للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحفيظ أبو السعود


الشيخ محمد عبده [*]
(٢)

عهد الطفولة
في عام ١٢٦٦ الهجري، الموافق ١٨٤٩ الميلادي، نزل إلى الوجود مولود
جديد، ارتفعت صيحاته وصرخاته معلنة قدومه إلى عالم الدنيا، ومبشرة باندراجه
في صفوف الناس.
ونفذت هذه الصيحات إلى مسامع الناس من أهل القرية فتناقلوا الخبر، وجاء
الريفيون من هنا وهناك يهنئون الشيخ الوقور (عبده بن حسن خير الله) بهذا
المولود الجديد، الذي أنار هذه القرية الصغيرة من قرى مديرية الغربية - كما
يقولون - ويتمنون له من كل قلوبهم السعادة والهناءة؛ فهم يحبون هذا الوالد الكريم،
الذي لا يعرف كرمه البخل، ولا يشوبه الحرص والشح، وكم كان تفاؤلهم عظيمًا
عندما علموا أن اسمه (محمد) ؛ فهذا هو الاسم الحبيب لدى كل مسلم، والعزيز عند
كل مؤمن، فخير الأسماء ما عُبد وحُمد.
وامتلأت نفس الشيخ غبطة وهناءة وسرورًا، وراح يدعو الله أن ينظر إليه
ويوفق وليده إلى خير السبيل وأقوم الطرق، وأن يجعل هذا الرضيع سيفًا من
سيوفه المصلتة، ووليًّا من أوليائه المقربين، ناصراً للحق وأهله، خاذلاً للباطل
وأعوانه.
وذكر حينذاك كيف خرج هاربًا من قريته فرارًا من ظلم الحكام الأتراك
واستبدادهم في مديرية البحيرة أواخر حكم محمد علي باشا الكبير، فعلت وجهه
كهومة واكفهرارًا، وأنكر نفسه؛ إذ أنه تركي الأصل، نزلت أسرته بأرض
البحيرة واستوطنتها حتى انطبعت بطابع الفلاحين المصريين، وأصبحت وكأنها
منهم الجزء الذي لا يتجزأ، والصنو الذي لا يختلف عن صنوه، فكيف إذن يناله
الظلم ممن يمت إليهم بصلة، ويرتبط بهم بوشيجة؟ هذا لعمر الله غريب وعجيب!
ولكنه سرعان ما استبشر وانفرجت أسارير وجهه؛ إذ تذكر حرصه الشديد
على أن يكون له نسل قوي سليم، وذرية صالحة تحمل اسمه مع الزمان، وولد
يخلد اسمه في سجل الخالدين، ويكون له نعم الخلف ونعم الذكرى، فتمنى لو
اتصل حبله بفتاة لها من المزايا الجميلة والصفات الحميدة ما يكون خليقًا أن ينحدر
إلى ذلك المولود الجديد الذي ينحدر من أصلابه.
(يتبع)
... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ أبو السعود