوا به إلى مقاصد الخلافة كنشر الإسلام ولغته وإعزازه وفتح الممالك وإقامة العدل بين الناس كافة. إلا ما كان من الانتقام من المتهمين بطلب الخلافة ومن التصرف في بيت المال. قال ابن خلدون بعد تفصيل له في هذا الباب: فقد صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق. ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان دينًا ثم انقلب عصبية وسيفًا. وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر ملكًا بحتًا وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذِّ، وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس، واسم الخلافة باقيًا فيهم لبقاء عصبية العرب والخلافة والملك في الطوْرَين ملتبس بعضهما ببعض، ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر ملكًا بحتًا كما كان الشأن في ملوك الأعاجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركًا، والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء ... فقد تبين أن الخلافة وجدت بدون الملك أولاً ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة اهـ. وهذه الخلاصة التي ذكرها ابن خلدون تدل على صحة قولنا الذي كررناه مرارًا وهو أن خلفاء بني أمية وبني العباس قد جمعوا بين عظمة الملك ونعيمه وترفه وبين مقاصد الخلافة من نشر الدين والحق والعدل. وأن الفساد دَبَّ إليهم بالتدريج، وما زال يفتك بهم حتى أزال ملكهم، وأكثر المسلمين لا يشعرون بسير السنن الاجتماعية فيهم والأقلون لا يستطيعون تلافي الفساد وتداركه قبل أن ينتهي إلى غايته من هلاك الأمة. وإنما كان يُتلافى بالنظام الذي تقام به الخلافة. فالنظام قد أوجد أديانًا ومذاهب باطلة، وثبت دولاً جائرة، فكيف لا يحفظ به الحق الراسخ رسوخ الأطواد، فهو الحق الذي يعلو ولا يعلى، لو أن المسلمين بذلوا من العناية لإعادة الخلافة إلى نصابها عشر ما بذلت فِرَق الباطنية لإفسادها لعادت أقوى ما كانت وسادوا بها الدنيا كلها. هذا - وإن ما فات المسلمين في القرون الوسطى لا ينبغي أن يفوتهم في هذا العصر الذي عرف البشر فيه من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري ومن فوائد النظام وأحكامه ما لم يكونوا يعرفون. الترك العثمانيون والخلافة والتفرنج كان أجدر المسلمين بالسبق إلى هذا رجال الدولة العثمانية، ولا سيما الذين يقيمون في الآستانة والرومللي من بلاد أوربة يشاهدون تطور شعوبها وترقيهم في العلوم والفنون والنظام، ولكن دولتهم لم تكن دولة علوم وفنون؛ لأنه لم يكن لهم لغة علمية مدونة قابلة لذلك إلا في أثناء القرن الماضي، ولم يكن يتعلم علوم الإسلام منهم إلا قليل من المقلدين، ولهذا جعلوا سلطة سلاطينهم شخصية مطلقة حتى بعد تحليتهم بلقب الخلافة، فلما صاروا يدرسون تاريخ أوروبة وقوانينها وثوراتها على حكومتها لإزالة استبدادها، ظنوا أن لا سبيل لتقييد استبدادهم ومنع ظلمهم إلا بتقليد أوربة في شكل حكوماتها الملكية المقيَّدة، ثم رجحوا في هذا الزمن الجمهورية؛ لأنهم رأوا أن جعل السلطان مقدسًا غير مسئول كما قرروه في قانونهم الأساسي لم يَفِ بالغرض. ولو درسوا الشريعة دراسة استقلالية كما يدرسون القوانين لوجدوا فيها مخرجًا أوسع وأفضل من القانون الأساسي السابق، ومن الخلافة الروحية وحكومة الجمعية الوطنية الحاضرة. أسس مدحت باشا وأعوانه الدستور العثماني فمزق السلطان عبد الحميد شملهم وداس دستورهم مدة ثلث قرن كان فيها الحاكم المطلق الذي لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه، والشرع والقانون تحت إرادته، منتحلاً لنفسه ما اختص به رب العزة نفسه دون خلقه، بقوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) والناس في المملكة العثمانية ومصر وتونس والهند يقولون: قال الخليفة الأعظم وفعل الخليفة الأعظم، فإن قال أحد العثمانيين المظلومين في أنفسهم وفي أمتهم ووطنهم: إنه أساء وظلم - لعنوه وحكموا عليه بالخيانة أو بالكفر، فكان هذا سببًا لاعتقاد هؤلاء المتفرنجين من الترك أن منصب الخلافة نفسه عقبة في طريق ما يبغون من تقليد أوربة في شكل حكوماتها المقيَّدَة، من حيث إن الخليفة يجب أن يطاع مطلقًا ولا يجوز أن يعصى، ولا أن يقيد بقانون، ومن حيث إن رياسته للدولة تجعلها مضطرة لمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية في السياسة والإدارة والقضاء والتعليم، وإلى تعلم اللغة العربية التي يتوقف عليها فهم الشريعة، وهذه قيود تنافي ما يبغون تقليد الإفرنج فيه لاستقلال أمتهم التركية، بجعل سلطتها في الحكم والدولة لها، لا تتقيد فيه بقيد ما من شريعة أخرى، ولا لغة أخرى، وهو ما يعبرون عنه (بالحاكمية الملية) . إحياء الجنسية الطورانية عزم هؤلاء المتفرنجون على إحياء الجنسية التركية الطورانية، وجعلها مستقلة أتم الاستقلال في الحكم والتشريع والعقائد والآداب، غير مقيدة فيه بقيد مستمَد من أمة أخرى. بل أقول بلغة صريحة فصيحة: غير مقيدين فيه بالشريعة الإسلامية ولا بالدين الإسلامي. وقد مهَّدوا له السبيل بما ألفوا له من الكتب والرسائل، ووضعوا له من الأناشيد والقصائد، وواتتهم السلطة الاتحادية على ذلك، ولكن عارضهم فيه الشعب التركي الذي يريدون هذا له وبه وفيه، وهو شعب متدين بالإسلام، وسلطانه يعترف له أكثر مسلمي الأرض بأنه خليفة المسلمين، وأن لدولته نفوذًا روحيًّا في هذه الشعوب الإسلامية قد جعل لها مكانة خاصة لدى الدول الكبرى في سياستها، له فائدة من جهة وغائلة من جهة أخرى، فإن هذه الدول تضطر إلى مراعاتها في بعض الأمور لكيلا تهيج عليها رعاياها المسلمين باتهامها بعداوة دولة الخلافة، وتقبل منها كل عذر يعتذر به عن بعض مطالب الدول بأنه مما لا يستطاع صدوره من خليفة المسلمين، ولهذا السبب نفسه تجمع على عداوة هذه الدولة والكيد لها، والسعي لإضعافها أو إعدامها لتستريح من تأثير منصب الخلافة في رعاياها المسلمين. ولهذا فشا في هؤلاء المتفرنجين الاعتقاد بأن ضرر الخلافة عليهم أكبر من نفعه لهم، ثم تزلزل هذا الاعتقاد عند بعضهم منذ حرب طرابلس الغرب إلى الآن، وقد كان الاتحاديون - على تهورهم - بين إقدام وإحجام للفصل في هذه المسألة وجعل السيادة الطورانية فوق سيادة الإسلام. وسائل المتفرنجين لإماتة الدين تعارض المانع والمقتضي، فاتخذوا لإزالة الموانع وسائل: (منها) بث الإلحاد والتعطيل في المدارس الرسمية ولا سيما العسكرية وفي الشعب جميعًا وألفوا لذلك كتبًا ورسائل بأساليب مختلفة. (ومنها) تربية النابتة الحديثة في المدارس وفي الجيش على العصبية الجنسية، وإحلال خيالها محل الوجدان الديني بجعلها هي المثل الأعلى للأمة، والفخر برجالها المعروفين في التاريخ وإن كانوا من المفسدين المخربين، بدلاً من الفخر برجال الإسلام من الخلفاء الراشدين، وغيرهم من السلف الصالحين، ولهم في ذلك أشعار وأناشيد كثيرة يتغنى بها التلاميذ والجنود وغيرهم. (ومنها) التدرج في محو كل ما هو إسلامي في أعمال الحكومة، وإضعاف سلطة المشيخة الإسلامية، حتى إنهم سلبوا منها الرياسة على المحاكم الشرعية، ووضعوا قانونًا للأحكام الشخصية. (ومنها) إضعاف التعليم الديني حتى إنهم حدَّدوا عدد مَن يتخرج في المدارس الدينية فجعلوه قليلاً لا يكفي للمحافظة على الدين والشرع. (ومنها) جعل الخلافة والسلطنة مظهرًا مؤقتًا لا أمر لصاحبه ولا نهي، ولكن يستفاد من اسمه في تنفيذ ما لا يقبله الجمهور من غيره، حتى شاع أنهم كانوا يصدرون الإرادات السَّنية بإمضاء السلطان محمد رشاد وهو لا يدري. (ومنها) إفساد الآداب والأخلاق والآداب الإسلامية بالعمل، فأباحوا للنساء التركيات هتك الحجاب والتبرج والتهتك، بل أباحوا لهن البغاء وكانت إباحته قاصرة من قبل على غير المسلمات. وقد حدثني الأمير شكيب أرسلان في (جنيف سويسرة) عن طلعت باشا الصدر الأعظم أن عاهل الألمان لما زار الآستانة في أثناء الحرب ورأى النساء التركيات سافرات متبرجات عذله على ذلك وذكر له ما فيه من المفاسد الأدبية والمضار الاقتصادية التي تئن منها أوربة وتعجز عن تلافيها. وقال له: إن لكم وقاية من ذلك كله بالدين أفتزيلونها بأيديكم! منتهى سلطة الخليفة وشيخ الإسلام لم يكن منصب الخلافة الذي يتحلى بلقبه السلطان مانعًا للاتحاديين من عمل من الأعمال التي تهدم الدين وتمحو أثره من الدولة ثم من الأمة؛ لأن الخلافة لم تكن إلا لقبًا رسميًّا له بعض من التأثير في خارج الدولة كاحترام الدول له وتعلق مسلمي رعاياها ومن تحت نفوذها منهم به، وأما داخل الدولة - بل الدولة نفسها - فلم يكن للخليفة فيها ديوان خاص ذو نظام وتقاليد يستعين به الخليفة على شيء من أعمال الحكومة في إقامة الشرع والمحافظة على الدين، والنظر في مصالح المسلمين. لم يكن في (المابين الهمايوني) مستوى الخليفة السلطان شيء من هذا. وإنما كان يوجد في الوزارة عضو يسمى شيخ الإسلام، وله دار تسمى (باب المشيخة الإسلامية) هي مقر رجال الفتوى وإدارة المحاكم الشرعية وإدارة التعليم الديني. ولكن المشيخة الإسلامية بلغت من الضعف أن صارت عاجزة عن حفظ هذه المصالح الخاصة بها، فلم يقدر شيخ الإسلام أن يمنع الحكومة الاتحادية من سلب المحاكم الشرعية منه وجعلها تابعة للعدلية (الحقانية) ولا من التضييق على التعليم الديني، فهل يقدر على منعها من إباحة الزنا للمسلمات، أو غيرها من تلك الموبقات، وأهم أسباب هذا الضعف أن المشيخة لم تكن إلا مصلحة رسمية لم تُعْنَ في يوم من الأيام بشيء من خدمة الدين الروحية التي تجعل لها سلطة معنوية في الشعب الإسلامي في داخل المملكة ولا خارجها ليكون لها من قوته الدينية ما تهابه الحكومة وتخشاه، وتؤيد به نفوذها ونفوذ الخليفة الذي ترك الأمور الدينية والمصالح الإسلامية لها. ضعف ما عدا العسكرية في الدولة الحق أقول: إن الدولة العثمانية والشعوب الإسلامية، قد برحت بها الأدواء الاجتماعية والدسائس والتعاليم الأجنبية، حتى أفقدتها جميع قواها المادية والمعنوية، فلم يبق فيها إلا القوة الحربية، المتمتعة بشيء من النظام والسلاح العصري في هذه الدولة، فلا يستطيع أحد أن يحدث فيها انقلابًا ما إلا بقوة الجيش. عرف ذلك الاتحاديون فعملوا به ما عملوا، وأساءوا به حتى قضوا على هذه السلطنة (الإمبراطورية) وصدق قولنا فيهم عند سلب حزب الائتلاف السلطة منهم (فإن عادوا كرة ثانية، كانت هي القاضية) . ما نقترحه على الترك في مسألة الخلافة هذا وإن الله تعالى قد وفق هذه القوة العسكرية الهادمة، بما كان من تلك السياسة الجاهلة الظالمة، إلى إنقاذ جل البلاد التركية من براثن الدول الأوربية، بعد أن نشبت فيها، وكاد يتم بأس العالم كله منها، وألفوا حكومة جمهورية تركية، قررت ما قررت في مسألة الخلافة الإسلامية، فالذي نراه بعد طول الروية والنظر في المسألة من الوجهتين السياستين - الإسلامية والاجتماعية - أن ما قرروه بادئ الرأي يجب أن يكون تدبيرًا مؤقتًا، لا أمرًا مبرمًا مؤبدًا، وأن تترك السلطة العسكرية أمر الحكومة بعد الصلح إلى مجلس منتخب من الشعب، ينتخبه بحرية حقيقية، لا سيطرة عليها للحكومة ولا للجندية، وأن يترك أمر الخلافة إلى الشعوب الإسلامية كلها، والحكومات المستقلة وشبه المستقلة منها، وأن يؤلف له لجنة أو جمعية مختلطة حرة مركزها الآستانة، تدرس كل ما يكتبه وما يقترحه أهل العلم والرأي في المسألة، ويكون ذلك تمهيدًا لعقد مؤتمر إسلامي يعقد بعد الصلح بسنة أو أكثر من سنة. ونرى أن تؤلف الحكومة التركية العليا لجنة أخرى للبحث فيما يجب أن تكون عليه علاقتها مع الأمة العربية، ومع غيرها من الشعوب الإسلامية، وما يمكن أن تفيدها وتستفيد منها بمكانتها العسكرية والمدنية والدينية، وأن يكون أعضاء اللجنتين أو بعض أعضائها من أركان مؤتمر الخلافة هم الذين يضعون برنامجه ويقررون نظامه، بعد تمحيص ما يجمعونه من الآراء والمعلومات في كل ما يتعلق بالمسألة. وقد تناقلت الجرائد أن حكومة أنقرة ستشاور العالم الإسلامي في الخلافة، ولكن الشورى الصحيحة النافعة لا تتم إلا بالنظام وحسن الاختيار من الأفراد والأقوام، فعسى أن يختار لكل لجنة أهلها من أولي النُّهى، وأن توفق كل منها لتحقيق الحق في عملها، وأن ينتهي ذلك باقتناع أهل الحل والعقد من الترك، ببذل نفوذهم لإقامة الإمامة الحق لإصلاح ما أفسدت جهالة المسلمين ومادية الأوربيين في الأرض، فقد استدار الزمان واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح القرآن، وضعفت معارضة المقلدة الجامدين، وظهر ضرر عصبية الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وضُلاَّل الإفرنج والمتفرنجين، فطوبى للمجددين المصلحين، وويل للمقلدين المغرورين، والعاقبة للمتقين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} (الواقعة: ٩٥) {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: ٨٨) .