للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اليهود والماسونية وحَدَثُ الوطنية

اليهود
لا يوجد شعب في الدنيا كشعب إسرائيل في تمسكه بالرابطة الملِّية، والعصبية
الجنسية، فهم يحبون ويحاولون أن يحولوا جميع منافع الشعوب الذين يعيشون
معهم إليهم. ولولا أنهم يعتقدون أن دينهم خاص بهم لا يجب عليهم الدعوة إليه
لحاولوا إرجاع جميع الأديان إليه بالهمة التي يحاولون بها تحويل قوى الشعوب كلها
إلى منفعة بني إسرائيل وكل هذا - لولا غلو فيه - من الفضائل التي يحمد صاحبها
عليها؛ ولكن الغلو في حب الذات كالتقصير فيه كلاهما من الأمور الضارة بصاحبها؛
لهذا نرى هذا الشعب مضطهَدًا من جميع الشعوب والأمم لا يتسع له صدر إلا
صدر المسلمين، ألم تَرَ أن الذين تطردهم الممالك وتخرجهم من أرضها لا يجدون في
الغالب ملجأً إلا بلاد الدولة العلية حتى بلاد فلسطين التي يطمعون أن يستقلوا بها
ويحدثوا فيها ملكًا جديدًا.
* * *
الماسونية
جمعية سياسية سرية تكونت في أوربا - خلافًا لما يزعمون من قدمها -
لمقاومة استبداد رؤساء الدنيا من الملوك والأمراء ورؤساء الدين من البابوات
والقسيسين الذين كانوا متضافرين على استعباد الناس وحرمانهم من نور العلم
والحرية، وقد اتفق على تكوينها اليهود والنصارى؛ ولذلك جعلوا
رموزها وإشاراتها منتزعة من الكتاب المشترك الذي يسمى الكتاب المقدس وأسندوها
إلى بناة الهيكل المقدس هيكل سليمان عليه السلام وهو المسجد الأقصى. وقد قامت
هذه الجمعية بعملها على أحسن وجه ولم يعد لها الآن عمل في تلك البلاد وإذ كان
منشئوها والمنشأة لهم من غير المسلمين كان فيها أمور متعددة تخالف الإسلام، وكان
الداخل فيها عرضة لمخالفة دينه إلا أن يكون عالمًا متمكنًا!
ثم إن الإفرنج عندما تغلغلوا في الشرق ورأوا مزاج السيادة الإسلامية لا يقبل
مشاركًا له في حكمه فهو يجيش انفعال جميع المسلمين لنبذ سلطة كل من يحاول
السيادة عليهم استعانوا بالماسونية على إضعاف هذا المزاج وتوسلوا إلى بعض
كبراء المسلمين وأغنيائهم بما توسلوا واستعانوا عليهم بنصارى بلادهم ويهودها
فأدخلوا طائفة منهم وبقي أكثر المسلمين إلى اليوم يعد الماسونية نزغة من نزغات
الكفر أو وسيلة إليه، إلا أن الشعب المصري سريع الانقياد إلى التقليد؛ ولذلك كثر
الداخلون في هذه الجمعية من أهله على أن أهلها يتنصلون من الأديان ويدعون عدم
التعرض لها بحال.
ولما هاجر السيد جمال الدين حكيم الشرق وموقظه إلى هذه البلاد رأى من
استبداد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق ما يزيد على ما كان في أوربا من الاستبداد
ورأى أن الجمعية الماسونية تجر هذه البلاد إلى أوربا بخيوط سياسية خفية؛ ولكنها
متينة قوية فهي كالخيوط التي يربط بها المشعوذ التماثيل التي يلعب بها وراء الستار
فيحسب الصبيان أنها هي التي تلعب بنفسها، وكذلك كانت مصر ألعوبة في أيدي
الأوربيين. فأراد السيد رحمه الله أن يربي فيها رجالاً يعرفون كيف يحفظون بلادهم
وأنفسهم فوجَّه همته إلى استخدام الماسونية في تعليم تلامذته ما لا يمكن التصريح به
إلا في جمعية سرية فدخل في الماسونية ودخل معه تلامذته النابغون فجعل بهم قوة
للمصريين وصار رئيس محفلهم، ولكنه كان غاليًا في مضادة الإنكليز لما كان من
زحفهم على بلاده ولما كان يعتقد من طمعهم في مصر وقد صرّح به كتابةً فقاوموه
حتى اضطروه إلى ترك الماسونية مع كبار حزبه ولم يكن للماسونية عمل في مصر
لمصر إلا في تلك المدة، ثم إن الماسونية صارت في مصر آلة لبعض زعمائها في
جلب المنافع ثم كثر فيها الغوغاء حتى قلّ احترامها وانطلقت الألسنة بالطعن فيها
وليس هذا مما يعنينا الآن.
* * *
حدث الوطنية
شاب يعرف قراء المنار أنه يلغط بالوطنية على غير هدى وإن له جريدة
أنشأها لتعظيم شخصه باسم الوطنية وللانتقام لشخصه بكل اسم. يمقت كل مَن ليس
مصري الأصل لأجل مصر، ويمقت من المصريين الأصلاء من ليس مسلمًا
لأجل المسلمين، ويمقت كل مصالح المسلمين لأجل شخصه فهو لنفسه علة
العلل. في كل قول له وعمل، وإليك هذا الشاهد العادل:
مفتي الديار المصرية مصري الموطن ويشغل في مصر أكبر الوظائف الدينية
ويرأس جمعية خيرية ليس لها ثانية لخدمة مسلمي مصر وهو في علوم الدين والدنيا
وفي كبر العقل وقوة الإرادة مفخر المسلمين ومفزعهم يرجعون إليه في الدفاع عن
دينهم وفي قضاء حوائجهم ويرون أكبر خدمة قام بها للإسلام تفسير القرآن الشريف
على طريقة روحية عمرانية تظهر أن القرآن الحكيم ينبوع السعادة الدينية والمدنية
في كل عصر.
ولكن هذا الرجل خلق من طينة الجد فهو لا يقيم وزنًا للأحداث المتنفجين
فينزلهم منزلة العدم، لا يحترمهم ولا يحتقرهم. وحدث الوطنية يحب أن يدهن له
كل عظيم فهو لا يحب مفتي الديار المصرية. وكان ينبغي أن يعامله بالمثل لا
يعظمه ولا يتطاول ويتسلق ويتعالى لغمط حقه فإذا لم يستطع صبرًا فلينتظر له هفوة
يتيسر له التلبيس بها على العامة بأنها تضر بالوطن الذي يدعي حبه أو الإسلام
الذي يتألف حزبه؛ ولكن من الناس من يبلغ من نفسه مبلغًا لا يصل أحد إليه إلا
بخذلان من الله! ! !
انظر الفرص التي ينتهز مثلها حدث الوطنية: كان مفتي الإسلام في جماعة
من (كبار الوطن العزيز) قد ركبوا مركبة مما أعدته الحكومة للمدعوين لحضور
احتفال خزان أسوان فحاول أحد الخَدَمة من الإفرنج إنزالهم منها ليركب فيها نساء
من قومه فانتهره المفتي فعاد خائبًا. ولما علم بذلك زعيم الوطنية بزعمه بادر إلى
إرسال رسالة برقية إلى جريدته جعل عنوانها (إهانة المفتي) وحكى القصة على
غير وجهها، فهذه هي الوطنية الحقة التي يتنفج بها يفتخر بأن خادمًا أجنبيًا أهان
أكبر رجال (الوطن المحبوب) وما أهانهم ولكنه يفتخر بما يفتجر ويفتحر.
وإن تعجب فاعجب مما قصصناه من فرصة هذا الوطني التي اغتنمها لخدمة
الوطن ما نقصّه الآن من فرصة هذا المسلم التي اغتنمها لخدمة الإسلام بل لتأييد
بعض ماسون اليهود في الاحتجاج على تفسير القرآن:
إن نبذة التفسير التي نشرناها في الجزء الثاني من منار هذه السنة هي مأخوذة
من الدرس الذي ألقاه المفتي في ٦ ذي القعدة سنة ١٣١٧ أي منذ ثلاث سنين
وشهور وقد نقلتها عنا جريدة الرائد العثماني التي قامت تندد في هذه السنة بسيئات
اليهود حتى أنهم حاكموا صاحبها وحكم عليه بشدة علم بها أن الحكومة انتصرت لهم
وما كانوا مهضومين ولا مظلومين. توهم بعضهم أن مفتي الديار المصرية صاحب
النفوذين الديني والأدبي كتب الآن يساعد تلك الجريدة بقلمه المؤثر فوجلوا ووجموا
ولجأوا إلى جمعيتهم الماسونية وكتبوا بقلم الطيش والعجلة احتجاجًا باسم الماسونية
على مفتي الديار المصرية الذي يفسر القرآن العزيز في الأزهر باسم الله الرحمن
الرحيم وطلبوا إيقافه عند حده. وأرسلوا نسخًا من احتجاجهم إلى أمير البلاد وإلى
اللورد كرومر وإلى رئيس النظار وإلى جميع الجرائد اليومية فلم يحفل أحد
باحتجاج هذا المحفل إلا رئيس الماسونية العام في هذه الديار (عطوفتلو) إدريس
بك راغب فإنه كتب محتجًّا على الاحتجاج مبينًا للمحفل أنه خالف قانون الجمعية.
ولكن حدث الوطنية نشر صورة الاحتجاج في جريدته وقام ينتصر لعثرة
عثرها بعض يهود الماسون على مفتي الإسلام من حيث هو مفسر للقرآن وسوَّل
إليه غروره أن ذلك انتقام من المفتي فما كان إلا زيادة في إجلاله وتعظيمه حضر
رئيس ذلك المحفل الماسوني من الإسكندرية مخصوصًا لزيارة المفتي في الأزهر
والاعتذار له ثم كتب هذا الرئيس رسالة نشرها في الجرائد المشهورة في ذلك أثنى
فيها بما أثنى وزاره في الأزهر أيضًا الرئيس الأعظم للمحافل الإفريقية إدريس بك
راغب وكتب بعض أدباء اليهود في الجرائد يبين خطأ الاحتجاج ونشره وأثنى على
المفتي بما أثنى وكتبت الجرائد المعتبرة مقالات في ذلك بأقلام كتابها وأقلام غيرهم
من الفضلاء سفهوا فيها منشور الاحتجاج والجريدة التي نشرته وفي مقدمة هذه
الجرائد المؤيد والأهرام والمقطم والبيراميد ولولا أن كان جميع الكاتبين متفقين على
الاعتذار عن المحتجين بسوء الفهم والاعتراف بأن مفتي الديار المصرية لهذا العهد
هو روح الوفاق والوئام وداعية الاتحاد والالتئام وأنه لا يرضيه أن يهضم حق فرد
من الأفراد ولا طائفة من الطوائف لأن الشريعة التي هو أحد أئمتها - قضت بالعدل
والمساواة حتى كان خلفاؤها الراشدون يساوون آحاد اليهود بأكبر كبرائهم - لولا هذا
لأحدث ذلك المنشور ثورة فكرية قلمية على اليهود سيئة المغبة وكان إثم ذلك على
من كتب المنشور بسوء الفهم. ومن نشره بسوء القصد.
{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى} (الروم: ١٠) وأي شيء أسوأ ممن
أرضى نفسه وأغضب اليهود الذين انتصر لهم بما كاد يوقعهم فيه من الفتنة
وأغضب المسلمين؛ لأنه انتصر لليهود عليهم في أمر ديني محض، وأغضب الله
تعالى؛ لأنه انتصر لأفراد من اليهود على كتابه العزيز وأراد أن يساعدهم على
إيقاف من يبينه للناس عند حده وما هو إلا منعه من بيانه للناس ونقض ميثاق الله
الذي أخذه على العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: ١٨٧) .
وههنا نكته لطيفة وهي أن اليهود قد كتبوا ما كتبوا معتزين بالحرية التي في
مصر الآن كما صرحوا بذلك في منشورهم، وحدث الوطنية يتبجح دائمًا بذم هذه
الحرية؛ لأن منبعها الاحتلال الإنكليزي فهل كانت هذه الحرية جديرة بالمقت والذم
من حيث رفعت أثقال الظلم عن كاهل الأمة المصرية وصارت جديرة بالرضى
والمدح من حيث يراد بها منع تفسير القرآن من الجامع الأزهر؟ ! كلا، إن تلك
الحرية ما كانت مذمومة عنده من جهة الأحكام إلا لأنه لم يقدر أن يكون فيها حاكمًا
وصارت ممدوحة عند الاستعانة بها على منع كتاب الله إلا لأن مفسره لا يدهن له
ولا يعتبره زعيمًا للوطن فثبت بهذا أن حدث الوطنية لا يخدم إلا شخصه مباشرة
واسم الوطنية والإسلام إنما يُذكران إذا صلحا للاستخدام!
فعلم مما تقدم أنه لم يكن من مصلحة اليهود أن يطرقوا هذا الباب - دعوى
تحامل المسلمين عليهم وكراهتهم لهم - لئلا يُفتح فيعجزوا عن إغلاقه هم والحرية
التي استنجدوا بها وهي العون عليهم ما لم يخالف أحد القانون في اعتدائه.
والمسلمون أقرب الناس إلى مسالمتهم بما يرشد إليه الإسلام والتاريخ شاهد عدل في
الماضي والحاضر؛ ولكن أهل هذه البلاد يؤثر فيهم القول والوهم فإذا صدقوا أن مفتي
الإسلام قد برى قلمه للنيل منهم يعتقدون أنهم خطر كبير على المسلمين أو
المصريين. ومن يقدر على إزالة اعتقاد العامة بعد رسوخه؟ قدر بعض الأحداث
على تحريك أضغان المصريين على السوريين بكلمات هذوا بها فكان من أثرها أن
الألوف من الناس يعتقدون أن السوري بلاء على مصر، على أن السوريين
موافقون لهم في اللغة والجنسية العثمانية ومنهم من هم على دينهم وليس لهم امتياز
يثقل عليهم كامتياز الأجانب. ثم إنهم أقل الشعوب التي هاجرت إلى هذه البلاد كسبًا
فاليهود والأرمن واليونان وجميع الشعوب الأوربية تفوقهم ثروة ومن هؤلاء من
أفسدوا البلاد بالخمور ولا ترى مع هذا جريدة مصرية تذكر أحدًا منهم بما تذكر به
السوريين مما لا يرضي. والسوريون هم الذين خدموا العلم والأدب خدمة لم يدركهم
بها المصريون إلى الآن، نعم، إن فيهم بعض السفهاء وفاسدي الآداب والجنسية.
وأي شعب ليس منه الصالح والطالح والمصلح والمفسد؟ ! فإذا كان أولئك الأحداث قد
أثروا هذا التأثير بمعونة الاستعداد للشر فما بالك بهذا الإمام الكبير؟ !
كان من حظ اليهود أنهم طرقوا الباب فلم يفتح؛ لأن المفتي وجميع ما يتصل
به من حملة الأقلام لا يحبون فتحه ولو فتح لما أغنت عن اليهود الماسونية شيئًا،
أما كون الماسونية خرجت في هذه المسألة عن حدها فلا نزاع فيه بعدما علمنا من
احتجاج أستاذها الأعظم على كاتبي المنشور. وكل مخطئ قد رجع عن خطئه إلا
حدث الوطنية فعلم أنه هو الذي كان سيء القصد دون اليهود وغيرهم.