للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من البحرين
عن حكم الحج وترك الملوك والأمراء وبعض العلماء له

(س٣٠ - ٣٦) لصاحب الإمضاء بجزيرة البحرين:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة سيدي العلامة المصلح العليم مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف
الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير، أدام الله تعالى شريف وجوده
وسلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فالداعي لتحريره عرض مسألة عرضت
لنا في هذه الأيام، وهو أننا عشرة أشخاص نوينا هذه السنة التوجه لحج بيت الله
الحرام والتمتع بمشاهدة مهد الإسلام، وبهذه المناسبة صار بيننا جدال وكلام كثير
بخصوص الحج ومناسكه فالتجأنا إلى طلب الاستهداء من حضرتكم لإرشادنا إلى
السبيل الأقوم والصراط المستقيم، فعليه قدمنا هذا الكتاب مؤملين فيه الجواب من
حضرتكم على هذه الأسئلة وهي:
علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار لنا الإسلام دينا وجعل هذا الدين مُقامًا
على خمسة أركان رئيسية، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع
إليه سبيلا.
هذا هي الخمسة الأركان التي لا يكمل الإسلام إلا بها، وبفضل المنار المنير
وباقي كتب العلماء المصلحين الأفاضل قد فهمنا المقاصد والحكم من الصلوات
والزكاة والشهادتين والصيام كما قد فهمنا المقصد من الحج على الوجه العام، ولكن
اسمح لنا يا حضرة المفضال الحكيم أن نقول في الحج بعض أعمال لم نعرف
الحكمة منها فلذلك جئنا بهذا الكتاب نلتمس منك هدايتنا إلى ما جهلناه وهو:
١- ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود إذا عرفنا أنه حجر
لا يضر ولا ينفع ولا يخفى ما في ذلك من المظاهرة الوثنية؟
٢- ما الحكمة في رمي الحجارة الجمار في القليب في مزدلفة؟
٣- ما الحكمة في الهرولة بين المروتين؟
٤- ما المقصد في ذبح الذبائح على كثرتها ودفن لحومها في منى، وفي ذلك
ما فيه من النتائج الوخيمة التي تصدر من تعفن اللحوم؛ إذ تنتشر الأوبئة منها،
ولماذا يمنع الناس من أكلها؟ وهل ذلك لازم، ومن المناسك التي لا يتم الحج إلا
بها على هذه الصورة. ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنويًّا
ثمنًا لهذه اللحوم؛ إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه فما قولكم لو صرفوا هذه
المبالغ على إصلاح آبار مكة وطرقها وتكاياها وتنظيفها وعلى كل ما يعود على
الحجاج بالراحة والصحة والسلامة.
٥- لماذا أقاموا دون عرفة بِنَائَيْنِ عن اليمين والشمال تعرف بالعلمين؟ وكل
من لم يكن خلف هذين البِنَائَيْنِ ليس مقبول الحج مع أنه تكلف العشاء ووصل إلى ما
دونهما؟ ولماذا يكون من خلفها مقبول الحج، وهو في لهوه ولعبه، وممارسة ما
اعتاده في بلاده من الأعمال، ومن كان دونها غير مقبول، ولو كان على غير ذلك؟
وهل هذان البناءان حد فاصل بين الله والناس أو بين الجنة والنار.
٦- نرى كثيرًا من علماء الأمة الإسلامية ومرشديها المصلحين منهم من عاش
ومات وهو لم يحج مع أنه ربما رحل في سنته مرتين أو ثلاثا إلى أوربا أو إلى
غيرها من البلاد ولم يذهب إلى مكة مع أنه كان الألزم والأوجب أن يقصد مكة
والحج كل موسم للنصح والإرشاد. فهذا ساكن الجنان الأستاذ الإمام والمرحوم السيد
عبد الرحمن الكواكبي وغيرهم عاشوا وماتوا وهم لم يروا مكة في وقت الحج.
وحضرتك أيضا كذلك، فما هي الأسباب يا ترى ونحن نعتقد أن امتناعكم جميعًا عن
الحج لا بد له من سبب فما هو ذلك السبب العظيم الذي يمنع رجال الإصلاح العظام
عن الحج المقدس.
٧- وكذلك نرى أن جميع ملوك الإسلام وأمراءه وأغنياءه لا يحجون ولا نرى
الحجاج سواهم إلا من فقراء الهند والصين والروسيا وجاوا وبلاد العرب كمصر
وتونس وسوريا والعراق وغيرها. وهذا كثير من سلاطين آل عثمان الخلفاء
وأمراء البيت السلطاني وأعاظم الرجال من الوزراء والحكام والأغنياء المشار إليهم
بالبنان كلهم لا يحجون ولا يدور في خلد أحدهم أن يحج، فما هو السر في ذلك يا
ترى، وكم عجبنا لما سمعنا بحج أمير مصر قبل سنتين، وكثر تحدث الناس في
ذلك حتى تجرأ أحدهم فقال: إن المقصود من حج العزيز غرض سياسي ورحلة في
جهات الحجاز لا غيرُ، وليس له مقصد في الحج قطعًا.
هذا ما وجهناه لحضرتكم ملتمسين التنازل بمجاوبتنا عليه، ولك يا سيدنا
الخيار في المجاوبة أن تكون على صفحات المنار أو كتاب مخصوص، وإذ كانت
في المنار تكون أعم وأنفع، وإن أردت أن تجاوب على بعضها في المنار وبعضها
كتابة مخصوصة فالأمر إليك، ونحن قد اتكلنا بعد الله عليك، ولنا كبير الأمل أن
حضرتك تهدينا إلى سواء السبيل لا سيما وحجنا يتوقف على جوابكم؛ لأنه لا
يخفاك أننا نقصد الحج نطلب الأجر والغفران، لا الإثم والخسران، فأمط لنا - بما
أعطاك الله من سعة العلم - نقاب الباطل عن وجه الحقيقة أدامك الله سراجًا يهتدي
به مَن ضل عن محجة الصواب، والسلام عليك.
٤ شعبان سنة ١٣٣١ إلى مصر. القاهرة
... ... ... ... ... ... ... ... من المخلص
... ... ... ... ... ... ... ناصر مبارك الخيري
... ... ... ... ... ... ... ... ... بالبحرين
أجوبة المنار
قد سبق لنا القول في مجلدات المنار السابقة عن حكم الحج جملة وتفصيلا،
والانتقاد على ملوك المسلمين وأمرائهم أنهم تركوا هذه الفريضة، وعذر الأستاذ
الإمام رحمه الله تعالى في تأخير هذه الفريضة إلى أن وافاه أمر ربه، وكون عذرنا
عين عذره.
وما نظن أن السائل وأصحابه الذين أشار إليهم قد علقوا حجهم على جواب
هذه الأسئلة، ولعله قال ذلك لنبادر إلى الجواب عنها، وها نحن أولاء نبادر إلى
ذلك، وإن كان لدينا كثير من الأسئلة مقدمة عليها في التاريخ.
* * *
حكمة تقبيل الحجر الأسود
ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى
والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل
قائليه من جهة وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى، ومن عرف معنى العبادة
يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود ولا الكعبة ولكن يعبدون الله تعالى
وحده باتباع ما شرعه فيهما، بل كان من تكريم الله تعالى لبيته أن صرف مشركي
العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل الإسلام عن عبادته،
وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ولم يعبدوه. ذلك أن عبادة الشيء عبارة
عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده أو دفع الضرر
عنه، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه، سواء كانت هذه
السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود فيستقل بالنفع والضرر أو كانت غير ذاتية له بأن
يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة الذاتية، ولا يوجد
أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له، ولا أن
سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى، ولا كانت العرب في الجاهلية تعتقد
ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى} (الزمر: ٣) ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: ١٨) وإنما عقيدة
المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيله،
قال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن.
وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله
عنه، وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أثر عمر كان العمدة في
هذا الباب للاتفاق على صحة سنده.
قال الطبري: إنما قال عمر ذلك أي أنه معلوم من الدين بالضرورة؛ لأن
الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر
الأسود من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد أن يعلم
الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر يضر
وينفع بذاته. اهـ.
فإن قلت: روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري أن عمر لما قال ذلك قال له
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنه يضر وينفع، وبين ذلك بأن الله لما أخذ
الميثاق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، وأنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (يأتي يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد)
فالجواب أن هذا الحديث باطل، انفرد بروايته عن أبي سعيد أبو هارون عمارة بن
جوين العبدي، وأهون ما قيل فيه: إنه ضعيف، وكذَّبه حماد بن زيد، وقال
يحيى بن معين: ضعيف لا يصدق في حديثه، وقال الجوزجاني: أبو هارون كذاب
مفتر، وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديث، وقال شعبة:
كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي فقدم فرأيت عنده كتابًا فيه أشياء
منكرة في علي رضي الله عنه، فقلت ما هذا الكتاب؟ فقال: هذا الكتاب حق،
وقال شعبة أيضا: أتيت أبا هارون فقلت له: أخرج إلي ما سمعته من أبي
سعيد، فأخرج إلي كتابًا فإذا فيه: حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل في حفرته وأنه
لكافر بالله. فدفعت الكتاب في يده وقمت. وأقول: إن طعنه في كل من الصهرين
الكريمين يفسر لنا قول الدارقطني فيه: يتلون خارجي وشيعي.
والذي يظهر لي من كلامهم هذا أنه كان منافقًا. فإن قيل يقوي حديثه هذا
حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وغيرهما. قلت: ليس في حديث ابن عباس
أنه ينفع ويضر وإنما فيه أنه يشهد لمن استلمه بحق، فإذا صحت هذه الشهادة مهما
كانت كيفيتها في عالم الغيب فهي لا تدل على أن الحجر الأسود يملك لأحد من
الناس ضرًّا أو نفعًا هو مختار فيه، ولا يطلب أحد من المسلمين منه هذه الشهادة
بألسنتهم ولا قلوبهم فيقال: إن طلبه عادة، وشهادة أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة
أصح من شهادة الحجر وليست معبودة بهذا المعنى.
بقي أن يقال: إذا كان الحجر لا ينفع ولا يضر كما قال عمر في الموسم
تعليمًا للناس وأقره بعض الصحابة عليه. وكان استلامه وتقبيله لمحض الطاعة
والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتبع في سائر العبادات، فما هي
حكمة جعل ما ذكر من العبادة؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى الله عليه
وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين واستمالة لهم إلى
التوحيد؟
والجواب: أن الحجر ليس من آثار الشرك ولا من وضع المشركين، وإنما
هو من وضع إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، جعله في بيت الله
ليكون مبدأ للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها فيكون الطواف بنظام لا
يضطرب فيه الطائفون.
وبهذا صار من شعائر الله يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها
بيتًا لله تعالى، وإن كانت مبنية بالحجارة، فالعبرة بروح العبادة: النية والقصد،
وبصورتها الامتثال لأمر الشارع، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان، ولهذا لا
تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره
من الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية.
وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية بغير قصد العبادة معروف في جميع
الأمم لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون، وأشد الناس عناية به
الإفرنج فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة
ونصبوا لهم التماثيل الجميلة، وهم لا يعبدون شيئا منها، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به
كل قسيس أو سياسي يريد تنفير المسلمين من دينهم إذا موَّه علينا في شأن تعظيم
الحجر الأسود فزعم أنه من آثار الوثنية، ونحن نعلم أنه أقدم أثر تاريخي ديني
لأقدم إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين الذي عُرِفَ شيء صحيح من
تاريخهم وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي جمع على تعظيمه مع المسلمين
اليهود والنصارى؟
وبقي من حكمة استلام الحجر وتقبيله ما اعتمده الصوفية فيها أخذًا مما ورد
في بعض الأحاديث الضعيفة كحديث علي السابق، وحديث ابن عباس: (الحجر
الأسود يمين الله في أرضه) رواه الطبراني وهو أنه رمز لمبايعة الله تعالى، فكأن
الحجر يمين الله تعالى ومُسْتَلِمه مبايع له على توحيده والإخلاص له واتباع دينه
الحق، والأعمال الرمزية معروفة في جميع الأديان السابقة، وقال المهلب: حديث
عمر يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ
الله أن تكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختبارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع
الله، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم. اهـ. وليس مراد من
قال: إنه يمين الله أن لله جارحة، وإنما أراد ما ذكرنا، والعمدة في رد هذا القول
عدم صحة الحديث فيه، فإن صح وجب قبوله ومعناه ظاهر.
قال الخطابي: معنى كونه يمين الله في الأرض أن من صافحه لمن يريد
موالاته والاختصاص به فخاطبهم بما يعهدونه. وقال المحب الطبري: إن كل ملك
إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه، فلما كان الحاج أول ما يقدم سن له تقبيله نزل منزلة
يمين الله، {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: ٦٠) . اهـ.
ولعمري لو أن ملوك الإفرنج وعلماءهم أمكنهم أن يشتروا هذا الحجر العظيم
لتغالوا في ثمنه تغاليًا لا يتغالون مثله في شيء آخر في الأرض، ولوضعوه في
أشرف مكان من هياكل التحف والآثار القديمة، ولحج وفودهم إلى رؤيته وتمنى
الملايين منهم لو تيسر لهم لمسه واستلامه، وناهيك بمن يعلم منهم تاريخه وكونه
من وضع إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام وإنهم ليتغالون فيما لا شأن له من آثار
الملوك أو الصناع.
هذا، وإن من مقاصد الحج النافعة: تذكر نشأة الإسلام دين التوحيد والفطرة
في أقدم معابده، وإحياء شعائر إبراهيم التي طمستها وشوهتها الجاهلية بوثنيتها
فطهرها الله ببعثة ولده محمد الذي استجاب الله به دعوته: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة: ١٢٩)
عليهما الصلاة والسلام.
روى أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع،
(كمنبر واسمه) يزيد الأنصاري ونحن بعرفة، في مكان يباعده عمرو عن الإمام [١]
فقال أما إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم: (قفوا على
مشاعركم فإنكم على إرث من أبيكم إبراهيم) هذا سياق أبي داود وقد سكت عليه.
وقال الترمذي: حديث ابن مربع الأنصاري حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث
ابن عيينة عن عمرو بن دينار.
وجملة القول أن مناسك الحج من شريعة إبراهيم وقد أبطل الإسلام كل ما
ابتدعته الجاهلية فيها من وثنيتها وقبيح عملها كطوافهم بالبيت عراة، وإن الكعبة
من بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما هو ثابت عند العرب بالإجماع
المتواتر بينهم وكانوا يعظمونها هم والأمم المجاورة لهم بل والبعيدة عنهم كالهنود،
ومن الثابت أيضا أنهم لما جددوا بناءها أبقوا الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم
وإنما اقتصروا من جهة الركنين الشاميين، ولذلك ورد استلام الركنين اليمانيين دون
غيرهما، ويقال لأحدهما الركن الأسود؛ لأن فيه الحجر الأسود وللآخر اليماني فإذا
ثنوهما قالوا اليمانيين تغليبًا كما يقولون في تثنية الركن الشامي والركن العراقي
الشاميين.
ولما كانت الكعبة قد جدد بناؤها قبل الإسلام وبعده لم يبق فيها حجر يعلم
باليقين أنه من وضع إبراهيم إلا الحجر الأسود لامتيازه بلونه وبكونه مبدأ المطاف
كان هو الأثر الخاص المذكر بنشأة الإسلام الأولى في ضمن الكعبة المذكرة بذلك
بوضعها وموضعها وسائر خصائصها، زادها الله حفظًا وشرفًا. وقد علم بهذا أن
الحجر له مزية تاريخية دينية، وإن كان الأصل في وضعه بلون مخالف للون البناء
اهتداء للناس بسهولة إلى جعله مبدأً للطواف، ولنا مع علمنا بهذا أن نقول: إن لله
تعالى أن يخصص ما شاء من الأجسام والأمكنة والأزمنة لروابط العبادة والشعائر،
فلا فرق بين تخصيص الحجر الأسود بما خصصه وبين تخصيص البيت الحرام
والمشعر الحرام وشهر رمضان والأشهر الحرم، ومبنى العبادات على الاتباع لا
على الرأي.
* * *
حكمة رمي الجمار
إذا وعيت ما تقدم كان نورًا بين يديك تبصر به حكم سائر مناسك الحج أعني
بها مما تَعَبَّدَنا الله تعالى بها لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال سواء عرفنا سبب كل
عمل منها وحكمته أم لا، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام
الموحدين المخلصين، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى، وإن لاستحضار
ذلك لتأثيرا عظيما في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به، والثقة بأنه دين الله
الخالص الذي لا يقبل غيره، فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها
لا يضرنا ذلك، ولا يثنينا عن إقامتها كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب
من عدة أجزاء، وجهلنا سبب كون بعضها أكثر من بعض، فإن ذلك لا يثنينا
عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به، ولا يدعونا إلى التوقف وترك استعماله إلى
أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء ومقاديرها.
أبسط ما يتبادر إلى الذهن من منشإ هذه العبادة أن هذه المواضع التي
تسمى الجمرات كانت من معاهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام فشرع لنا أن نقف
عند كل واحدة منها نكبر الله سبع تكبيرات ترمى عند كل تكبيرة حصاة صغيرة بين
أصابعنا نعد بها التكبير، والعدد بالحصى - ومثله النوى في مثل الحجاز - من
الأمور المعهودة عند الذين يعيشون عيشة السذاجة، فنجمع بهذا الذكر بهذه الكيفية
بين إحياء سنة إبراهيم الذي أقام الدين الحق في هذه المعاهد وبين التعبد لله تعالى
بكيفية لا حظ للنفس ولا محل للهوى فيها، وللعبادة منها شعائر يجتمع لها الناس
وتقصد الأمة بعملها إظهار الدين والاجتماع والتآلف على عبادة الله تعالى، وكل
أعمال الحج من هذا القبيل، ومنها ما يقصد به تربية كل فرد نفسه وتزكيتها فقط
كالتهجد، وذكر الله في الخلوة، فلا يقال: إن الذكر والتكبير لا يختص بذلك الزمان
والمكان؛ لأن هذا القول لا يصح إلا في غير الشعائر؛ إذ الشعائر لا بد فيها من
التخصيص والتوقيت لأجل جمع الناس عليها بنظام كالأذان وصلاة الجماعة
والجمعة والعيدين.
أما كون رمي الجمار شرع لذكر الله تعالى فسيأتي حديث عائشة المصرح به
في جواب السؤال التالي، وأما سبب وقوف إبراهيم في تلك المعاهد لذكر الله
وتكبيره وعده بالحصى فلا يضرنا جهله، ويكفينا أن نقتدي به في هذه الشعيرة
كشعيرة الطواف وغيرها من المناسك.
وورد في بعض الأحاديث الضعيفة السند: أن إبليس عرض له هنالك أي
يوسوس له ويشغله عن أداء المناسك فكان يرميه كل مرة فيخنس ثم يعود. روى
الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس (لما أتى خليل الله المناسك عرض له
الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبعة حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له
عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض) ثم ذكر الجمرة
الثالثة كذلك.
وروي عن محمد بن إسحاق قال: (لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء
البيت الحرام جاء جبريل عليه السلام فقال له: طف به سبعًا) ثم ساق الحديث
وفيه: (أنه لما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس عند جمرة العقبة فقال له
جبريل: كبر وارمه سبع حصيات، فرماه فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة
الوسطى فقال له جبريل: كبر وارمه فرماه إبراهيم سبع حصيات، ثم برز له عند
الجمرة السفلى فقال له جبريل: كبر وارمه، فرماه سبع حصيات مثل حصى
الخذف، فغاب عنه إبليس، ثم مضى إبراهيم في حجه) الحديث.
وليس تمثل الشيطان للأنبياء ولا ظهوره لهم بغريب في قصصهم ففي الإنجيل
المعتمد عند النصارى أنه ظهر للمسيح عليه السلام وجربه تجارب طويلة.
فإذا صح أن إبليس عرض لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في أثناء أداء
مناسكه بظهور ذاته أو مثاله، أو بمجرد التصدي للوسوسة والشغل عن ذكر الله
تعالى فلا غرابة في قذفه ورجمه كما يطرد الكلب، فمن المعروف في الأخلاق
والطباع أن يأتي الإنسان بعمل عضوي يظهر به كراهته لما يعرض له حتى من
الخواطر القبيحة ودفعه عنه وبراءته منه، فأخذ الحصيات ورميها مع تكبير الله
تعالى من هذا القبيل، وإن حركة اليد المشيرة إلى البعد لتفيد في دفع الخواطر
الشاغلة للقلب.. والرجم بالحجارة بقصد الدلالة على السخط والتبري أو الإهانة
معهود من الناس، وله شواهد عند الأمم كرجم بني إسرائيل مع يشوع (النبي
يوشع عليه السلام) لمجان بن زراح وأهله وماله من ناطق وصامت (كما في٧: ٢٤
و٢٥) من سفر يشوع، وكرجم النصارى لشجرة التين التي لعنها المسيح، ورجم
العرب في الجاهلية لقبر أبي رغال في المغمس بين مكة والطائف؛ لأنه كان يقود
جيش أبرهة الحبشي إلى مكة لأجل هدم الكعبة حرسها الله تعالى.
والعمدة في رمي الجمار ما تقدم من قصد التعبد لله تعالى وحده، بما لا حظ
للنفس فيه اتباعًا لإبراهيم أقدم رسل الله الذين بقيت آثارهم في الأرض، ومحمد
خاتم رسل الله ومكمل دينه ومتممه الذي حفظ دينه كله في الأرض، صلى الله
عليهم أجمعين.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحج من الإحياء: وأما
رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهارًا للرق والعبودية، وانتهاضًا لمجرد
الامتثال، من غير حظ للعقل والنفس في ذلك؛ ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه
السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه
شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله
فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه وأما أنا فليس يعرض لي
الشيطان، فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك
في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به؟
فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي، فبذلك ترغم أنف الشيطان.
واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه
الشيطان وتقصم به ظهره، إذا لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه
وتعالى تعظيمًا له بمجرد الأمر، من غير حظ للنفس والعقل فيه اهـ.
* * *
حكمة الرَّمَل في الطواف والسعي بين الصفا والمروة
الطواف بالكعبة المعظمة والرمي والسعي بين الصفا والمروة من مناسك
الحج وشعائر الإسلام، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وروي أن هاجر
رضي الله تعالى عنها كانت تسعى بينهما والِهَةً حَيْرَى عند حاجتها إلى الماء زمن
ولادتها إسماعيل حتى هداها الله تعالى إلى بئر زمزم.
والعمدة في هذه العبادة ما ذكرناه في الكلام على رمي الجمار من إقامة ذكر الله
تعالى في هذه المعاهد التي هي أقدم معاهد التوحيد المعروفة في الأرض وإحياء
سنن المرسلين فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت
وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) رواه أبو داود والترمذي وقال:
حسن صحيح من حديث عائشة. وأذكاره معروفة في المناسك.
وأما الرَّمَل فيه فهو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة ومعناه سرعة في
المشي مع تقارب الخطوات من غير عَدْو ولا وثب، ويسمى الخَبَب أيضا فهو دون
العَدْو وفوق المشي المعتاد، فإن زادت السرعة كان عَدْوًا.
أما سبب الرَّمَل في الطواف والسعي بهمة ونشاط بين الصفا والمروة فهو كما
يؤخذ من عدة أحاديثَ إظهارُ قوة المسلمين للمشركين، وكان قد علم النبي صلى
الله عليه وسلم أن المشركين قالوا عام الحديبية في المؤمنين: قد أوهنتهم حمى
يثرب، وروى في الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة لعمرة
القضاء قال المشركون: إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من
الهزال؛ لذلك أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في ثلاث طوفات
ويمشوا في أربع من الأشواط السبعة من طواف القدوم فقط.
وكان خطر لعمر بن الخطاب أن يتركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله
لسبب عارض، ثم بدا له فمضى عليه؛ لأنه علم أن المحافظة على ما فعله النبي
صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه كالمحافظة على ما كان فعله جده إبراهيم صلى الله
عليه وسلم إن لم تكن أولى، روى أبو داود وابن ماجه عنه أنه قال: فيم الرملان
اليوم والكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام (أي: وطأه وأحكمه) ونفى الكفر
وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأصله في البخاري بلفظ: فما لنا والرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم
الله، ثم قال: هو شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه.
وقوله: (راءينا) مشاركة من الرؤية أي أريناهم قوتنا وأننا لا نعجز عن
مقاومتهم، وقيل: هو من الرياء بمعنى إراءة ما هو غير الواقع أي أريناهم من
الضعف قوة. والرياء مذموم؛ لأنه خداع؛ والخداع جائز في الحرب، وهذا من
قبيل الحرب.
وقوله في الرواية الأولى: والكشف عن المناكب: معناه الاضطباع وهو أن
يؤخذ الرداء من تحت إبط اليد اليمنى فيلقى على كتف اليسرى فتظهر المناكب،
وحكمته عين حكمة الرمل، وقيل: إنما هو لأجل التمكن منه.
وقد ورد في الصحيح: أن المشركين قالوا عندما رأوا النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه يرملون مضطبعين: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم أجلد
من كذا وكذا. وفي رواية أجلد منا.
فعلم من هذا أن الرمل أو الهرولة كما قال السائل إنما شرعت في الطواف
لسبب، وإنما نحافظ عليه لتمثيل حال سلفنا الصالحين: رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه رضي الله عنهم اتباعًا وتذكر لنشأة الإسلام الأولى في عهدهم، وهل
توجد أمة من الأمم غيرنا تعرف من نشأة دينها هذه الدقائق بيقين؟ لا لا، فالحمد لله
رب العالمين.
* * *
حكمة ذبح النسك ودفن لحومها في منى
حكمة ذبائح الهدي والأضاحي معروفة لا يجهلها عامة المسلمين، وهي طاعة
الله تعالى وتقواه، وإظهار نعمته بتوسعة المسلمين على أنفسهم وعلى الفقراء
والمساكين في أيام العيد التي هي أيام ضيافة الله للمؤمنين، وهي من مناسك الحج؛
لأنها إحياء لسنة إبراهيم وتذكر لنعمة الله عليه وعلى الناس بفداء ولده إسماعيل من
الذبح الذي ابتلاه الله واختبره به؛ لتظهر قوة إيمانه بالله تعالى وإيثاره لرضاه.
ونعمة الله بذلك على الناس كافة إنما هي من حيث إن إسماعيل هو جد محمد صلى
الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى خاتمًا لرسله وهاديًا للناس كافة.
قال تعالى في البدن التي تنحر للنسك في: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (الحج: ٣٦) وقال في ذبائح النسك عامة: {لَن يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم} (الحج: ٣٧) الآية.
وأما دفن لحومها في هذه الأزمنة، التي كثرت فيها الحجاج وقلت معرفتهم
ومعرفة حكامهم بأحكام الدين وحكمه، فليس من الدين في شيء، وإنما هو من
الجهل بأمر الدين والدنيا. ولو كان للحجاز حكومة عاقلة رشيدة لعرفت كيف تحفظ
ما زاد عن حاجة الناس من تلك اللحوم بجعل بعضها قديدًا، وبعضها مقليًّا من النوع
الذي يقال له (قاورمه) ولأفاضت منها على فقراء الحرم طول سنتهم، وها نحن
أولاء نرى الأمم العالمة التي تعرف كيف تستفيد من جميع نعم الله تعالى تنقل اللحم
الغريض والسمك الطري من قطر إلى قطر، حتى إن الغنم تذبح في استرالية ويباع
لحمها في مصر من شمالي إفريقية وفي شمال أوربة أيضا، ونحن قد جعلنا حسنات
ديننا سيئات بسوء تصرفنا، فصرنا حجة عليه في نظر الأمم كلها، وهو حجة
علينا عند الله تعالى.
وإذا جاز أن تترك هذه الذبائح وينفق ثمنها فيما ذكر السائل فمن يضمن أن
يقوم الناس بذلك؟ كلا إن هذا شعار لا يقوم غيره مقامه، ولو كان للمسلمين من
الاهتمام بعمران الحرمين وخدمة الحجاج ما أشار إليه لما توقف قيامهم به على
تركهم لهذا النوع من النسك؟
فإن كان في الأنعام التي تذبح هنالك ما يضر لحمه الآكلين، وعرف ذلك
بشهادة الأطباء والعارفين، فالواجب على الحكومة أن تمنع دخول هذا النوع الضار
حتى لا يسوق الناس إلى الحرم من الغنم وغيرها من النعم إلا كل صحيح لا يخشى
منه ضرر.
* * *
العَلَمَان وحكمة حدود عرفة
إذا كان من أركان الحج الوقوف بعرفة وجب أن يكون لعرفة حدود معينة،
وإلا بطل معنى فرضية الوقوف فيها، وهكذا كل عبادة اعتبر في فرضيتها مكان أو
زمان كالطواف والسعي بين الصفا والمروة وصيام رمضان وكون الصيام من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس، لا تحصل العبادة لمن خرج عن الحد المكاني أو
الزماني، وأما مسألة القبول فهي شيء آخر: ما كل من أتى بأعمال العبادة الظاهرة
نجزم بأن عمله مقبول عند الله تعالى، إذ يجوز أن يكون مرائيًا بعمله غير مخلص
فيه، وإنما يتقبل الله من المتقين المخلصين، ولكن المخلص إذا لم يأت بالعمل الذي
فرضه الله تعالى كما فرضه تعالى بحدوده من زمان ومكان، فلا مجال للقول بأن
عمله مقبول؛ لأن العمل لم يوجد، فمن سعى إلى الحج ولم يدرك الوقوف بعرفة
وراء العَلَمَين اللَّذيْن هما أول حد عرفة لم يدرك الحج حتى يبحث في قبول حجه
وعدم قبوله، ومثله مثل من سعى إلى صلاة الجمعة ولم يدرك ركعة منها مع الإمام
لا يقال: إن جمعته مقبولة أو غير مقبولة؛ لأنه لا جمعة له، وإن سعى إليها من
أول النهار مخلصًا لله في ذلك، ولكن الله لا يضيع أجر من سعى إلى الحج أو
الجمعة أو غيرهما من العبادات مع الإخلاص فيثيبه على ذلك وإن لم يسقط عنه
الفرض، وكان لا بد في الجمعة من صلاة الظهر في الحج من أدائه تامًّا في ميقاته.
وقد علم مما ذكرنا أن العَلَمَين حدٌّ لعرفة لا حَدٌّ بين الله والناس، ولا بين الجنة
والنار.
* * *
ترك بعض العلماء لفريضة الحج
الحج فرض على من استطاع إليه سبيلاً، وهو على التراخي لا الفور إذا
وُجِدَ العذرُ، والخلاف في المسألة مشهور، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا في آخر سنة من عمره، ولكنه اعتمر قبل ذلك. ومن ترك الحج وهو
يستطيع السبيل إليه حتى مات، مات عاصيًا لله تعالى. ولا يقتدى به ولا يعد تركه
إياه عذرًا لغيره، والسائل يقول: إنه يرى كثيرًا من علماء الأمة ومرشديها
المصلحين لم يحجوا، وأنا لا أعرف أحدًا من العلماء المصلحين ولا غيرهم من
الجامدين الراضين بحال المسلمين السيئة ترك الحج بغير عذر حتى مات. وقد ذكر
السائل منهم الأستاذ الإمام والسيد الكواكبي - رحمهما الله تعالى - وذكرني معهم.
فأما الكواكبي فهو من علماء الاجتماع والسياسة لا من علماء الدين، وإن كان له
مشاركة ما في الفقه ونحوه لا تنكر، ولا أدري أحج أم لا؟ وأنا ما عرفته إلا في
مصر، ولم يكن ذا سَعَةٍ فيها، نعم إنه ساح بعد هجرته إلى مصر في جزيرة
العرب ثم عاد إليها، ولكن بمساعدة من بعض الناس، ومن لا يستطيع الحج إلا
بمال غيره لا يجب عليه الحج، ولا أن يقبل تبرع غيره له بنفقته إن هو تبرع.
وأما الأستاذ الإمام فأنا أعلم أنه كان عازمًا على الحج وقد سمعت ذلك من
لسانه وأنه يريد أن يقيم في المدينة المنورة وما جاورها طائفة من الزمن، ويبحث
عن مواضع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بحثًا يستعين به على ما كان ينويه
من الكتابة في تاريخ الإسلام، وتحرير سيرته عليه الصلاة والسلام، وقد بينت
عذره وعذري وسبب تأخيرنا للحج من قبل، فمن ذلك قولي في تفسير قوله تعالى:
{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: ٩٧) من جزء التفسير الرابع ما نصه:
إن كثيرًا من أمراء المسلمين ونابغيهم يعلمون أن دون أدائهم لفريضة الحج عقبات
سياسية لا يسهل اقتحامها، وقد جاء في صحف الأخبار أن أمير مصر استأذن
السلطان في حج والدته وبعض أمراء أسرته فلم يأذن.
وقد كان الأستاذ الإمام يعتقد أنه إذا حج يلقي بيديه إلى التهلكة، وأنه لا أمان
له في الحرم الذي كان يرى الجاهلي فيه قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء. وإن كاتب
هذه السطور يعتقد مثل هذا الاعتقاد، فنسأل الله تعالى أن يحقق لنا ثانية مضمون
قوله تعالى {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: ٩٧) لنمتثل ما فرضه علينا من
حج هذا البيت ... إلخ.
وأقول الآن: قد ظهرت صحة اعتقاد الأستاذ واعتقادنا في هذا في مرض
موته حين قبضت الحكومة الحميدية العثمانية في بيروت على الحاج محيي الدين
حمادة عند عودته من مصر؛ لأنه كان ضيفًا له وكانت بنت أخيه زوجًا له،
وأخذت أوراقه وحبسته على وجاهته وحسن سيرته وبعده عن السياسة ومذاهبها،
ثم علمنا أن الحكومة كانت ترسل العسكر بعد ذلك ليلاً لمراقبة سواحل بيروت وما
يجاورها؛ لأنه بلغها أن الأستاذ يريد النزول فيها.
وكانت هذه الحكومة قبل ذلك وبعده تصادر كل كتاب يدخل المملكة العثمانية
إذا وجد عليه أو فيه اسم محمد عبده أو اسم المنار، أو مطبعة المنار، دع اسم
صاحب المنار، وتمنع أيضا ذكر هذه الأسماء في هذه الجرائد، ويعلم قارئ المنار
في زمن عبد الحميد أنه كان ممنوعًا من ممالكه، وأن والدي مات والعسكر يحيط
بداره وكان أخي في السجن؛ لأن المنار وجد عنده، وكانت الحكومة تعاقب كل من
تعلم أنه يقرأ المنار أو يكاتب صاحبه.
والسبب في ذلك كله وسوسة جواسيس السوء للسلطان عبد الحميد بأننا نريد
إقامة خلافة قرشية في الحجاز أو غير الحجاز وكان من هؤلاء الجواسيس مصطفى
باشا كامل.
خلع السلطان عبد الحميد بعد وفاة الأستاذ الإمام فظهر ورثته من الاتحاديين
بعداء للعرب أشد خطرًا علينا مما كان من عداء عبد الحميد لنا، جئنا الآستانة
وحاولنا أن نقنعهم بحسن نية العرب ووجوب إنصافهم فلم نستطع. ثم جعلوا
صاحب هذه المجلة من أعدى أعدائهم وذنبه عندهم أنه يدعو إلى النهضة العربية،
فكان قصد الحج في هذه المدة مما يقوي سوء ظنهم، ولا يؤمن معه غدرهم، وقد
صادروا المنار في بريدهم، ومنعوا دخوله لبلادهم، كما فعل عبد الحميد لمثل ذلك
السبب، وقد صار خلفاء مصطفى كامل من زعماء الحزب الوطني وكتاب جرائده
جواسيس لهم كما كان زعيمهم جاسوسًا لعبد الحميد، ويتهموننا بما كان يتهمنا به
وفي مقدمتهم محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز شاويش، ولكننا دخلنا مع
الاتحاديين الآن في طور جديد يرجى أن تمحى فيه سعاية الجواسيس، فقد اعترفوا
بأننا نطلب حقًّا وأجابونا إلى بعضه رسميًّا ووعدوا بالباقي وعدًا مؤكدًا.
فعسى أن يتم الاتفاق، ويمحو آية الشقاق، ويكون قد ظهر لهم حسن نيتنا
وإخلاصنا نحن وسائر طلاب الإصلاح من قومنا لهذه الدولة، وحرصنا على
تعزيزها وإصلاح شأنها، وهذا ما يظهرونه الآن، وقد بلغونا أن منع المنار قد
ارتفع. ويترتب على حسن نيتهم في العرب رضاهم بعمران الحجاز، وعدم خوفهم
من زيارة طلاب الإصلاح له في النسك وغير النسك، وحينئذ نرجو أن يوفقنا الله
في العام القابل لأداء الفريضة بفضله وكرمه.
* * *
ترك ملوك المسلمين وأمرائهم الأغنياء للحج
سبق لنا في مجلدات المنار السابقة الانتقاد على سلاطين آل عثمان وملوك
إيران وغيرهم من أمراء المسلمين ترك فريضة الحج، ولكن لم يخطر في بالنا أن
أحدًا من المسلمين يقتدي بهؤلاء الملوك والسلاطين في ترك هذه الفريضة، وكذلك
الأغنياء المترفون لا يصح أن يكونوا قدوة في ذلك ولا أن يكونوا شبهة من الشبهات
على الحج.
ومن سوء الظن القبيح أن يقول مسلم: إن حَجَّ عزيز مصر الأمير عباس
الثاني كان لغرض سياسي، وأي غرض سياسي يتوقف على أدائه لمناسك الحج؟
على أن كثيرًا من الأغنياء يحجون، فإن كان غير الأغنياء أكثر حجًّا؛ فذلك لأنهم
في أنفسهم أكثر عددًا، وأقل فسقًا وترفًا، هذا ما نراه كافيًا في جواب هذه الأسئلة،
فعسى أن يراه السائل كذلك، والله الموفق.