راجعني تلميذ لي في عدِّي الأستاذ أحمد أمين من أركان دعاة الإلحاد الذي سقط من قلمي في انتقادي على مجلة الرابطة قائلاً: إنه لم يعرف عنه هذا وليس في مقاله في تلك المجلة شيء صريح فيه، وذكَّرني بأنه هو المتخرج في مدرسة القضاء الشرعي الذي كان قاضيًا شرعيًّا فاعترفت له آسفًا بأنني أخطأت في عده من أركانهم؛ لأنه اشتبه عليَّ بكاتب آخر كتب مقالات إلحادية كثيرة في جريدة السياسة، ولكنني لا أراني مخطئًا في نظم مقالته التي نشرتها له تلك المجلة في سلك سائر مقالاتها التي تؤيد دعاية ما أَعْنِيه بكلمة الإلحاد، على أنني جعلت عنوانها (الدعوة إلى التفرنج) ورأيت من الواجب عليَّ الآن أن أفسر في المنار ما أعنيه بكلمة الإلحاد التي يشتمل عمومها على تلك المقالة، فقد علمت أن بعض الناس يفهمونها مرادفة لكلمة الكفر والتعطيل، والصواب أنها أعم من ذلك لغة وشرعًا كما بينته بالتفصيل في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: ١٨٠) إذ قلت في أوله ما نصه: وأما الإلحاد فمعناه العام الميل والازْوِرَار عن الوسط حسًّا أو معنًى، والأول هو الأصل فيه كأمثاله وبعد ذكر الألفاظ والجمل المستعملة من هذه المادة قلت: ولما كان (خيار الأمور أوساطها) كان الانحراف عن الوسط مذمومًا، ومنه أخذ التعبير عن الكفر بالتعطيل والشك في الله تعالى بالإلحاد، ويسمى ذووه الملاحدة والملحدين، ثم نقلت ما قاله الراغب في مفردات القرآن تفسيرًا لهذه المادة ومنه: ألحد فلان: مال عن الحق، والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عُرَاه ولا يبطله إلخ، ثم بيَّنْتُ أن الإلحاد في أسمائه تعالى سبعة أنواع (راجع ص ٤٤٠ - ٤٤٨ ج٩ تفسير) . فأنا أعني بالإلحاد في كل ما أرد به على الملاحدة المعنى العام الذي يشمل الكفر المُخْرِج من الملة وغير المُخْرِج منها وما ليس بكفر مما يضعف الإيمان ويوهن روابط الإسلام اللغوية والاجتماعية كالثقافة اللادينية التي كانت تدعو إليها جريدة السياسة وغيرها، وكثير مما يسميه جماعة الكتاب اللادينيين بالتجديد كأزياء الرجال والنساء الإفرنجية التي جعلها مصطفى كمال باشا ومريده أمان الله خان من أركان الإصلاح لما يقصد بها من إنساء المسلمين جميع ماضيهم، ومن أركانها استبدال الحروف اللاتينية بالعربية وغير ذلك من الميل عن الوسط إلى إفراط أو تفريط في الشئون الإسلامية، وليس منها تجديد الصناعات والفنون العسكرية والمالية والتجارية وأمثال ذلك مما يزيد قوة الأمة وثروتها بل هذا واجب شرعًا. ويرى القراء في عناوين مقالنا في الإنكار على مجلة الرابطة ما يدل على هذا التقسيم للآراء الإلحادية ولا سيما التفرقة بين دعاية سلامة موسى إلى هدم الإسلام ودعاية أحمد أمين إلى التفرنج، فثبت من كل ما تقدم أننا لا نعد كل ما ننتقده من التجديد المدني إلحادًا، ولا كل إلحاد وتفرنج كفرًا يخرج به صاحبه من الملة. هذا وإن مقالة المنار في الإنكار على مجلة الرابطة الشرقية قد كان لها وقع عظيم في نفوس المسلمين هنا، وربما كان وقعها أعظم في سائر الأقطار الإسلامية التي لم يوجد فيها من حرية الإلحاد مثل ما هو معهود في مصر. نشرتها جريدة كوكب الشرق اليومية التي يقال: إنها الآن أوسع صحف القطر انتشار، ونشرتها صحيفة الفتح الأسبوعية، وقد جرى حديث بين أحد محرري الكوكب وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا في موضوع المقالة كانت فيه أجوبة سعادته للمحرر مُشْعِرَة برضاه عن تلك المقالات التي انتقدناها على المجلة إلا مقالة سلامة أفندي موسى فقد اعتذر عنها بحرية النشر ... فكان ذلك موجبًا لمزيد استياء المسلمين كما بينته مجلة الفتح، وجرى بيننا وبين سعادته وسماحة الرئيس في المسألة ما لا ينبغي لنا أن ننشره؛ لأنه من أمانة المجالس ثم جرى حديث آخر في جلسة مجلس إدارة الرابطة الأخيرة، وقد علم من كل هذه الأحاديث أن هيئة تحرير مجلة الرابطة ستبين رأيها في انتقاد مجلة المنار لها بما يصح أن يبنى عليه رأي مجلس الإدارة فيها وكذا الرأي الإسلامي العام بالأولى، فعسى أن يوفق صاحبا السماحة والسعادة الرئيس والوكيل إلى انتياش المجلة من الورطة التي نشبت فيها بشذوذ الأستاذ رئيس التحرير الذي لم يعرفا كُنْهَه من قبل، وإن ما نعهده فيهما من الحنكة والحلم والروية جدير بأن ينتصر على ما عنده من الشرة والحدة والإصرار، وقد بلغنا أنه يستعد للانتقام منا بنقد التفسير وغير التفسير من الآثار والمطبوعات، وما نقده بالذي يخيفنا ونحن نعرض كل ما نكتبه للنقد وننشر ما يرسل إلينا منه، وإن كان تجهيلاً وتضليلاً، حتى لامنا خيار قراء المنار على إضاعة أوقاتنا وأوقاتهم في ذلك، وإنما نحسب حسابًا لما عسى أن يكون لإطلاق العنان له في مجلة الرابطة من تأثير سَيِّئٍ في جمعية الرابطة وتأثير أسوأ في جميع المسلمين، وإنا للجزء الثالث منها لمنتظرون. ((يتبع بمقال تالٍ))