للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أحوال العالم الإسلامي

لم يبقَ ريب ما في أن الشعوب الإسلامية قد استيقظت من رقادها السياسي
الذي كاد يكون موتًا زؤامًا؛ وذلك بعد أن بلغ الضَّيْم فيها غايته بهذه الحرب الأخيرة،
وأحيط بها أو كاد، ولا يزال الطامعون يحاولون الإجهاز عليها، والقضاء على
ما بقي من ملكها؛ لئلا تحيا بهذه اليقظة حياةً جديدةً، تنال بها حريتها، وتحفظ
حقيقتها، ولكنهم غير متفقين على قسمة الغنيمة، وشعوبهم تناقشهم الحساب على ما
ينفقون في سبيل التوسع في الاستعمار، وسياسة الشعوب بقوة الحديد والنار؛ لأن
هذه الحرب قد أكلت ثروتها، وضاعفت الضرائب عليها، فهذه فرصة يجب على
الشعوب الإسلامية اغتنامها بتقوية أنفسها، وتعاونها فيما بينها وبين سائر الشعوب
الشرقية المجاورة لها، والظاهر أن كلاًّ منها يبذل جهده بقدر ما يصل إليه علمه
وقدرته.
***
الأفغان
وإننا نرى الشعب الأفغاني خيرًا من غيره، فهو لا يهاجم الآن، ولا يقاوم من
الخارج، ولا شقاق يعرقل عمله في الداخل، وقد سلك طريقة الحياة المثلى؛ إذ
جعل همه الأول في تنظيم القوة العسكرية، عالمًا أن خصمه لا يحترم غير القوة،
ثم في التعليم، وتنمية الثروة؛ لأن القوة وسائر شؤون العمران متوقفة عليها، وهو
- مع هذا - يعتصم بولاء إخوانه من الشعوب القريبة منه كالفرس والترك، ومن
توفيق الله تعالى أن كان أميره في هذا الطور من أفضل أمراء الشرق علمًا وعقلاً
وأخلاقًا وهمةً وحزمًا وعزمًا ودينًا.
***
الفرس
ويسوؤنا أن جاره (الشعب الإيراني) لا يزال مصابًا بالشقاق الداخلي الذي
كان سببه الباطن تأثير التعاليم الإفرنجية، والدسائس الإنكليزية، والروسية جميعًا،
فعسى أن يوفَّق في هذه الفرصة السانحة إلى جمع كلمته، واتفاق زعمائه على خطة
واحدة، ينحون فيها نحو جيرانهم الأفغانيين. ونذكِّر الزعماء المختلفين أن دوام
الخلاف - بإصرار كل فريقٍ منهم على تنفيذ رأيه دون غيره - أشد خطرًا على
البلاد من الاتفاق على خطة يرى بعضهم أن فيها شيئًا من الخطأ؛ فإن الشقاق
الداخلي أكبر المهالك. ولا سيما في مثل هذه الأيام والأحوال التي هم فيها.
***
الترك
أما الترك فهم على كَوْنهم قد استفادوا من العبر بهذه الحرب أكثر من غيرهم،
وعلى كونهم لا يزالون أعظم استعدادًا من غيرهم لحماية حقيقتهم، والدفاع عن
بيضتهم، وعلى انتفاعهم بعطف العالم الإسلامي كله - ولا سيما مسلمي الهند -
عليهم، وعلى تسخير الله الدولة الروسية عدوتهم التاريخية الكبرى في عهد
القياصرة إلى مساعدتهم، وعلى استفادتهم من الخلاف السياسي بين فرنسة
وإنكلترة - هم على هذا كله - لا يزالون على خطر من إصرار الدولة البريطانية
على ثل عرشهم (رفعه الله) وتقويض دعائم ملكهم (حماه الله) ، ولا تزال
اليونان محتلة لجزء عظيم من بلادهم. وذلك يوجب عليهم من الحذق والدهاء في
السياسة مع الاستعداد الحربي، ومن التفاني في الإصرار على الاستقلال المطلق،
والحرص على استدامة صداقة الشعوب التي عطفت عليهم، والسعي لاكتساب مودة
غيرها ما نرجو أن يكون فيهم من الرجال مَن يقوم به كله.
***
مصر
وأما مصر فقد استفادت من جهادها رفع الإنكليز للحماية الباطلة عنها،
واعترافهم بالاستقلال والسيادة القومية لها، وتلا ذلك اعتراف الدول بذلك واحدة بعد
أخرى، فصارت أقدر على الجهاد في سبيل إزالة الاحتلال الأجنبي عنها وعن
سودانها الذي هو مصدر حياتها، إذا هي وحدت أحزابها، وعرفت كُنه قوتها،
وإنما هي قوة سلبية اقتصادية، لا حربية، ولا عدوانية.
***
العرب
وأما سائر العرب فلا يزالون على ما شكونا منه من تفرقهم إلا أن إخواننا
العراقيين قد أقروا أعيننا بما علمنا من اتفاق السواد الأعظم منهم على الاستقلال
المطلق من قيود الحماية، والوصاية، والانتداب، وعجز الدسائس الأجنبية عن
تفريق كلمتهم وعن خداعهم بجَعْل السيطرة عليهم مموّهة في شكل معاهدة، ولكن
ساءنا غفلة الكثيرين منهم عما تبغيه من إيقاع العداوة، والبغضاء بينهم وبين
جيرانهم النجديين، وما يجب من تحامي ذلك، والحذر من إلباسه لباس الدين،
ونرجو أن يفطن لذلك سلطان نجد الحكيم، ويعلم أن الأجانب يخوفون العراقيين من
عدوانه عليهم ليرضوهم ببقائهم تحت سيطرتهم العسكرية. وإننا نعتقد أن دينه
وعقله يأبيان عليه أن يجعل نفوذه آلة حربية للأجنبي، يخضع بها أخصب بلاد
العرب وأوسعها لسلطته، وهو لا يجهل أن استتباب السلطة الأجنبية في العراق،
والشام خطر على استقلال نجد وسائر جزيرة العرب، وقاضٍ على كل سلطة
للإسلام فيها، ولا سيما إذا امتدت فيها السكك الحديدية العسكرية، وقواعد
الطيارات الحربية، التي تؤسسها السلطة البريطانية في العراق، وشرق الأردن
من سورية، ولكن الحجازيين يجتهدون في بث الدعوة (البوربغندة) لتشويه
سمعته، والطعن فيه وفي أهل بلاده، ويوهمون الناس أنهم وحوش ضارية
يستحلون سفك الدماء بغير حق، فيعاقبون بالقتل على أقل ذنب، أو ما لا يعد عند
غيرهم بذنب، وغير ذلك من الزور والبهتان والكذب، وقد راجت هذه الدسائس
حتى في سورية، وفلسطين، ومصر.
والحق أنه لا يوجد - فيما نعلم - من أمر بلاد الإسلام قطر يقام فيه الإسلام
مثل نجد، سواء في ذلك الأعمال الشخصية والقضائية، أو بث الدعوة ومقاومة
البداوة، وإلزام البدو بالعمران والحضارة، ومنعهم من الغزو والعدوان بغير حقٍّ،
لأجل الارتزاق والكسب، وإنما يقاتل النجديين البدو لأجل هذا، ولم يتعدوا على
حكومةٍ منظمةٍ لأجل فتح بلادها، وإنما أزالوا إمارة ابن الرشيد؛ لأنه لا يجوز أن
يكون في قطرٍ واحدٍ حكومتان مختلفتان، وآل سعود هم الأمراء الشرعيون لهذه
البلاد، وقد اختاروا في إزالتها أخف الضررين وهو الحصار.
وأما اليمن فلا يزال العداء والشقاق بين إماميها يحيى والإدريسي مستمرًّا،
والقتال آونة بعد أخرى مستحرًّا، وقد اتفق الثاني مع صاحب نجد وتحالفا فاشتد
أزره، وكان صاحب الحجاز يطمع في جعْلهما تابعين له، ولو في السياسة على
كونهما أقوى منه وأعز، ثم حاول الارتباط معهما بمحالفة هجومية دفاعية، وانتهى
الأمر بوفاق اقتصادي، وهو لا يبلغه غرضه من تدويخ نجد، ولا يؤمنه تغلبها
على الحجاز، ولا يرتاح - مع ذلك - على الصلح والاتفاق مع صاحبها؛ لأنه
يخاف أن يبث دعوة التدين في سائر بدو الحجاز وحضره آمنًا، والبلاد مستعدة
لذلك، ولا سيما الأعراب فيها، ولعله لولا رجاؤه في جمع قوته على قوة ولديه في
العراق وشرق الأردن - للإحاطة بنجد، وإزالة سلطانها - لجنح إلى السلم،
ورضي بالاتفاق، وهم يبثون الدعوة في هذه الأقطار الثلاث وما جاورها من
سورية، ومصر تمهيدًا لذلك، ويعتقد أنهم إذا استولوا على نجد يتم له تأسيس
الإمبراطورية العربية في ظل الدولة البريطانية، تنفيذًا لمقررات نهضته الرسمية!
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
((يتبع بمقال تالٍ))