(المكتوب ٤٨) من أراسم إلى هيلانة في ١٥ أغسطس سنة ١٨٥. لو أني عُهِدَ إليّ ببناء مدرسة كبرى للناشئين في أمة من الأمم العظيمة، لبذلت وسعي في أن أبث في جدرانها من العلم روحًا وعقلاً. ذلك لأن القائمين على التعليم لم يزالوا في سبات من الغفلة عما كان لمعاهدة التربية من التأثير في خيال المتعلمين خصوصًا في سنيهم الأولى، ولقد كان القدماء أنفذ منا إدراكًا في سر التعليم بالمشاهدة، وجروا في ذلك على نواميس الفطرة الإنسانية الحقة. ليست المعابد والبِيع عند جميع الأمم إلا مدارس اتخذها الكهنة والقسيسون في الأديان القديمة والحديثة صحفًا لمجموع عقائدهم ومذاهبهم، بما وجدوه لذلك من الوسائل الكبرى في فن العمارة، ونحت التماثيل، وصناعة التصوير، وبقاء العبادات إلى الآن يدلنا على درجة انتقاش الرموز والصور الاعتقادية في أذهان العامة؛ فإن مخترعات الخيال التي يبرزها الرسم للوجود الخارجي في صور فخيمة تبقى شائعة بين الناس بعد فناء الفكرة التي أنتجتها بعدة قرون، يشهد لذلك بقاء مظاهر المعتقدات الجمادية، مع أن الأمم قد كفت من عهد بعيد عن توهم أنها لا تزال على عادتها في عبادتها. إذا كنا قد رفعنا هياكل للآلهة الباطلة كالحرب والروع والظفر بالأعداء وجميع بلايا الإنسان ومصائبه، فما لنا لا نرفع للعلم هيكلاً؟ وأي كلفة في هذا العمل على أمة عظيمة؟ لا يقال: إن أول عائق دونه هو قلة المال وغلاء المواد اللازمة لإقامته؛ لأني أرى أننا في غنى عن الذهب والمرمر والخشب النفيس، وفي مقدورنا أن لا نتعرض في إنشائه لشيء من صنوبر لبنان، ولا من نفائس المعادن التي تم بها العظم والجلال لهيكل سليمان؛ فإن في الجبس، بل في الورق المقوى غناء عن ذلك كله في سبيل التربية، إذا وجد له أناس صُنُع اليدين يهيئونه ويستخدمونه في الدلالة على المعاني، وقد أصبح اليوم من الميسور تحصيل أهم مثل الأشياء الخلقية والصناعية بنفقات زهيدة، وذلك بفضل ما اخترع من إفراغ صب المواد في القواليب، وإن فيما يوجد بمعاهد التمثيل عندنا من تماثيل الزينة وصورها لبرهانًا ناطقًا بأن في قدرة المصور أن ينقل الرائي إلى رومة [٢] وأثينا [٣] ومنفيس [٤] ببعض جولات يتحرك بها قلمه، وبشيء من المغالطات البصرية؛ لأنه متى أتقن تمثيل ما يمثله من الأشياء في شكله ولونه، كاد أن يُحْدِث في الخيال ما يُحْدِثه أصله من الأثر، فلا عبرة بالمادة، وبما يُتخذ من الوسائل لبث الروح فيها ما دامت الصورة تنبه المشاعر وتؤدي إلى العقل معنى صحيحًا لما يُراد تعريفه إياه. كل دين إذا استكنهناه رأيناه يرجع إلى فهم ما ذهب إليه أربابه من الآراء في خلق العالم ونظامه؛ لكن فهم هذه الآراء هو في الغالب غاية في الصعوبة، وإنه لولا الاستعانة بالرموز في إدراكها لنبت عنها عقول الكافة نبوًّا كليًّا، وأما الهيكل الذي أقصد رفعه للعلم، فهو معرض تتجلى فيه الحوادث على الناشئين، بل هو تاريخ حي محسوس للعالم الذي يعيشون فيه مواده كلها موجودة؛ لكنها متفرقة فيما عندنا من المتاحف والمكتبات والمجموعات، ونحن عنها غافلون، فليس من الحق أن يُكَلَّف اليافع بالتماسها في أماكنها؛ لأن ما في هذه الأماكن من العظام النخرة، والحيوانات المصبرة، وجذاذ الأوثان المكسرة؛ إنما يفيد العلماء، وأما الأحداث فاللازم لإفادتهم إيجاد مشهد تجتمع لهم فيه المُثل الحية الكبرى للإنسان وغيره من المخلوقات على صورة جاذبة لنفوسهم. هذه معارضنا العامة التي تقام في باريس ولوندرة قد تعلم منها الجهلة (وهم في كل أمة سوادها الأعظم) من مناشئ الصناعة وتوزع الأجيال على سطح الأرض، وأحوال الترقي في الأمم المختلفة أكثر مما يتعلمونه من جميع الكتب التي وضعت في التدبير السياسي وتقويم البلدان، فكيف إذا عزَّزت مشاهدة الأشياء، وكملت بتعليم خاص؟ تلك المعارض لا يتسنى إقامتها مسانهة، وهي فوق ذلك لا تحتوي إلا على طائفة من الوقائع والأمور المخصوصة، وإذا كنت قد نوهت بها؛ فإنما قصدت بذلك أن أبين لك ما يعود على الأحداث من الفائدة، إذا أقيم لهم معهد آخر للعلوم تمثل لهم فيه صورها. أصبح علم الكرة الأرضية خلوًا مما يستميل نفوس المتعلمين مورثًا للسآمة والضجر بمين ما رسمناه له من الخرائط وألفناه فيه من الكتب، أفلا يكون الحال على خلاف ذلك لو أن هذه الخرائط استعيضت بقماش تصور عليه الأرض وما فيها تصويرًا إذا جال النور في أرجائه ضاعف مغالطة بصر الطفل، فخيَّل له أنه على الجانب الآخر للمحيط مثلاً؟ وليس يلزم لذلك إلا مصور صادق في عزيمته باذل نفسه من أجل البلوغ إلى غايته. قام بفكر أمريكي شجاع اسمه جون بانفارد يومًا من الأيام أن يصور مجرى نهر المسيسبي [٥] ، فركبه وحده في قارب مكشوف مصرًّا على إنفاذ فكره، غير مبالٍ بما كان يعترضه من الصعوبات الكثيرة، ويعتريه من الآلام الشديدة، فيبست يداه وخشنتا بسبب استعمال المجذاف، واحترق جلده بحر الشمس، فصار عما قليل كواحد من هنود أمريكا في لونه، وقضى أسابيع كاملة، بل شهورًا لم يصادف فيها إنسانًا يكلمه، ولم يكن له رفيق سوى قرينته، بلى كانت هذه الرفيقة تتكلم بأعلى صوت كلامًا حقًّا لا خطأ فيه يُفْهِم بعض طيور النهر والأجمة، وكان يخرج في كل مساء من قاربه إلى البر ويوقد نارًا، فيشوي عليها ما يصطاده، ثم يرقد ملتفًّا في غطائه مكفئًا فوقه القارب؛ ليكون له جُنة دون الحيوانات الوحشية، وسقفًا يقيه طل الليل، وكان عند شروق الشمس يهب من نومه ويمضي عامة يومه في اجتياز النهر من شاطئ إلى آخر على التوالي طلبًا لمنظر جديد، فكان يسترعي طرفه في مكان خليج عميق، وفي آخر أسراب من الطيور، وتستلفته في ثالث جزيرة صغيرة علتها خضرة نضرة، وهو لا يفتر عن تسويد ما يلاحظه فلم يغادر شيئًا مما يستحق التصوير إلا رسمه خطفًا واختلاسًا، ولما فرغ من تقييد إشاراته وملاحظاته اتخذ له في المدينة المسماة لويسفيل بولاية كنتوكي [٦] بيتًا من الخشب، حيث أنشأ يصور ما قيده على القماش وما كان أطوله، فقد بلغ ذرعه ثلاثة أميال. لا شك في أن ذلك المصور كان أهلاً لأن يأتي بطرفة من الطرف، وإن كان رسم مناظر المسيسبي ليس في الحقيقة إلا حكاية صادقة لسفره خطها قلم الرسم خطًّا بطيئًا، ونحن على كل حال نرجو الله سبحانه أن يقيض لنا من يحتذي مثال جون بانفارد من المصورين، وأن يهبهم من الإقدام والإخلاص للعمل ما وهبه؛ فإنه لو تحقق ذلك لأصبحنا بسطح الكرة التي نسكنها أعلم مما نحن الآن بكثير. وليت شعري: أي مانع يحول دون إنفاذ عمل كهذا يكون تاريخًا للأرض ومن يقطنها من الأمم؟ ربما قيل: إن ذلك هو ما يقتضيه من إنفاق المال الكثير. فأقول: هذا مُسَلَّم؛ ولكنا ننفق في تبديل سلاح بآخر، أو طريقة من طرق القتال بغيرها أو في بناء بارجة، أو إقامة حكومة جديدة متوسطة مدة بقائها ثمانية عشر شهرًا على الأكثر - أضعاف ما تقتضيه منا طريقة التربية المؤسَّسة على نواميس الفطرة الإنسانية. لا شأن لنا في ذلك، وعلينا التسليم والامتثال؛ فإن هيكلاً كالذي وصفته تتجلى فيه الوقائع والمعاني إنما هو صورة من صور الخيال لا وجود له في الخارج ولن يوجد بلا شك، فيجب علينا إذن بناؤه في المستقبل في ذهن (إميل) بمواد أخرى اهـ. (المنار) إن ما قاله المؤلف في الأديان غير مُسَلَّم على إطلاقه، ويظهر أنه لم يطلع على الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة، والمرشد إلى سنن الفطرة في التربية والتعليم، وإن كان يستنير بأشعة شمسه من حيث لا يشعر. ((يتبع بمقال تالٍ))