للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سجايا العلماء [*]
العلماء والحكماء من مجموع الأمة بمنزلة العقل المدبر والروح المفكر من
الإنسان، فصلاح حال العلماء والحكام يُصلح حال الأمة، وفساد حالهما مُفسد لحال
الأمة بأسرها، فإذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها
من الرذائل فاشية في أمة فاحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد، وعلى
علمائها ومرشديها بالبدع والفساد، والعكس بالعكس، ولا يصدنك عن الجزم بهذا
الحكم المؤرخون الكاذبون والشعراء الغاوون، الذين يرفعون هياكل الإطراء،
وينصبون تماثيل المدح والثناء لكل رئيس من أولئك الرؤساء، بما ينشئونه من
الجرائد، وما ينظمونه من القصائد، ولا تعول في الاحتجاج والاستدلال، إلا على
الآثار والأعمال، فهي التي تشرح الحقائق وتترجم عن السجايا والخلائب، من غير
كذب ولا محاباة وبلا مصانعة ولا مداجاة.
خذ بيد عقلك هذا الميزان وطف به جميع عالم الإنسان، يظهرك على ما في
الضمائر ويطلعك على مخبآت السرائر، ويبين لك الراجح من المرجوح والعادل من
المجروح، بشرط أن تقيم الوزن بالقسط ولا تخسر الميزان ولا تطغى فيه، كما أشار
إلى ذلك الفرقان الحكيم.
إذا التزمت الشرط فلا ريب أنك لا تقيم وزنًا لكثير ممن يزعم الدهماء أنهم
يوازنون الجبال، ويرجحون في الفضل والكمال، وربما رجح في قسطاسك
المستقيم من يَنقِصه وزنه أكثر الأقران والأقتال.
قلنا: لا يعول في الاستدلال على حال الإنسان إلا على أعماله؛ لأن الأعمال
تنشأ عن الأخلاق والملكات الاعتقادية والأدبية، ولا أخالك تذهل عن كون الكلام من
جملة الأعمال اللسانية، ودلالته مقبولة فيما نحن بصدده، من حيث كونه مظهرًا
لمعلومات المتكلم، ومَجلًى لأخلاقة وآدابه، لا من حيث مدلول الألفاظ في المدح
والذم، فإن هذا هو الذي لا يعول عليه، إلا بعد تطبيقه على ما في الخارج وشهادة
الأعمال والآثار له.
من علامات علماء السوء الذين يفسدون آداب العامة وأخلاقهم ويزعزعون
اعتقادتهم وأديانهم، الانتصار لأنفسهم الخبيثة وحظوظهم وأهوائهم الباطلة،
بعنوان الانتصار للدين والغيرة على الحق، فيذمون من يحسدون وينالون من دينه
وعرضه قولاً أو كتابة، بحيث يوهم أحدهم سامعه أو الناظر في كتابته أنه ينتصر
للدين ويبين الحق من الباطل، وينقسم هؤلاء إلى أقسام: منهم من لا يذم إلا ما يراه
باطلاً ومن يعتقد صدور الباطل منه، ومن أدلة كذبه في دعواه إذا لم يذم إلا الباطل،
حقيقة كونه يأتي بهذه المذمة غيبة، ولا ينصح من جاء بالباطل بينه وبينه، وكونه
يحب أن تشيع الفاحشة وينتشر الباطل، حيث لم يسعَ بمنعه من قِبل من جاء به،
وكونه يمدح صاحب الباطل في وجهه ويعظمه بدلاً من نصيحته وتقريعه، وكونه ينكر
ما نسب له أمام مذمومه أو بعض ذويه سيما إذا كان المذموم ذا مكانة عالية ومنزلة
سامية، وكونه يدفن الحسنات ويعلن السيئات، إلى غير ذلك مما لا يخفى على ذوي
البصائر، ومنهم من يريه حسده وهواه الحق باطلاً، والصحيح فاسدًا، ويكفيك
عمى بصيرته دليلاً على كذبه في دعواه الانتصار للحق أو الغيرة على الدين، ومنهم
الذين يقولون كذبًا ويخلقون إفكًا، لا يكتفون بإخفاء المحاسن والمناقب وإبداء
المساوى والمثالب، بل يتذقحون ويتجرمون، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون
(أنه كذب) {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة: ١٩) ومن علاماتهم أنهم لا يكادون يعترفون بخطأ، بل يؤولون لأنفسهم
ولمن يوافق قوله أهواءهم، ولو بتحريف الكلم عن مواضعه والخروج باللغة عن
أساليبها، كما يفعلون للغميزة والإزراء بمن يحسدونه، ومن لا يطابق قوله أغراضهم
وأهوائهم، وأن لباب الحق كما علمت.
من علامات علماء الآخرة وأنصار الحق الذين يهتدى بهديهم، وتصلح أحوال
الأمم بالاقتداء بعملهم، أنهم إذا رأوا معروفًا وخيرًا من أحد إخوانهم يذيعونه،
وينوهون به ويثنون على صاحبه بما هو أهله، وإذا رأوا سوءًا وأمرًا منكرًا
يسترونه وينصحون فاعله، من غير أن يشعروا أحدًا آخر به، فإن أصر على
منكره عامدًا متعمدًا، وكان المنكر مما يتعدى ضرره، حذروا منه من يُخشى عليه
منه، سواء كان في غيبة صاحب المنكر أم في مشهده، ومن علاماتهم أنهم يقبلون
النصيحة من أي ناصح، ويقابلون عليها بالثناء والشكر، ويرجعون عن الخطأ متى
علموا به، ضالتهم الحكمة ينشدونها حيث وجدوا، ويأخذونها حيث وجدت.
كل من نظر في كلامنا هذا يعلم بما أعطيناه من الفرقان أن علماء الحق أمسوا
أندر من الكبريت الأحمر، وأن علماء السوء أعمّ وأكثر، ولا يغتر بالعمائم المكورة
والأردان المكبرة والأذيال المجررة، وإن كانت محل غرور الأكثرين والعنوان
عندهم على العلم والدين، وإذا تنبه لعدم الاغترار بالمظاهر، وعول على الاستدلال
بالأعمال والمآثر، وأحب معرفة سيرة بعض رجال العلم والدين، بما أشرنا إليه من
السلطان المبين، فإننا نقص عليه خبر رجلين منهما، مع الإشارة إلى ضدهما فنقول:
ألف حكيم الأمة الأستاذ الفاضل، والعلامة الكامل الشيخ محمد عبده (رسالة
التوحيد) التي لم يؤلف مثلها في الإسلام، فطفق بعض علماء السوء يوسوسون إلى
أوليائهم ويوحون إلى تلامذتهم وأصحابهم أن هذه الرسالة فيها نزغة اعتزالية،
وبعضهم تهور فقال: إن فيها إنكار الوحدانية، وهذا في غيبة المؤلف، وفي مشهده
يثنون عليها أطيب الثناء، ويطرونه عليها أشد الإطراء، ومنهم من قيد ذلك الثناء
والشكر بالكتابة، وهؤلاء كما علمت من الذين يجعلون الحق باطلاً والحالي عاطلاً،
حسدا أو عمى بصيرة.
وقد كشفنا بهتانهم من غير أن نعرف أعيانهم في مقالة مخصوصة نشرناها في
العدد ١٢ من جريدتنا.
هل أتاك حديث علماء الآخرة وأنصار الحق، وما كان من شأنهم تلقاء (رسالة
التوحيد) قرأ الرسالة العلامة المحدث الذي انتهت إليه رئاسة علوم اللغة والحديث في
هذه الديار، لا سيما علم الرواية للحديث الشريف ولأشعار العرب والمخضرمين،
ألا وهو الأستاذ الفاضل الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، فتوقف في بعض
حروف وفي بعض مواضيع منها، فولى وجهه شطر بيت الأستاذ المؤلف،
حتى إذا ما جاءه طلب منه أن يقرأ الرسالة معه، فقرآها في يومين وتذاكرا فيما توقف
فيه، فأزال له الأستاذ المؤلف بعض ما أشكل عليه، واعترف له بالإصابة في بعض
ما انتقده، وانتهى الأمر بشكر كل منهما للآخر. ومن حسن أخلاق الأستاذ المؤلف
واعترافه بالحق وشكره عليه: أنه قص هذه القصة على تلامذته في الجامع الأزهر،
وأثنى لهم على أخلاق الأستاذ الشنقيطي وعلمه ودينه، وقال: هذه هي مزايا
العلماء. أما الانتقاد الذي اعترف المؤلف فيه للمنتقد بالإصابة فهو نحو قوله:
(دعيت للتدريس) وكان ينبغي أن يقول: (دعيت إلى تدريس) فسبق القلم. هذا
من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فمسألة البحث في خلق القرآن، انتقد
الشنقيطي بأن فيها مخالفة لما التزمه المؤلف من سلوكه في العقائد مسلك السلف،
قال: والسلف لم يبحثوا في هذه المسألة، فاعترف له المؤلف بذلك وقال: إنني
خالفت في هذه المسألة بخصوصها الشرط لأهميتها واشتباه كثير من الناس فيها.
لم يكتف الأستاذ الشنقيطي بالشكر للمؤلف في مشهده وعلى سمعه على هذا
الأثر الجليل، بل قرظه بقصيدة غراء ذات حكم ونصائح، وجاء الرواق العباسي
في الجامع الأزهر الشريف، ولما حشر العلماء والطلاب لسماع درس الأستاذ
المؤلف استأذن منه بقراءة القصيدة عليهم، وصعد كرسي الدرس وافتتح الكلام
بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على خير الأنام، وأنشد القصيدة والناس
مصيخون، والأستاذ المؤلف بينهم وهي:
ألا إن خير الناس من كان قصده ... لنفع الورى أو كان في الضر زهده
لقد مات دين الله وانحل عقده ... فأحياه بالذكرى (محمد عبده)
فذكر من يخشى بذا الدين وحده ... ومن كان لا يخشى وبالله أيده
ونشر للإسلام من بعد طيه ... لواء على الأعلام يخفق بنده
ونوه بالإسلام تنويه ماجد ... بتنويهه بالدين يزداد مجده
وجدد للآنام توحيد ربهم ... براهينه المهداة إذ طال عهده
براهين عقل ثم نقل مبينة ... حباهم بها عفوًا وما جد جده
وسار بها سير المجد نصيحة ... لطالب دين الله فاشتد عقده
ولم يستعن في ذا الرئيس وجنده ... ولكن جنود الله والعلم جنده
ولم يستعن أهل الإدارة كلهم ... ولا بعضهم فالله منه ممده
ولم يستعن بالأزهريين إنهم ... إذا استقدحوا زندًا ورى قبل زنده
ولم يتخذ حكم المحاكم عُدة ... ولكن حكم الدين قسطًا يعده
ولم يعتبر في حسن تأليفه الرضي ... تقاريظ من في الجهل لم يدر حده
ولم يسترق تأليف أستاذه الذي ... به لاح برق العلم يحدوه رعده
وخير كلام المرء ما زان نفسه ... بصدق حديث ليس يمكن رده
وشر مقال الحر ما شان ربه ... ببهتان قول لا يحاول جحده
فلازم دليل العقل والنقل صادعًا ... بأمر إله الخلق يلزمك رشده
ولا تعدون عيناك عنه فإنه ... إلى الله هذا الخلق طرًا مرده
ولا تسلكن سبل الضلالة سادرًا ... ففيها نرى المخذول يمتد كده
وإياك والتقليد في الجهل إنه ... بناء لدى النحرير يسهل هده
وجادل بسلطان مبين أولي النهي ... به كل من ماراك قهرًا ترده
ودع عنك تقوال الحسود وبغيه ... ففي نار غيظ الحقد يشويه حقده
ودع عنك بهتان الجهول وغيه ... فإخوانه في الغي كل يمده
فعاموا كعوم الحوت في بحر جهلهم ... وفي بحر طغواهم وقد طم مده
فإن تعددن ما حرفوه وصحفوا ... لجهلهم بالعلم يتعبك عده
أراك نصرت الدين بالحق حسبة ... إليها الفتى المقدام يشتد شده
وننصر مولانا ونعلم أنه ... هو الله فقر العبد منه ووجده
وينصرنا المولى ويصدق وعده ... وأصدق وعد النصر لا شك وعده
فدونك نصحًا مخلصًا واعلم أنه ... هو الدين نصح يا (محمد عبده)
واحمد رب الناس سرًّا وجهرة ... على كل حال يلزم الناس حمده