للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاجتماع الثالث
الداء
أو: الفتور العام

في مكة المكرمة يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة سنة ١٣١٦
في الوقت المعين وهو بعد طلوع الشمس بساعة تم توارد الإخوان لمحفل
الجمعية غير أن الأستاذ الرئيس تأخر نحو نصف ساعة ثم حضر واعتذر بأنه عاقه
عن الحضور أن حضرة الشريف الأمير قد طلبه لزيارته فما وسعه إلا الإجابة باكرًا
وما كان يظن أن يسترسل بينهما الحديث فيتأخر عن الميعاد، ولكن اتفق أن
الحديث كان طويلاً.
ثم قال الأستاذ الرئيس: إننا متشوقون لتمام بحث المولى الرومي، وأمر السيد
الفراتي كاتب الجمعية فقرأ ضبط مذاكرات الاجتماع السابق حتى بلغ آخره
من عبارة المولى الرومي، وهي قوله: وعندي أن داءنا الدفين دخول ديننا تحت
ولاية العلماء الرسميين وبعبارة أخرى: ولاية الجهال المتعممين.
فحينئذ أفاض (المولى الرومي) في الكلام فقال: وهم المقربون من الأمراء
على أنهم علماء، وارتباط القضاء والإمضاء بهم فإن بعض هؤلاء المتعممين في
البلاد الإسلامية كانوا اتخذوا لأنفسهم قانونًا جعلوا فيه من الأصول ما أنتج منذ
قرنين إلى الآن أن يصير العلم منحة رسمية تعطى للجهال حتى للأميين بل
وللأطفال. ويترقى صاحبها في مراتب العلم والفضل والكمال بمجرد تقادم
السنين أو ترادف العنايات لا سيما إذا كان من زمرة الأصلاء. فإنه يكون طفلاً
في المهد وينعت رسمًا بأنه (أعلم العلماء المحققين) ، ثم يكون فطيمًا فيخاطب بأنه
(أفضل الفضلاء المدققين) ، ثم يصير مراهقًا فيعطى لقب (أقضى قضاة المسلمين
معدن الفضل واليقين، رافع أعلام الشريعة والدين، وارث علوم الأنبياء
والمرسلين) ثم وثم حتى يبلغ الوصف (بأعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء
المتورعين، ينبوع الفضل واليقين) .
ولا يظن ظانّ أن هذا الإطراء من الأمراء للمتعممين هو بقصد أن يقابلوهم
بالمثل بألقاب (المولى، المقدس، ذي القدرة، صاحب العظمة والجلالة، المنزه
عن النظير والمثال. واهب الحياة، ظل الله، مهبط الإلهامات، سلطان السلاطين،
مالك رقاب العالمين، ولي نعمة الثقلين، ملجأ أهل الخافقين، إلى غير ذلك من
مصارع الكبرياء والمهالك) .
هذا ولا ريب أن كثيرًا من هؤلاء العلماء المتبحرين لا يحسنون قراءة نعوتهم
المزورة كما أن بعض أولئك المتورعين رافعي أعلام الشريعة والدين يحاربون الله
جهارًا ويستحقون ما يستحقون من الله وملائكته والمؤمنين.
ويكفي حجة عليهم بذلك تميزهم جميعًا بلباس عروسي مزركش بكثير من
الفضة والذهب مما هو حرام في الإسلام، وقد اقتبسوا هذا اللباس من كهنة الروم
الذين يلبسون القباء والفلنسوات المذهبة عند إقامة شعائرهم وفي احتفالاتهم الرسمية
وكم من خطيب يستوي على المنبر ويقول: اتقوا الله. وعلى رأسه وصدره ومنكبيه
هذا اللباس المنكر (مرحى) .
ثم إن هؤلاء المتعممين ما كفاهم هذا القانون فألحقوه بقانون آخر جعلوا فيه
التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخدم الدينية كالعروض تباع
وتشترى وتوهب وتورث وما ينحل منها نادرًا عن غير وارث يبيعها القضاة لمن
يزيد في ثمنها أو يتكرمون بها على المتملقين، وبهذا القانون انحصرت الخدم
الدينية في الجهلاء والمنافقين. ثم لما شكلت بعض الحكومات مجالس إدارية لم
يرض المتعممون حتى جعلوا فيها قاضي المسلمين، وكذلك مفتي المؤمنين فهما في
كل بلد عضوان في مجالس الإدارة يحكمان بأشياء كثيرة مما يصادم الشرع كالربا
والضريبة على الخمور والرسوم العرفية وغيرها مما كان الأليق والأنسب بالإسلامية
أن يبقى العلماء بعيدين عنه، كما أن القسيس بل الشَّماس لا يحضر مجلسًا يعقد فيه
زواج أو تفريق مدينان ولا يشهد في صك دين داخله ربًا فضلاً عن أن يقضي أو
يمضي بصفة رسمية كهنوتية أمثال ذلك من الأعمال التي تصادم دين النصرانية.
وكذلك لما وضعت المحاكم العرفية (الأهلية) تهافت المتعممون على جعل
قاضي المسلمين رئيسًا للمحكمة العرفية التي تحكم بما لم ينزل الله وبما يتبرأ الدين
الحنيف منه من نحو ربًا صريح، ومن إبطال حدود الله التي صرح بها القرآن أو
باستبدال عقوبات سياسية أو تغريمات مالية بها.
ومن نحو معاقبة العباد بمجرد الظن والرأي وشهادة الواحد وشهادة الفاسق
وشهادة العاهرة المجاهرة بما لا يلائم الشرع قطعًا، ومن نحو تنفيذ كل حكم
عرفي حق أو باطل بدون نظر فيه، ومن تحصيل ضرائب وغرامات، ومن
توقيف الأحكام الشرعية على استيفاء الرسوم من الأخصام وأموال الأيتام.
ومن أهم دسائس المتعممين أنهم ينفثون في صدور الأمراء لزوم الاستمرار
على الاستقلال في الرأي وإن كان مضرًّا، ومعاداة الشورى وإن كانت سنة متبعة
والمحافظة على الحالة الجارية وإن كانت سيئة ويلقون عليهم بأن مشاركة الأمة في
تدمير شؤونها وإطلاق حرية الانتقاد لها يخل بنفوذ الأمراء ويخالف السياسة
الشرعية ويلقنونهم حججًا واهنة، ولولا أن أمامها جهل الأمة ووراءها سطوة
الإمارة لما تحركت بها شفتان ولا تردد في ردها إنسان.
والأمر الأمرّ أن أولئك الأمراء يقتبسون من هذه الحجج ما يتسلحون به في
مقابلة من يعترض على سياستهم من الدول الأجنبية بقولهم: إن قواعد الدين
الإسلامي لا تلائم أصول الشورى ولا تقبل النظام والترقيات المدنية، وإنهم
مغلوبون على أمرهم ومضطرون لرعاية دين رعاياهم ومجاراة ميل الفكر العام.
وبهذه القوانين استأثر الجهلاء الفاسقون بمزايا العلماء العاملين واغتصبوا
أرزاقهم من بيت المال ومن أوقاف الأسلاف، فبالضرورة قلَّت الرغبات في
تحصيل العلوم. وتثبطت الهمم وصار طالب العلم يضطر للاكتفاء ببلغة منه ويشتغل
بالاحتراف للارتزاق، وهكذا فسد العلم وقل أهله فاختلت التربية الدينية في
الأمة فوقعت في الفتور وعمت فيها الشرور.
أجاب الرياضي الكردي: إن هذا الداء خاص ببعض الشعوب الإسلامية
فلا يصاغ سببًا للفتور العام الذي نبحث فيه ونتساءل عنه , وعندي أن السبب العام
هو أن علماءنا كانوا اقتصروا على العلوم الدينية وبعض الرياضيات وأهملوا باقي
العلوم الرياضية والطبيعية التي كانت إذ ذاك ليست بذات بالٍ ولا تفيد سوى الجمال
والكمال ففقد أهلها من بين المسلمين، واندرست كتبها وانقطعت علاقتها فصارت
منفورًا منها على حكم (المرء عدو ما جهل) بل صار المتطلع إليها منهم يفسق
ويرمى بالزيغ والزندقة، على حين أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب وعلى مر
القرون ترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في جميع الشئون المادية والأدبية حتى
صارت كالشمس لا حياة لذي حياة إلا بنورها فأصبح المسلمون مع شاسع بعدهم عنا
محتاجين إليها لمجاراة جيرانهم احتياجًا يعم الجزيئات والكليات من تربية الطفل إلى
سياسة الممالك ومن استنبات الأرض إلى استمطار السماء، ومن عمل الإبرة
والقوارير إلى عمل المدافع والبوارج، ومن استخدام اليد والحمار إلى استخدام البرق
والبخار.
ولا شك أن المسلمين أصبحوا بعد الاكتشافات الجديدة يستفيدون من العلوم
الطبيعية والحكمية فوائد عظمية جدًّا بالنظر إلى كشفها بعض أسرار كتاب الله وبالغ
الحكمة المطوية فيه مما كان مستورًا إلى الآن وقد خبط فيه المفسرون خَبْط
عشواء.
بل أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية التي كادت تجعل الغربيين أدرى
منا حتى بمباني ديننا كاستدلالهم بالمقايسة على أن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام
أفضل العالمين عقلاً وأخلاقًا؟ وكإثباتهم بالمقابلة أن ديننا أسمى الديانات حكمة
ومزية.
وعندي أنه لولا هذا القصور، لما وقع المسلمون في هذا الفتور. والأمل بعناية الله أنه بعد زمان قصير أو طويل لا بد أن يلتفتوا إلى هذه العلوم النافعة
فيستعيدوا نشأتهم بل يجلبوا إلى دينهم العالم المتمدن؛ لأن نور المعارف على
قدر إبعاده العقلاء عن النصرانية وأمثالها يقربهم من الإسلامية؛ لأن الدين المملوء
بالخرافات والعقل المستنير لا يجتمعان في دماغ واحد. (مرحى)
ثم إن تبعة هذا التقصير وإن كانت تلحق علماء الأمة المتقدمين إلا أن علماءنا
المتأخرين أكثر قصورًا؛ لأنهم في زمان ظهرت فيه فوائد هذه العلوم ولم يحصل
فيهم ميل لاقتباسها بل نراهم مقتصرين على تدريس فنون اللغة والفقه فقط أو
بعلاوة شيء من المنطق إتمامًا للعقائد وشيء من الحساب إكمالاً للفرائض
والمواريث قلما يفيد.
وكذلك نرى وعاظنا مقتصرين على البحث في النوافل والقربات المزيدة في
الدين ورواية الحكايات الإسرائيليات، ومثلهم المرشدون أهل الطرائق فهم
مقتصرون على حكايات نوادر الزهاد من صحيح وموضوع ورواية كرامات الأنجاب
والنقباء والأبدال وعلى ضبط وزن التمايل وأصول الإنشاد. ولا ننسى خطباءنا
واقتصارهم على تكرار عبارات في النعت والدعاء للغزاة والمجاهدين وتعداد
فضائل العبادات والشهور والمواسم، والحاصل أن تقصيرات العلماء الأقدمين
واقتصارات المتأخرين وتباعد المسلمين إلى الآن عن العلوم النافعة الحيوية أحط من
كثير من الأمم، ولا شك أنه إذا تمادى تباعُدهم هذا خمسين عامًا آخرين تبعد النسبة
بينهم وبين جيرانهم كبعدها ما بين الإنسان وباقي أنواع الحيوانات فبناءً
عليه يكون ناموس الارتقاء هو المسبب لهذا الفتور كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩) .
فأجابه الكامل الإسكندري: إن هذا سبب من الأسباب ولا يكفي وحده لحل
الإشكال؛ لأن فقد العلوم الحكمية والطبيعية لا يصلح سببًا لفقد الإحساس المِليّ
والأخلاق العالية؛ لأنها توجد في أعرق الأمم جهالة، وإنما سبب فتور حياتنا الأدبية
هو يأسنا من المباراة وذلك أننا كنا علماء راشدين وكان جيراننا متأخرين عنا فغرنا
البقاء فنمنا واجتهدوا فلحقونا , ولبثنا نيامًا فاجتازوا وسبقونا، وتركونا وراء، وطال
نومنا فبعُد الشوط حتى صار ما بعد ورائنا وراء، فصغرت نفوسنا وفترت همتنا
وضعف إحساسنا فيئسنا من اللحاق والمجاورة، وخرجنا من ميدان المنافسة
والمباراة وألسنتنا تفيض بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن
مَّحِيصٍ} (إبراهيم: ٢١) فعدنا إلى كهف النوم مستسلمين للقضاء , نطلب الفرج
بمجرد التمني والدعاء ذاهلين على أن الله تعالى جلت حكمته رتب هذه الحياة لدنيا
على أسباب ظاهرية ولم يشأ أن يجعلها كالآخرة عالم أقدار، فهذا اليأس هو سبب
الفتور فنسأل الله تعالى اللطف في المقدور.
أجابه العارف التاتاري: أن هذه شكاية حال ولا تفي بالجواب؛ لأنه ما
السبب في أن هذا النوم غشي المسلمين ولم يزل يغشاهم دون كثير غيرهم من الأمم
التي انتبهت وسارت ولحقت ظعن الأحياء، وما المسلمون بالأبعدين المتقطعين
كأهل الصين ولا هم بالمتوحشين العريقين كأهل أمريكا الأصليين.
ثم قال: أنا أرى أن عارضنا فقدنا السراة والهداة فلا أمير عام حازم مُطاع
ليسوق الأمة طوعًا أو كرهًا إلى الرشاد، ولا حكيم معترف له بالمزيد والإخلاص
لتنقاد إليه الأمراء والناس، ولا تربية متحدة المقصد ينتج منها رأي عام، لا يطرقه
تخاذل وانقسام، ولا جمعيات منتظمة تسعى بالخير، وتتابع السير، ولذلك حل فينا
الفتور وإلى الله ترجع الأمور.
أجابه الفقية الأفغاني: إن ما وصفته من أمير وحكيم لا يوجدان في الأمم
المنحطة إلا اتفاقًا، وأما الرأي العام والجمعيات فلا يفقدان إلا بسبب فقد الإحساس
وهذا ما نتساءل عنه. وذكر أن الداء العام فيما يراه هو الفقر الآخذ بالزمام؛ لأن
الفقر قائد كل شرور ورائد كل نحس فمنه جهلنا ومنه فساد أخلاقنا بل منه تشتُّت آرائنا
حتى في ديننا، ومنه فقد إحساسنا ومنه كل ما نحن فيه , أو نتوقع أننا سنوافيه: فهذه
فطرتنا لا ننقص فيها عن غيرنا وعددنا كثير وبلادنا متواصلة وأرضنا خصبة
ومعادننا غنية وشرعنا قويم وفخارنا قديم فلا ينقصنا عن الأمم الحية غير القوة
المالية التي أصبحت لا تحصل إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تحصل إلا بالمال
الطائل فوقعنا في مشكل الدور، وعسى أن نهتدي لفكه سبيلاً وإلا فيحيق بنا ناموس
فناء الضعيف في القوي وفناء الجاهل في العالم.
ومن أعظم أسباب فقر الأمة أن شريعتنا مبنية على أن في أموال الأغنياء حقًّا
معلومًا للبائس والمحروم فيؤخذ من الأغنياء ويوزع على الفقراء، وهذه الحكومات
الإسلامية قد قلبت الموضوع فصارت تجبي الأموال من الفقراء والمساكين وتبذلها
للأغنياء وتحابي بها المسرفين والسفهاء.
((يتبع بمقال تالٍ))