] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ ... عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*] أكتب هذه المقالة لطائفتين من المسلمين: طائفة تصوم ذاهلة عن معنى الصوم محرومة من فوائده ومزاياه، فصومها أقرب إلى العادة منه إلى العبادة، وطائفة أفرطت في الترف والتنعم، واسترسلت في الشهوات استرسالاً، فشقَّ عليها الصوم فتركته غير مبالية بالأمر الإلهي ولا ملتفتة إلى ما في هذه العبادة من المنافع الروحية والجسدية، هذه الطائفة هي التي نشأت في مهد التمدن العصريّ الشرقيّ، وأعني بهذا التمدن ما ضم ذووه إلى مفاسد التربية الشرقية كثيرًا من مفاسد التربية الغربية، فنسوا حظًّا مما ذكروا به على لسان الشرع، ولم يستبدلوا بما تركوه من أعمال الدين وآدابه وفضائله ما يقوم مقامه في قوام السعادة الدنيوية مما أفادهم العلم والاختبار فضلاً عن السعادة الأخروية، فإنه ليس لها في التربية الغربية -على ما نعتقد - نصيب، ولا نشرك مع هؤلاء من يترك الصوم من الغوغاء والتحوت، فإنهم لا يقرءون، وإذا قرءوا أو قرئ عليهم لا يفهمون، وإذا فهموا لا يبالون أنهم مخطئون أو فاسقون؛ لأنهم مستهترون ومستولغون (لا يبالون ذمًّا ولا عارًا) {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: ١٩) . أيها المتمدن الشرقي أقسم عليك بشرفك الذي تقسم به وترعاه، وهو عوني عليك من تمدنك دون سواه، ولولاه لكنت مستولغًا لا تبالي بالعار، ولا ينجع فيك الإنذار - أن تقرأ مقالتي هذه وتتدبرها حق التدبر لعلها تذكرك بأمر هو مركوز في فطرتك الزكية، ولكن أذهلتك عنه النشأة العصرية، وهو أن الصوم ركن من أركان (الشرف) الذي تحرص على الاتصاف به، لا يثبت لك الشرف الصحيح إن كنت موقنًا بالدين الذي تنتسب إليه بدونه، ولا يتم لك الشرف العرفي إن كنت غير مؤمن إلا به أو بمثله أكثف حجاب حال بينك وبين الشعور بفقد الشرف - بفقد الصوم ونحوه - هو وجود كثير ممن على شاكلتك من خلطائك وخلصائك الذين تعيش معهم، وهم من أهل المال والسلطة، مع ملاحظة أن الشرف هو ما يعده جمهور الناس شرفًا، ويحترمون صاحبه ويجلونه، ولو الظاهر دون الباطن، وهذا هو معنى الشرف عند عامة الناس ودهمائهم في جميع الأمم، وهو يقتضي أن يكون الشرف أمرًا اعتباريًّا لا حقيقة له في نفسه، فقد يعتبر قوم شيئًا من الأشياء شرفًا يتباهون به ويتنافسون فيه، وهو عند غيرهم ضعة وخسة يتقذَّر منه ويتباعد عنه، وما من طائفة من الطوائف تقيم على عمل من الأعمال إلا وهو في عرفها شرف، وله أسماء ونعوت يتمدح بها، فأصحاب السلب والنهب يرون أن عملهم من آثار الشجاعة والشهامة، وأنه أفضل أنواع الكسب وأشرفها، وعلى هذا فقس، وأما الحكماء المحققون والعلماء الراسخون من جميع الأمم فإنهم يرون أن الشرف أمر حقيقي، وأنه هو الكمال الإنساني، ويمكنني أن أعرفه بكل عمل يجلّ صاحبه ظاهرًا وباطنًا، ويحترم بحق من العقلاء والفضلاء فمن دونهم، وهؤلاء لا يجلون أحدًا ويحترمونه على عمل إلا إذا كان له أثر في نفع أمته وحفظ مصالحها والذود عن حقوقها، فقيام الإنسان بالواجب عليه لتهذيب نفسه ومصلحتها لا يُسمّى بنفسه شرفًا، وإنما هو من الوسائل المعدة والمهيئة له لنوال الشرف، والصيام من جملة هذه الوسائل، ولذلك قال تعالى في بيان حكمة إيجابه علينا: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٨٣) فإن معنى (لعلّ) في القرآن: الإعداد والتهيئة لما تدخل عليه، على ما اختاره أستاذنا مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وإليك بيان هذا في شأن الصيام: لا خلاف بين علماء الاجتماع في أن سعادة الأمة منوطة بحسن تربية أفرادها، فالسابقات إلى السعادة في هذه الحياة الدنيا من الأمم هن السابقات في العناية بالتربية كإنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، رأت هذه الأمم العزيزة أن الأمة الإنكليزية قد سبقتهن جمعاء في ميدان السيادة والسعادة، حتى إنها استولت على قريب من ثلث العالم الإنساني (٤٠٠ مليون) وأخذت أهم مغالق البحار، وقبضت على أكثر الأعصاب المعنوية للعالم المتمدن، وهي الأسلاك البرقية، وامتلكت معظم ينابيع الثروة، وأنها نالت هذا بسلاح الحكمة والتدبير لا بسلاح الإبادة والتدمير؛ لأنها أقلهن حربًا وأبعدهن عن الاستعداد له بالنسبة لما استعمرته من الأرض، رأين هذا، فحار الأكثرون في تعليله غفلة منهم عن الاستدلال بالأثر على المؤثر، وبالمعلول على العلة، واهتدى إليه بعض المحققين في علم الاجتماع وطبائع الأمم فقالوا: إن هذا السبق معلول لحسن التربية، ثم بحثوا في طرق التربية الإنكليزية، وقارنوها بالطرق المعروفة عند سائر الأمم المتمدنة، فظهر لهم صحة استدلالهم، وفصل المجمل تفصيلاً، وفي هذه التربية ألف الموسيو أدمون ديمولان كتابه (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) ومنه علم أن مدار هذه التربية على أن يكون المربى مستقلاًّ بنفسه في أمر معيشته، قادرًا على أن يعيش في كل أرض ويزاحم في شؤون الحياة كل شعب، ويقاوي من فواعل الطبيعة كل عارض، ويصابر من حوادث الزمان كل طارئ ليتمكن من بسط جناح سلطة أمته على كل أمة، ومن إعلاء مجد قومه على جميع الأقوام، هذه هي التربية المُثلى التي سبق الشعب السكسوني بها سائر الشعوب، ولا شك أنها لم تبلغ كمالها ولم تعم الشعب كله، وهي على أحسنها في الطبقات العليا من الأمة، ألم تقرأ ما نقلناه في (المنار) ٤١ الأسبق عن السياسي الإنكليزي من قوله: (هذا الجلد والصبر لا يوجد عندنا إلا في الضباط، فإنهم تربوا أحسن تربية وباقي الجيش من غوغاء الناس إذا مشى بضع ساعات يعييه الوجى والكلال، ولا يصبر عن اللحم والخمر إلا قليلاً) . وهذا لا يكون إلا بتعويد المرء نفسه على الجوع وترك الشهوات أحيانًا؛ لكيلا يتألم إذا أصابته مجاعة ويخور عزمه، وهذا هو معنى الصوم وإحدى فوائده المهمة، يقول المتمدنون: إن هذا النوع من ترويض الجسم وتأديب الشهوة لا تُنكر فائدته ولكنه يمكن أن يحصل بغير الصوم المشروع في الإسلام، ولا ريب أن هؤلاء الإنكليز ومن على شاكلتهم في التربية لا يصومون هذا الصوم، ونقول في جوابهم: إذا فرضنا أن الغرض يحصل بالصوم وبطريق آخر من الرياضة فحسبنا في ترجيح الصوم أن فيه مرضاة الله تعالى، والمثوبة الحسنة في الآخرة مع الفائدة في الدنيا، على أن حكمة الخالق لا تقاس بحكمة المخلوقين، ووضع البشر لا يداني وضع أحكم الحاكمين. وها أنا ذا أسرد ما أستحضره من فوائد الصوم؛ ليتبين للقارئ أنه لا يرغب عنه إلا مَن سفه نفسه، وقد ذكرت فائدتين منها في مطاوي الكلام، وأعيدهما مع أخواتهما بلون آخر من البيان: (الفائدة الأولى) الصحة؛ لأنه رياضة تجفف الرطوبات البدنية، وتفني المواد الرسوبية، فقد قال ابن سينا الحكيم الإسلامي: إن هذه المواد تتولد من الطعام وتكثر حتى تتولد منها أمراض يخفى سببها , وقد اكتشف بعض علماء أوربا هذه المواد من سنين قليلة (وقد كان سبقهم حكيمنا إليها ببضعة قرون) . يقول الآخذون بالظواهر أننا نعرف من أنفسنا الضعف والذبول بالصوم فكيف نُسمي الضعف صحة؟ ومن لوازم الصحة القوة , ونجيبهم بأن عاقبة هذا الضعف والذبول القوة والنمو، ألم تروا كيف يمنع النبات الماء زمانًا حتى يذبل ويذوي، ثم يفاض عليه فيكون أسرع نموًّا مما لو عوهد بالسقي دائمًا، بل هو في هذه الحال معرض لليبس؛ لأنه يرد عليه من الغذاء أكثر مما تطلبه طبيعته، ويندرج هذا تحت قاعدة (ردّ الفعل) المعروفة، الشجرة البرية - كما قال الإمام علي - أصلب عودًا وأبطأ خمودًا، والأجسام الحية يشبه بعضها بعضًا في الشؤون الحيوية، وقد ثبت في الطب أن السنين إذا أخذت قومًا، فإن فعل الجدب والقحط يكون على، أشده في المترفين المنعمين الذين اعتادت مِعَدُهم أن لا تخلو من المآكل الرطبة الدسمة فيكثر فيهم الموتان ويسرع فيهم الفناء، وتكون السلامة أغلب في أهل الشظف والقشف، فما أحوج هؤلاء المنغمسين في النعيم إلى رياضة الصوم لتقوية أبدانهم! ! (الفائدة الثانية) كسر سورة الشهوة وجزر مدّها، فإن طغيان الشهوة يفضي بصاحبها إلى الإفراط في تناولها؛ فينطفئ في نفسه نور العفة، وهي إحدى أركان الفضائل الأربع، ومتى تقوض هذا الركن ينهدم معه ما بني عليه من الفضائل كالحياء والدعة، والصبر والسخاء، والحرية الحقة والقناعة، والدماثة والانتظام، والمسالمة والوقار والورع، واختل مزاج النفس وتبعه اختلال مزاج البدن؛ لأن الإفراط في الشهوات منبع الأمراض والأدواء بإجماع من الأطباء، ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان:إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين. زاد الترمذي وابن ماجه والحاكم: ونادى منادٍ: يا باغي الخير هلمَّ، ويا باغي الشر أقصر، فأبواب الجنة: الفضائل والطاعات، وأثرها في الصوم أعم وأظهر، وأبواب النار: الرذائل والمعاصي، وانطماس أثرها في الصوم الحقيقي لا يُنكر , وبهذا يبطل تأثير الأرواح الشريرة التي تلابس النفوس، فيقوَى فيها الميل إلى الشرور المعبَّر عنه بتصفيد الشياطين، يقول المعترض: إذا ضعفت الشهوة في وقت الصوم فإنها تثوب بعده كما تثوب الغضاضة والقوة بعد الذبول والضعف بمقتضى قاعدة (رد الفعل) التي ذكرتَها في بيان الفائدة الأولى فيكون الصوم مضرًّا، ونقول في جوابه: إن موت الشهوة أو دوام ضعفها مضر بالإنسان، وإنما شرع الصوم وغيره لمنفعته، والمطلوب في الصيام تضمير النفس كما تضمر الخيل حتى يملك صاحبها عليها أمرها، ويأمن جماحها إلى ما يحرّمه الشرع ويورث صاحبه الهوان والضعة من اتباع الشهوات، وإنما يكون هذا بامتناعه في أوقات مخصوصة عن تناول الشهوات كلها - حرامها وحلالها - لتنطبع في النفس ملكة القدرة على الترك وهذا هو التهذيب المفروض على كل مكلّف في جميع الشرائع، جعلت العرب مدة تضمير الفرس أربعين يومًا، وجعل الشارع مدة تضمير الإنسان نفسه ثلاثين يومًا في كل سنة، ويستحب الزيادة عليها، لا سيما بالنسبة لمن يعرف من نفسه الجموح وعدم السلاسة لحكم الشرع. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))