من وظائف الرسل عليهم السلام المسألة (٧٣) الوظيفة الخامسة - حدود العقوبات وأحكام المعاملات: خُلق الإنسان ضعيفًا، وارتقى بالتدريج، ولما تألفت المجتمعات من البيوت والشعوب والقبائل احتاجت للوازع والمسيطر الذي يمنع ما يولده التنازع في المصالح والمنافع الاجتماعية من البغي والعدوان، ويؤدب الذين تطغى بهم الشهوات، فيجنون على أنفسهم وعلى الناس. ولذلك اتخذ الناس القضاة والحكام من رؤساء الدين والدنيا؛ ولكن الحاكم والأمير إذا لجأ إلى رأيه واتبع هواه في حكمه يضل عن سبيل الحق والعدل فلا تقوم مصلحة الناس بحكمه، وهذه قاعدة طبيعية ثابتة، وأقوى أدلتها ظلم رؤساء البيوت لنسائهم على ما بينهم من المودة والرحمة، وظلمهم لأولادهم على ما فُطروا عليه من الشفقة والحنان عليهم، فمن ثم كان الناس محتاجين إلى من يضع لهم أحكامًا عادلة، ويحد لهم حدودًا مؤدِّبة يستوي فيها الناس، وتوزن حقوقهم منها بالقسطاس، فكان كل نبي يرشد أمته بالوحي إلى ما يراها محتاجة إليه من ذلك، ويقرها على ما يراها محسنة فيه، وأكثر اختلاف الشرائع والأديان في هذه الوظيفة. م (٧٤) : ليس من وظائف النبيين بيان طرق الكسب وأسباب المعايش، ولا تعليم الفنون التي يتوسل بها إلى السعة والثروة كالرياضيات والطبيعيات والزراعة والصناعة؛ لأن هذه الأمور مما يصل إليها البشر بسعيهم وكسبهم بحسب السنن الإلهية التي أقام الله بها نظام هذا النوع، وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك في مسألة تأبير النخل بقوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) . إذا جاء في كتب الوحي ذكر السموات وكواكبها والأرض وعوالمها؛ فإنما يجيء على سبيل الاستدلال على قدرة خالقها ومبدعها وحكمته، والتذكير بفضله ونعمته، لا على سبيل بيان حقائقها في أنفسها وشرح وجوه الانتفاع بها، على أن هذا الاستدلال والتذكير مما ينبه الناس إلى التوسع في العلم بهذه المخلوقات، وطرق الانتفاع بها، وإن لم يكن مقصودًا لذاته. *** الدرس (٣١) في شبهات على الوظائف وأجوبتها م (٧٥) شبهة على الوظيفة الأولى: يقول قوم: إن الأديان التي تنتسب إلى الوحي السماوي ثلاثة، ونراها لم تتفق فيما يجب اعتقاده في الله تعالى، فبعضها يصفه بصفات البشر حتى نقائصها كالتعب والندم والجهل والبداء والخوف والتأسف ومصارعة البشر وتسلط الشيطان عليه بالإغراء والتهييج، كتهييجه إياه على أيوب لابتلاعه، وكالحلول في البشر واحتمال اللعن والقتل باختياره، ونحو ذلك مما لا يرضى به المرتقون في الوثنية فضلاً عن الموحدين، وبعضها يوجب له التنزيه المطلق والوحدة الحقيقية والمباينة للممكنات، ثم يثبت له مع ذلك وجهًا وعينًا وسمعًا وبصرًا ويدًا وجهة مما يحتمل التأويل، ويشهد لتلك الكتب التي وصفته بما لا يحتمل التأويل مما أشير إليه آنفًا، ولما كان الدليل على صحة كتب هذه الأديان واحدًا، وهو وقوع الآيات الكونية وخوارق العادات على أيدي الذين جاءوا بها، يصح لنا أن نقول: إنها تعارضت ولا شيء يرجح أحدها على الآخر، فوجب تركها وإهمالها كلها. وإننا نجيب عن هذه الشبهة بعد تمهيد في إثبات الدين بخوارق العادات، وهو أنه تقدم في الدرس ٢٩ (ص ٣٧١ م ٤) أن الآيات الكونية التي يسميها المسلمون معجزات، ويسميها النصارى عجائب لا تدل على صحة ما جاء به الوحي دلالة برهانية؛ وإنما تؤثر في بعض النفوس فتجذبها إلى تصديق من ظهرت على أيديهم في كل ما يقولون؛ ولكن المسلمين والنصارى متفقون على أن الآيات لا تُعتبر تأييدًا من الله تعالى لمن ظهرت على يديه، إلا إذا كان يدعو إلى الحق ويأمر بالخير، فالاعتراف بأنها تأييد إلهي يتوقف إذن على معرفة حقيقة الدعوة ووزنها بميزان العقل الذي به التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر. ففي الباب الثالث عشر من التثنية: (١ إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة ٢ ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها ٣ فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم) وهذا عن لسان موسى كما لا يخفى، وفي الباب السابع من إنجيل متى: (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا الشياطين وباسمك صنعنا قوَّات كثيرة ٢٣ فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) وفي الباب ٢٤ منه: (لأنه سيقوم مسحاء كذَبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا) وهذا عن لسان المسيح. إذًا لا بد من معرفة الحق بذاته، فإذا وجدنا نصوص الوحي متعارضة أو وجدنا فيها ما يحكم العقل ببطلانه، فعلينا أولاً أن ننظر في طريق نقلها، فإن كان المخالف منها للعقل أو سائر النصوص غير متواتر نحكم ببطلانه وعدم صلاحيته لمعارضة العقل أو النص المتواتر ونسلم بالقطعي الذي يخالفه، وإن كان النصان اللذان يخالف أحدهما الآخر أو العقل، متواترين، فلا بد من الجمع بينهما بالتأويل، فإن لم يمكن التأويل فرضًا، فالعقل يُعذر إذا هو رفضهما معًا؛ ولكن هذا الفرض لم يقع إذ لم يوجد نص في القرآن يخالف العقل خلافًا لا يحتمل التأويل، ولا يثبت الآن كتاب سماوي بالتواتر اللفظي الحقيقي غير القرآن، وما يُعَدُّ متواترًا من سائر الكتب؛ فإنما تواتره معنوي، أي أنه متواتر في جملته لا في تفصيله، فلا يحتج بكل كلمة وكل عبارة منه. يوجد فيما حُفظ من التوراة والإنجيل، وأودع في أطواء هذه الكتب المعروفة ما يدل على تنزيه الله تعالى على نحو ما يوجد في القرآن، فإذا وُجد فيها أيضًا ما ينافي التنزيه يجب تأويله إذا كان منقولاً عن لسان نبي كموسى وعيسى عليهما السلام وعدم الاعتداد به إن لم يكن كذلك، فإن لم يمكن تأويله يحكم بعدم صحة إسناده إلى النبي الذي نسب إليه، وبهذا تتفق الكتب في أصل الاعتقاد بالله تعالى، أما بيان الآيات القرآنية التي تثبت لله تعالى وجهًا وعينًا ويدًا فقد تقدم في الدرس السابع عدم منافاتها للآيات المحكمة الناطقة بالتنزيه (راجع ص ٦٠٣ م ٢) ويتعذر تأويل كثير مما نُسب إلى الله تعالى في كتب العهدين وتقدمت الإشارة إلى شيء منه آنفًا. يتصل الكلام ((يتبع بمقال تالٍ))