للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

الشذرة التاسعة من جريدة الدكتور أراسم [١]
تعليم الأطفال اليونانية واللاتينية وإقراؤهم كتبهما
تناظرت مع هيلانة غير مرة في ضرورة تعليم (أميل) تينك اللغتين وإقرائه
ما ألف فيهما من الكتب ولست ذاكرًا لك من هذه المناظرات إلا ملخصها فأقول:
الواجب أن يربى كل طفل تربية من ينبغي أن يكون من كيان الرجال فذلك
هو الوسيلة التي يفضل بها عامة الناس ويمتاز عنهم في مستقبله، ولهذا كان حقًّا
على المربي أن يعرف طبعه ويبحث في دروب ميله ويَخْبُر أنواع استعداده العقلي,
ولما كان الفضل والامتياز يحصلان في هذه الدنيا بكيفيات مختلفة وينالان بطرق
شتى كان أول فرض عليه أن يبحث في هذه الطرق عما يلائم طبعه ويناسب
استعداده.
فالذي أعيبه في طريقة المربين عندنا هو إغفال ما للناشئين من القوى
وضروب الاستعداد الذاتية وعدم اعتبارها في شيء من التربية، ذلك أنك ترى بعض
الناشئين مثلاً قد ولد رحالة ليضرب في الأرض ويجوب آفاقها أخص حاجة له
فيما خلق لأجله هي معرفة اللغات الحية ليتفاهم بها مع الأجانب في بلادهم فيبدأ
المربون بتعليمه لغتين مهملتين انقطع التخاطب بهما من على وجه الأرض ,
وترى آخر خلق ميالاً إلى معرفة علم القوى المحركة وقوانين التوازن (الميخانيقا)
يلقون به في بحر من الكتب ما له من قرار, وتجد ثالثًا أعد للتجارة، ورابعًا سُخّر
للزراعة لا يراعي ما لكل منهما من الميل إلى ما أعد له، بل يتبع في حقهما ما
قضت به العادة وجرى عليه العرف وهو أنه لا بد من يريد الاشتهار في هذه الدنيا
من سجنه في المدرسة ثمانِ سنين.
كم رأينا من متعلمي اللاتينية واليونانية من يقضي عليهم بأن لا يستعلموهما
في حياتهم؛ لأنهم متى تخرجوا من المدارس واشتغلوا بمصالحهم قلَّ وايم الحق أن
يخطر ببالهم تصفح كتب فرجيل [٢] أو ديوان عمير [٣] والنظر في صحفهما البالية التي
قضوا في مطالعتها كثيرًا من ساعات التعب والسآمة ولست أقصد بقولي هذا تجريد
أي معرفة من معارف العقل كائنة ما كانت من الفائدة مطلقًا ولكن لا حرج علي أن
تربيت في أن ما يخسره كثير من التلامذة من زمنهم في تعلم تينك اللغتين لا
يساويه ما يعود عليهم من الفوائد بتعلمها.
أنا أعلم كل ما للمنتصر لهما من وجود الاحتجاج على ضرورة تعليمهما فله
أن يقول: إن معرفتهما حاسة سادسة لنا ندرك بواستطها دقائق آداب لغتنا وأنه لا
يسع لأحد من الناس إنكار ما كان لمطالعة الكتب القديمة المؤلفة بهما من التأثير
الماثل في عقول الناشئين الذين تغذوا بلبان معارف الأقدمين حق التغذية وأن مطالعة
هذه الكتب تخلصنا من شواغل وقتنا المادية وتعارض عصرنا الذي صارت فيه
الناس تمحو درجات التفاضل بينهم واشتغل أهلهم بالحقائق الثابتة دون غيرها
كعصور الأبطال، وأفاد من مخترعات الخيال وتستر مواضع الضعف فينا بحجاب
الجمال الظاهر بدون أن تغير من طبيعتنا شيئًا، ثم إن بُعْدَ أهل تلك العصور عنا
ومباينتهم لنا في الأخلاق مما يساعدنا أيضًا على أن نبصر من خلال كتبهم الشعرية
ضياء منتهى الكمال المطلوب.
وفوق ذلك فإن هذه الكتب حافلة بالأناشيد الوطنية التي كان من آثارها ما كان
في عهد الجمهورية الجميل من احتقار الملوك وجر ذيل الخيلاء عليهم فلقد كفت
صحة هبت من رومة أو من أثينا في إثارة بغض السلطان المطلق بقلوبنا في
القرن الثامن عشر فإن حكماء هذا القرن وزعماء الفتنة الفرنسية فيه قد استمدوا مما
دعوه من الكتب المدرسية أصلح الصور لإيقاظ العقول وبث روح الحياة السياسية
في النفوس، وكان لخيالات الغابرين في ذلك الجهاد الذي قام في سبيل الحق من
البلاء ما كان للأحياء أنفسهم فلا تقل لابني غرافوس [٤] وبروتوس [٥] وقالون
أوتيفا [٦] أنهم قد ماتوا بل هم أحياء يعينوننا على كفاحنا ويعاضدوننا في جهادنا
ويسمعوننا من أصواتهم ويشهدوننا من أساهم ما يقوي عزيمتنا على السعي وراء
الحرية التي هي غاية النفوس الأبية.
لا أنازع في أن معرفة اليونانية واللاتينية قد تكون من الرياضيات النفسية
المفيدة ولكني أقول: إن لرياضة النفس وتربية العقل طُرقًا شتّى وإنّ من الظلم
الفاحش قصر معنى التعليم على فرع واحد من العلوم فقد يكون الإنسان عالمًا يشار
إليه بالبَنان، وخطيبًا باهر البيان وسياسيًّا حصيف الجنان (وفي أمريكا ما يشهد
لصحة ذلك) وهو لم يقرأ في حياته كتب أرسطو [٧] ولا ديموستين [٨] ولا سيسرون [٩]
باللغة التي ألفت بها , ذلك أن مراقبته بنفسه للأمور ومعاملته للناس واختلاطه
بهم ودراسته لآداب لغته واستعداده الفطري كثيرًا ما تغنيه عن الزخارف المدرسية
فرأْيي هو أنّ الأحوال التي تَحْتَفُّ بالطفل وما يكون فيه من القوى والملكات الذاتية
هي الواجب التعويل عليها في تحديد الطريقة التي ينبغي سلوكها في تربيته، فإنّ
طرق التعليم إنما أُجِدَتْ للأحداث ولم توجد الأحداث لها.
لمَّا أعلمْ حق العلم ضروب استعداد (أميل) ولا حالة عقله حتى أحكم على
أليق أنواع التعليم به وأشدها ملائمة لطبعه والذي أتمناه له هو أن لا يكون بعيدًا عن
العلوم ولا عن آداب اللغة ولست أرى من وجوه الاعتراض على الجمع بين هذين
النوعين من المعارف سوى ما يقتضيه تعلم اليونانية واللاتينية من الزمن، فإن
إنفاق سبع سنين أو ثمانٍ من العمر في تحصيل لغتين مهملتين تحصيلاً في غاية
النقص غالبًا هو إسراف كبير في عصر لا يحصل الإنسان فيه متوسط المعارف
الضرورية إلا بإنفاق معظم حياته، وإني باحث الآن فيما إذا كانت إضاعة ذلك
الزمن الطويل في تحصيلها لازمة لطبيعة الصعوبات التي يصادفها المتعلم فيه أو أنها
ليست من لوازمها وإن من الميسور التغيير فيها والتقليل منها.
أول سبب فيما أرى لطول مدة تعلم هاتين اللغتين هو إفراط المعلمين في
تعجيل تعليمهما للأطفال؛ لأنهم يبدأونهم به قبل أن يكونوا تعلموا أو راقبوا شيئًا
بأنفسهم فتراهم لجهلهم كيفية صوغ الألفاظ وتركيب الأساليب التي هي قوالب
المعاني لا يكادون يتمتمون بلغتهم نفسها مضبوطة ولحبسهم بين جدران المدرسة من
نعومة أظافرهم اعتادوا اعتبارها سجنًا تتعاقب عليه الأجيال الناشئة تكفيرًا لسيئة
جهل آبائهم الأولين فهم لا يعرفون شيئًا من الكون، وقد حالت المدرسة بينه وبين
المحابّ البيتية والجواذب الأهلية وهي التي كانت تحبب العمل إليهم وتشعر قلوبهم
قدره فأصبحوا لا تصلهم حرارتها إلا من بعيد جدًّا ففي أول عمل لهم يمرنون به
قواهم الناشئة تفاجئهم ألفاظ وحشية وصيغ نحوية وتراكيب مجهولة فيتصيدون اتفاقًا
بأيديهم العسراء من محابرهم الكدراء ضروبًا من مخالفة القياس وأنواعًا من ضعف
التأليف تجري بها أقلامهم , ولا تدركها أفهامهم , فَرُحْمَى لهم من حيارى ذاهلين لا
ينفعهم تعاقب التمارين ولا تتابع الأمثال فليس تكرار الأغلاط والخطئآت الواحدة في
تعلم لغة مجهولة هو الوسيلة إلى إصلاحها.
أنا أحب أن يرى ولدي قبل تعلم اللاتينية شيئًا من العالم وأن ينفتق ذهنه
باحتكاكه بالصناعة ودراسته تاريخ الموجودات، فإن كل واقعة روقبت تولِّدُ في
نفس مراقبها لذة وتنمي فيه الحاجة إلى المعرفة فإذا حصل له بكسبه بعض معانٍ
بينة صار بهذه الواسطة أحسن استعدادًا لفهم ما يتلقاه عن غيره من المعاني ولو ظهرت
في صيغ مهمّة من الألفاظ، ثم إن من أسباب طول المدة التي تقضى في تعلم
اليونانية واللاتينية على ما أرى أن المربين يعلمونهما للأطفال قبل أن يطَّلعوا على
شيء من أحوال الرومان واليونان والإنسان لا يحسن تعلم لغة قوم إلا في بلادهم،
ومن أجل ذلك سأَهْتَمَّ عند تعليمهما (أميل) بأن أجعل له من آثار أهلهما بلادًا
يتعلمهما فيها , وفي هذا المقام تظهر فائدة إنشاء معاهد التعليم التي من قبيل القصر
البلوري، نعم إني على يقين من أن مشاهدة ما يكون في مثل هذه المعاهد من
التماثيل والصور، ومثل المعابد والمباني الأثرية العامة لا تعين التلميذ على فهم
شعر عمير وفرجيل، ولكن اليونانية واللاتينية إذا اقترن تعليمهما بتعليم تاريخ
قومهما وما يشهد لهم من دلائل التقدم القديم لا تبقيان لغتين مندثرتين اندثارًا تامًّا كما
لو عُلِّمَتا مجردتين.
ذلك أن لفنون الرسم من التأثير في نفوس الناشئين ما هو فوق المظنون بها
كثيرًا بسبب إجالتها للعقل في آثار الغابرين وسموها بالنفس في أعمال الماضيين
ولأن سن الإيقاع هو السن الذي يسهل فيه اندماج اليافع في شخص غيره لسبب
سهل الإدراك وهو أن معنى الاستقلال الذاتي لا يظهر في هذا الطور من الحياة
فبكثرة هذا النوع من المعيشة مع اليونان والرومان فيما بقي من آثارهم ينتهي
التلميذ بأن يهتم بأخلاقهم وعاداتهم وشئونهم قبل أن يعرف لغتهم فتراه يتابع بعقله
الأسطول اللاتيني في سلامين [١٠] ويشهد خلف بومباي [١١] واقعة فرسالا [١٢] , ولا
يسبقن إلى خاطرك أن هذا الوجود الفكري فيما غير من الزمن ليس هو إلا وهمًا محضًا فإنه لا شيء مما كان في الماضي قد مات موتًا تامًا.
لم تجد طريقتنا في تعليم اللغتين اللَّتين نحن بصدد الكلام عنهما فإنها لا تزال
عليها مسحة من تعليم القرون الوسطى وهي التي طبعها عليها القسيسون والرهبان؛ إذ
لا تزال العقبات تقوم في سبيل دراسة آثار الأقدمين دراسة صادقة وأولها ما للدين
المسيحي من الأوهام والوساوس في آلهتهم التي تراه على قهره إياها لا يزال يعتقدانها
مضرة حتى في انهزامها أمامه فإن رجال هذا الدين مع استئثارهم على توالي القرون
باللغات القديمة واحتكارهم معرفتها كانوا يعنون في تعليمهم بإزهاق ذلك الروح الذي
ألهم الصناع ما ظهر على أيديهم من تحف الصنائع وطرفها وكانت فنون الوثنيين
وآداب لغاتهم من الغنائم التي اهتم أولئك الرجال بحفظها غير أنهم كانوا يحترسون
كل الاحتراس من إظهار آخر ما اكتشفوه من أسرارها للأحداث وكان من مصلحتهم
أن لا يزيلوا عن تلك الأسرار إلا طرفًا من حجابها؛ لأنه كان لا بد لما يعيه الخلف
من آثار السلف أن يردهم يومًا ما إلى عبادة الطبيعة وجمالها ومن أجل ذلك كان
رؤساء الدين لا يفتأون يذكرون الناشئين بأن آلهة الوثنيين آلهة باطلة لا أصل لها إلا
الكبرياء والكذب وأنه لا ينبغي النظر إليها إلا من بعيد مع الاسترشاد في ذلك بهدي
الدين المسيحي.
أنا لا أحترس كل هذا الاحتراس في تعليم (أميل) تينك اللغتين وإقراءه
كتبهما؛ إنه لا بد لمن يزاول دراسة أمر من الأمور أن يكون له فيه شيء من الاعتقاد
فما ضره لو أنه أخلص في الاشتغال بهرقل [١٣] وأعماله ومن ذا الذي ينقم منه إن قدم
قربانًًا للآلهات العفيفة [١٤] ولمنروة [١٥] الحكيمة الأبية فإن في كشف حقيقة
الأشخاص الخرافيين الذين وجدوا في خيال الأقدمين وكانت حياتهم ملائمة كل
الملائمة لخيال اليافعين وإزالة الوهم من عقول هؤلاء في شأنهم في ذلك تعجيلاً
بزعزعة عقيدتهم في النوع الإنساني , ولا يظن ظانٌّ أني أقصد بما أقول أنْ
أوقف (أميل) عند الوثنية فإني إنما أريد بهذا القول أنه لا بد لمن يريد النفوذ إلى
أسرار لغة قوم من اختلاس آلهتهم. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))