للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شبلي النعماني


نقد تاريخ التمدن الإسلامي
بقلم الشيخ شبلي النعماني
(٤)

أما المصانع - فإن هشامًا حصَّن المثقب على يد حسان بن ماهون الأنطاكي
وحفر له خندقًا وبنى حصن قطر غاش، وحصن مورة، وحصن بوفا من عمل
أنطاكية. وبنى سعيد بن عبد الملك سور الموصل وهو الذي هدمه الرشيد. وفرش
الموصل بالحجارة ابن تليد صاحب شرطة المروانيين. وسار العباس بن الوليد إلى
مرعش فعمرها وحصنها ونقل الناس إليها وبنى لها مسجدًا جامعًا، وأسكن مسلمة
بن عبد الملك مدينة الباب أربعة وعشرين ألفًا من أهل الشام على العطاء وبنى هريًا
(مخزنًا) للطعام وهريًا للشعير وخزانة للسلاح وأمر بكبس الصهريج ورمّ المدينة
وشرفها , وأحدث الحجاج أحد أمرائهم في سنة ٨٣ مدينة واسط بين الكوفة
والبصرة وبنى مسجدها وقصرها والقبة الخضراء بها، وأحدث سليمان بن عبد
الملك في ولايته مدينة الرملة ومصرها وبنى فيها القصور ومسجدًا وحفر الآبار
والقنى والصهاريج. وبنى أحد قوادهم عقبة بن نافع الفهري بإفريقية قيروانها
وأحدثوا غيرها من المدن والحصون والأرباض في الأندلس وحدود بلاد الروم
والسند.
ثم أمنوا الطرق وعمروا السبل فكان موضع قيروان غيضة ذات طرفاء
وشجر لا يُرام من السباع والحيات والعقارب فأحدثوا فيه تلك المدينة الزهراء
فأصبحت طرق إفريقية آمنة مستأنسة بعدما كانت مستوحشة ذات مخاوف ومهالك ,
وكانت الطريق فيما بين أنطاكية والمصيصة مسبعة يعترض للناس فيها الأسد
فوجه الوليد إليها أربعة آلاف من الجاموس نفع الله بها , وأذكر ما كتب ابن الأثير
في حوادث سنة ٨٨: (إن الوليد كتب إلى البلدان جميعها بإصلاح الطرق وعمل
الآبار) وكان الموضع الذي فيه نهر سعيد بن عبد الملك غيضة ذات سباع فأقطعه
إياها الوليد فحفر وعمَّر ما هناك. ولما بغى سيل الجراف بمكة في سنة ٨٠ في
زمن عبد الملك أمر عامله بعمل ضفائر الدور الشارعة على الوادي وضفائر المسجد
وعمل الردم على أفواه السكك. وحفر عديّ عامل البصرة من قِبَل عمر بن عبد
العزيز بأمره نهر عدي.
ومن الأخبار التي تدل على شدة حبهم للرعية وكثرة بذلهم في إزاحة خللها
وإماطة أذاها - أنه شكا أهل البصرة إلى عامل يزيد على العراق ملوحة مائهم فكتب
بذلك إلى يزيد فكتب إليه: إن بلغت نفقة هذا النهر خراج العراق فأنفقه عليه،
فحفر لهم النهر الذي يعرف بنهر ابن عمر وحفر عمالهم الجائرون الغاشمون (كما
يقول جرجي أفندي زيدان) والمنتسبون إليهم كثيرًا من الأنهار غير ما ذكر كنهر
معقل، ونهر ديبس، ونهر الأساورة، ونهر عمرو، ونهر أم حبيب، ونهر
حرب، ونهر بزيدان، ونهر سلم، ونهر ناقد، ونهر خيرتان، ونهر مرة،
ونهر بشار، ونهر بزور، ونهر حبيب، ونهر ذراع، ونهر أبي بكرة،
وغيرها من الأنهار وهذه الأنهار كلها حفروها [١] بالبصرة فما بال غيرها من
البلاد؟
أما ما بذلوا من الأموال وأفرغوا من الجهد في بناء المسجد النبوي وتذهيب
البيت والمسجد الأموي الذي هو معدود من إحدى العجائب في كثرة نفقاته وعظمة
بنائه ودقة صنعه وبهجة منظره وحسن نظامه فهو أشهر من نار على علم.
وبنو أمية هم أول من اتخذ دار الضرب في الإسلام فكسوا به الإسلام رفعة
وأغنوه عن نقود الروم والفرس ونجوه مما أوعده الروم بنقش شتم النبي صلى الله
عليه وسلم عليها، وهم الذين نقلوا الدفاتر والدواوين من الفارسية والرومية والقبطية
إلى العربية [٢] فزادت العربية انتشارًا ونفوذًا ولم يمض برهة من الدهر حتى
أصبحت هذه البلاد عربية النزعة واللسان، وهم أول من بنى مستشفى في الإسلام -
بنوه بدمشق سنة ثمان وثمانين، جعلوا فيه الأطباء وأمروا بحبس المجذومين
وأجروا لهم الأرزاق، وهم أول من أنشأ دارًا للعُميان، وهم أول من عمر دار
الضيافة [٣] بعد عمر بن الخطاب، وهم أول من رثى للأيتام وتحنن عليهم ورتب
لهم المؤدبين ليعلموهم [٤] .
***
نشر المعارف والعلم
أما العلم - فقد زخر بهم بحره، وأزهر بدره، فالقرآن الذي هو عمود
الإسلام، ورأس العلوم، وينبوع المعارف، أدرك الأمة قبل اختلافها فيه عثمان بن
عفان وهو أموي. ثم بعد ذلك اختلطت العرب بالعجم واحتكت بهم ففسدت لغتها
وأسلمت العجم فلم تستطع السلامة من اللحن فكثر التصحيف في القرآن وانتشر
بالعراق ففزع الحجاج وهو أحد أمراء بني أمية إلى كتابه فوضعوا النقط والأعجام
[٥] فعصموا به كتاب الله أن يتطرق إليه التصحيف والتحريف تطرقهما إلى التوراة
والإنجيل، ووالله هذا أعظم مبرة برَّ بها الإسلام لا تساويها مبرَّة وأعظم منة منَّ بها
على الدين لا توازيها منة. ثم كتب الحجاج المصاحف وفرقها في الأمصار وكان
الوليد - الذي رماه صاحبنا بالاستهانة بالقرآن - يحث الناس على حفظ القرآن
وكان يجزل الصلات لحفظته ويضرب الذين لم يحفظوه [٦] فكثر حفظته وعظم
قدرهم وجلت رتبتهم.
أما التفسير - ففي أيامهم نبغت أجلَّة المفسرين من التابعين، وفي أيامهم دُوِّن
التفسير في الصحف فأول من وضع في التفسير ابن جبير بأمر عبد الملك [٧] ثم
مجاهد.
أما الحديث - فكانوا يدرون على أهله الصلات ويبعثون إليهم بالهدايا
ويجرون لهم الأرزاق لينقطعوا إلى حفظ الحديث وروايته ونقله وكانوا يكرمون
الفقهاء ويجلون مقامهم ويراعون جانبهم، فقد كان يصيح صائح من بني مروان في
موسم الحج: ألا لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح إجلالاً لشأنه ولكثرة علمه
بالمناسك [٨] وكان عبد الملك أمر الحجاج وهو أميره على الموسم أن يقدم ابن عمر
في الحج ويقتص أثره في المناسك، وكان سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد
والشعبي وميمون بن مهران والزهري وأيوب بن أبي تميمة وقبيصة بن ذؤيب
ورجاء بن الحياة أعزة عند بني أمية وكان أكثرهم عمالاً لهم وهم أساطين
الحديث وأئمة الرواية وأعلام النقل. وأنت تعلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه
وسلم لولا أنها استودعت بطون الصحف لضاعت بهلاك العلماء وإسراع الموت فيهم
، فأسألك بحرمة التاريخ مَنْ أمر أهل هذا الشأن بتدوينها في الكتب - أليس هو عمر
بن عبد العزيز الأموي؟ فجاء في الآثار أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق:
(انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه) وكتب إلى أبي بكر
بن حزم رأس المحدثين (أن انظر ما كان من سُنة أو حديث فاكتبه لي فإني خفت
دروس العلم وذهاب العلماء) وقد كتب ابن حزم كتبًا في الحديث فتوفي عمر ثم
وضع الكتب فيه ربيع بن صبيح وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار
يعلمهم السنن والفقه [٩] .
أما أصول اللغة ونحوها - فقد كان تدوينها بأمر أمراء بني أمية، ذكر ابن
خلكان (الملجد الأول صفحة ٢٤٠) أن أبا الأسود الدؤلي استأذن زيادَ ابن أبيه -
وهو والي العراقين يومئذ - أن يضع للعرب ما يقيمون به لسانهم فأبى ثم بدا له
صواب رأيه فدعا الدؤلي وقال له: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم فوضعه
وأخذ عنه ما وضعه عتبة بن مهران المهري وعنه ميمون وعنه عبد الله الحضري
وعنه عيسى بن عمر وعنه الخليل [١٠] وهؤلاء كلهم كانوا في عصر بني أمية وهم
واضعو النحو ومدونو أصوله.
أما الشعر - ففي عصرهم فتقت ألسنة الشعراء وارتفع قدرهم وانتشر ذكرهم
ففحول الشعر وأمراء القول وفرسان القريض هم الفرزدق الدارمي وجرير الخطفي
والأخطل التغلبي وعمر بن أبي ربيعة القرشي وكثير عزة وجميل بثينة
ومجنون ليلى وذو الرمة غيلان ونصيب وهؤلاء كلهم كانوا يقصدونهم بجياد
قصائدهم فكانوا يغمرونهم بالجوائز فنطقت ألسنتهم بما أصبح زهرة للأدب وزينة
للغة.
وكانوا يحثون الناس على اقتناء الأدب وتناشد الشعر وتدارس أخبار الشعراء،
وكانوا يستوفدون الشعراء ويستزيدونهم ويجيزونهم بالأموال الجزيلة وكانوا
يرسلون أبناءهم إلى البادية ليتلقنوا الأدب ويتلقفوا اللغة من أفواه الأعراب وأهل
البادية، وقد جمع الوليد بن يزيد بن عبد الملك ديوان العرب وأشعارها وأخبارها
وأنسابها ولغاتها [١١] .
أما علم التاريخ والسير والمغازي - فبعصرهم افتتح عصره، وبأمرهم ارتفع
أمره، ففحول أصحاب السيَر والمغازي هم: وهب بن منبه عالم اليمن المتوفى سنة
١١٤ ومحمد بن مسلم الزهري صاحب عبد الملك المتوفى سنة ١٢٤ وموسى بن
عقبة المتوفى سنة ١٤١ ولهؤلاء كلهم كتب في التاريخ والسير والمغازي [١٢]
ووضع في أيامهم عوانة المتوفى سنة ١٤٧ كتاب التاريخ، وكتاب سيرة معاوية
وبني أمية، وكان لملوك بني أمية رغبة شديدة في استطلاع الأخبار الماضية
وحوادث الأمم الخالية. قال المسعودي: إنه كان معاوية يجلس لأصحاب الأخبار
في كل ليلة بعد العشاء إلى ثلث الليل ويقوم فيأتيه غلمان وعندهم كتب
فيقرءون عليه ما في الكتب من أخبار الأمم وسير الملوك وسياسات الدول، ولم
يصبر على ذلك حتى استحضر عالم عصره عُبيد بن شربة من صنعاء اليمن وسأله
عن الأخبار المتقدمة وملوك العجم وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد،
وأمره أن يدوّن ما علمه، وعاش عبيد إلى أيام عبد الملك وتوفي وله من الكتب
كتاب الأمثال وكتاب أخبار الماضين [١٣] وأخذ عنه أناس سماهم ابن النديم وكان من
رواته زيد الكلابي في أيام يزيد بن معاوية عارف بأيام العرب وأحاديثها (الفهرست)
صفحة ٩٠ (وقد كان هشام مشغوفًا بالسير والأخبار فنقل له جبلة بعض كتب
سير الفرس من الفارسية إلى العربية [١٤] وأمر هشام النقلة فنقلوا له كتاب تاريخ
ملوك الفرس وقوانين دولتهم وتراجم رجالهم وكان هذا الكتاب مصورًا، ثم نقله سنة
١١٣ رآه المسعودي سنة ٣٠٣ في مدينة اصطخر كما ذكر في التنبيه صفحة
(١٠٦) .
أما علوم الفلسفة ومنها الطب والكيمياء - فكان لهم في نقلهما إلى العربية
آثار صالحة فنقل ابن آثال لمعاوية كتب الطب من اليونانية وهذا أول نقل في
الإسلام، وكان في البصرة في أيام مروان بن الحكم طبيب ماهر يهودي النِّحلة
عارف بالعربية اسمه ماسرجويه فنقل ماسرجويه هذا كناش القس أهرون بن أعين
من السريانية إلى العربية فلما تولى عمر بن عبد العزيز وجد هذا الكتاب في خزائن
الكتب في الشام فأخرجه للناس وبثه في أيديهم [١٥] وخالد بن يزيد بن معاوية حكيم
آل أمية أول من طلب علوم الفلسفة في الإسلام، وخبره أنه كان يطمع في الخلافة
فلما وثب مروان عليها رغب خالد عنها إلى طلب العلم فاستقدم جماعة من فلاسفة
اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر ومنهم مريانوس الرومي الذي أخذ عنه صنعة
الكيمياء والطب وأمرهم بنقل الكتب من اليونانية والقبطية إلى العربية فنقلوها له
ولخالد كلام في الكيمياء والطب - وكان بصيرًا بهذين العلمين متقنًا لهما - وله
رسائل دالة على معرفته وبراعته كما أخبر به ابن خلكان، وقد ذكر له ترجمة
صالحة ابن النديم في فهرسته ونقل سالم كاتب هشام - وهو أبو جبلة المار ذكره -
رسائل أرسطاطاليس إلى الإسكندر فبناء على ما قدمنا من القول بنو أمية هم أول
من استقدم الفلاسفة واستدناهم في الإسلام، هم أول من أمر بنقل العلوم إلى العربية
في الإسلام، هم أول من أنشأ خزائن للكتب في الإسلام، وقد ضربنا صفحًا عما
كان لآل أمية بالأندلس في السياسة والعلم من المآثر الحسنة والأعمال الجليلة والسير
العادلة. فهل لك أيها الفاضل المؤلف إلى الإذعان للحق من سبيل، وإلى الرجوع
عن ضلال الرأي من طريق؟
***
صنيع المؤلف بالعباسية
عهدنا الوحوش الضارية مع جفاء طبعها وقسوة قلبها وكونها مطبوعة على
الافتراس والفتك والارتواء بالدم وإذا دخلت غابتها وأحاطت بها عائلتها تبدل القسوة
بالرحمة والغلظة باللطف والغضب بالحنان، فبينما أحدها عبوس كاشر عن الأنياب
كالح الوجه مستبشع المنظر كريه الهيئة إذ هو هش بش حنون عطوف يذوب لطفًا
ورِقَّة، وكذلك شأن قواد الجند وأبطال الحرب فإنك ترى أحدهم إذا قاتل الأكفاء
وناطح الأقران فهو شهاب ينقضّ، ونار تلتهب، وسعير تفور، وإذا عاشر
الأصحاب فهو ألينهم جانبًا، وأحلاهم خلقًا، وأوسعهم حلمًا، وأرقهم طبعًا، وقد
جربنا المؤلف وعجمنا عوده في معاملته مع أعدائه (بني أمية) فلننظر كيف حاله
في معاشرته مع أصدقائه (العباسية) .
قال المؤلف:
(فحبب بعضهم إلى المنصور أن يستبدل الكعبة بما يقوم مقامها [١٦] في
العراق وتكون حجًّا للناس فبنى بناءً سماه القبة الخضراء تصغيرًا للكعبة وقطع
المِيرة في البحر عن المدينة) (الجزء الثاني صفحة ٣٠) .
وقال: (وأراد المعتصم أن يستغني عن بلاد العرب جميعًا وكان قد بنى
سامرَّا بقُرب بغداد وأقام فيها جنده فأنشأ فيها كعبة وجعل حولها طوافًا واتخذ مِنى
وعرفات إلخ) (الجزء الثاني صفحة ٣٢) .
وقال: (فلما أفضت الخلافة إلى المأمون إلخ - ثم قال: فأخذ يناظر أشياعه
وصرح بأقوال لم يكونوا يستطيعون التصريح بها خوفًا من غضب الفقهاء وفي
جملتها القول بخلق القرآن أي أنه غير منزَّل) (الجزء الثالث صفحة ١٤١) .
غير خافٍ على أحد أن العباسية إن افتخروا وتطاولوا على منازعيهم في
الرئاسة فمعظم فخرهم وأبين حُججهم أنهم بنُو عم النبي وسَدنة البيت وخدمة الحرم
ودعاة الإسلام ونقباء القرآن وصاحبنا يقول: (إن المنصور وهو مؤسس دولتهم
وفاتحة خلفائهم بنى القبة الخضراء إرغامًا للكعبة وقطع المِيرة عن المدينة تضييقًا
على أهلها وأن المأمون - وهو أفضل خلفائهم دينًا وورعًا - كان يُنكر نزول القرآن
. وإن المعتصم - وهو فحلهم وواسطة عقدهم - بنى كعبة في سامرَّا وجعل لها
طوافًا. ولعلك تقول: إن الحاكم بالعدل والقائم بالقسط ليس له حميم ولا عدو فهو
يتحرى الصدق ويدور مع الحق كيفما دار. ...
فالمؤلف إذا أتته سيئة من بني العباس قضى عليهم من غير محاباة لهم ولا
ميل إليهم، وكذلك إذا عرضت له حسنة من بني أمية فهو يوفيهم حقهم من
الاستحسان وحسن القول وتنويه الذكر - هيهات هذا كان رجاؤنا فخاب الظن
وكذب الأمل وذهبت الثقة فإن المؤلف لما ذكر بني أمية عقد لمثالبهم أبوابًا منها:
استخفافهم بالدين، وذكر فيه قتال عبد الملك مع ابن الزبير فقلب الرواية كما سبق
ذكره، فلو كان مغزى المؤلف الصدق وبيان الحقيقة لكان يعقد بابًا للعباسية أيضًا
يذكر فيه استخفافهم بالكعبة وإنكارهم لنزول القرآن، وههنا موضع نظر إلى دقة
مكيدة المؤلف وحسن احتياله فإنه يريد من طرف الغض من الكعبة والحط من
القرآن ومن طرف الانتصار للعباسية والذب عنهم؛ لأجل أنهم كسروا شوكة
العرب واتخذوا العجم بطانتهم وعمود دولتهم فذكر استخفافهم بالكعبة ولكن مغموسًا
مبددًا تحت عنوان ثروة الدولة الإسلامية ليأخذ بطرفي المطلوب ويفوز ببغيتيه معًا.
أما كشف الجلية عن أصل الحال فالأمر أن من يدعي الخلافة (وهي منصب
ديني) ويرشح لها نفسه لا يجد إلى ذلك سبيلاً إلا بالتظاهر بالدين، والتصبغ به
ونصب نفسه لإعلاء كلمته ورفع مناره وحمل الناس على تعظيم شعائره والتدلي إلى
خاصة القائم به؛ ليجلب عطف القلوب وجذب الأميال ورضاء العامة والتحبب إلى
الناس؛ ولذلك كان الخلفاء (بنو أمية والعباسية كلاهما) يصلُّون بالناس ويؤمونهم
ويحضرون الموسم ويحجون بهم أو يرسلون مِن خاصتهم مَن ينوب منابهم
ويخطبون على المنابر؛ ولذلك لما أراد أهل الشام الميكدة بعلي رضي الله عنه
ورفعوا المصاحف كفَّ أصحاب علي عن القتال؛ ولما قال عليّ ٌ هذه خديعة منهم.
قالوا: إذا لم تذعن لهذا خلعناك، فلم يقدر على خلافهم ورضي بما لم يكن وفق
رضاه، ولما فعل يزيد ما فعل ضج الناس وكادوا يسطون عليه لولا أنه مات عاجلاً،
ولما أراد الحجاج قتال ابن الزبير أغراهم بأن ابن الزبير ألحد في الدين، وزاد
على الكعبة ولذلك نصب المناجيق تلقاء الزيادة التي كان زادها ابن الزبير (رضي
الله عنه) ولما جاهر الوليد بن يزيد بالفسق قاموا عليه وقتلوه، ولما قال أبو نواس
يمدح الأمين وصدَّر القصيدة بهذا البيت:
ألا فاسقني خمرًا وقل لي: هي الخمر ... ولا تسقني سرًّا فقد أمكن الجهر

اتخذ المأمون هذا وسيلة لإغراء الناس على مخالفة الأمين. فهل تصدق بعد
كل ذلك بأن المنصور أو المعتصم كان يقدر أو يسوغ له أن يصغر شأن الكعبة
ويمس من شرفها؟ وهل كان يقدر المأمون أن يحمل الناس على إنكار القرآن
والعياذ بالله؟ فأما استشهاد المؤلف في هذه الواقعة بابن الأثير وغيره فكله تحريف
وتدليس وسوء تأول، ولولا أنني سئمت من كشف دسائسه مرة بعد أخرى
لأوضحتُ الأمر وبينت حقيقة الحال.
قال المؤلف: ولما تولى المعتصم سنة ٢١٨ هـ واصطنع الأتراك والفراعنة
ازداد العرب احتقارًا في عيون أهل الدولة وتقاصرت أيديهم عن أعمالها حتى في
مصر.. . - إلى أن قال -: فأصبح لفظ (عربي) مرادفًا لأحقر الأوصاف عندهم،
ومن أقوالهم: العربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة واضرب رأسه، وقولهم: لا
يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به (الجزء الثاني صفحة ٣١
و٣٢) .
من أحسن أعمال آل عباس عند المؤلف أنهم صغروا شأن العرب وساموهم
الخسف وسلطوا عليهم الأعاجم والأتراك وجعلوا هؤلاء ولاة البلاد، بيدهم الأمر
والنهي والرفع والخفض والعقد والحل والنقض والإبرام. ذكر ذلك في غير موضع،
وكلما ذكره وجد من نفسه ارتياحًا إليه وشفاء لحزازته وهزة لعطفه ونيلاً لأربه،
ومع أن الواقعة مكذوبة أو محرفة على جري عادته فنحن لا ننازعه في ذلك ونطوي
الحديث على غرته ولكن نقول: إذا مدح أحد مثلاً دولة فرنسة، وقال: إنهم ذللوا
الفرنسيين وأرغموا أنوفهم واستلبوهم المناصب وقلدوا الولاياتِ الأجانبَ، وجعلوهم
قابضي أزمَّة الأمور يولون ويعزلون، وينفقون ويمسكون، فهل هذا يكون مدحًا
ترضى به دولة فرنسة أو يكون هذا عارًا يُسْتَحى منه؟ ومسبّة يستنكف عنها،
وشناعة تشمئز منها القلوب؟ وأنصف من نفسك ما كان حظ العباسيين من تولية
الأعاجم. أما آل برمك فلا ننكر فضلهم ومحاسن آثارهم، ولكنهم مع كل ذلك
استأثروا بالأموال وانفردوا بالأعمال حتى لم يكن حظ الخلفاء من الخلافة إلا الاسم
فقط، فاضطر الرشيد إلى النكبة بهم وإزالة دولتهم.
وأما الأتراك فصاروا يلعبون بالخلافة كل ملعب، فكم قتلوا من الخلفاء
وسجنوا وعذبوا بأنواع العذاب وتركوهم يموتون جوعًا يسألون الناس ولا يعطون.
فهل هذه سياسة تمدح ومأثرة تذكر وفضيلة يفتخر بها؟
***
الخلفاء الراشدون
المؤلف حرفته تأليف الكتب متكسبًا بها، وهو يعرف حق المعرفة أنه لو انتقد
على الخلفاء الراشدين، ونال منهم تصريحًا كَسَدَ سوقُه، وخابت صفقته، فدبر
لذلك حيلاً لا يكاد يتفطن لها اللبيب المتيقظ فضلاً عن البليد المتساهل، فعمد إلى
رءوس المثالب ونسبها إليهم بأنواع الاحتيال، فتارةً بتبديدها في ثنيات الكلام
وإبعادها عن موضع العناية، وتارةً بإيرادها عرضًا مُوهمًا عدم الاعتناء بها، وتارةً
بذكرها محتالاً لها عذرًا. وإذا كررت النظر في كلامه وتصفحت ما فيه وجمعت ما
هو مبدَّد، ونَظَمْت ما هو مفرَّق تكاد تستيقن أن الخلفاء كانوا من أشد أعداء العلم،
وأنهم أبادوا الكتب والخزانات، واضطهدوا أهل الذمة وجعلوهم أذلاء لا يؤذن لهم
ولا يُؤْبَه بهم.
أما كونهم أعداء العلم فبيَّن المؤلف ذلك إجمالاً وتفصيلاً فقال: (كان الإسلام
في أول أمره نهضة عربية، والمسلمون هم العرب، وكان اللفظان مترادفين، فإذا
قالوا: العرب أرادوا المسلمين، وبالعكس؛ ولأجل هذه الغاية أمر عمر بن الخطاب
بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب.. .. - إلى أن قال: - وتمكن هذا
الاعتقاد في الصحابة لما فازوا في فتوحهم وتغلبوا على دولتي الروم والفرس، فنشأ
في اعتقادهم أنه لا ينبغي أن يسود غير العرب ولا يتلى غير القرآن إلخ) .
(أما في الصدر الأول فقد كان الاعتقاد العام أن الإسلام يهدم ما كان قبله
فرسَخ في الأذهان أنه لا ينبغي أن ينظر في كتاب غير القرآن إلخ.
(فتوطدت العزائم على الاكتفاء به عن كل كتاب سواه، ومحو ما كان قبله
من كتب العلم في دولتي الروم والفرس كما حاولوا بعدئذ هدم إيوان كسرى وأهرام
مصر وغيرها من آثار الدول السابقة) إلخ (الجزء الثالث صفحة ٣٩) .
(وبناء على ذلك هان عليهم إحراق ما عثروا عليه من كتب اليونان والفرس
في الإسكندرية وفارس) إلخ (الجزء الثالث صفحة ١٣٥) .
***
حريق خزانة الإسكندرية
لم يقتنع المؤلف بذلك فعقد بابًا لإثبات أن حريق خزانة الإسكندرية كان بأمر
عمر بن الخطاب وأطال وأطنب في ذلك واستدل عليه بستة دلائل [١٧] نحن نذكرها
مع الرد عليها إجمالاً:
قال: أولاً - (قد رأيت فيما تقدم رغبة العرب في صدر الإسلام في محو كل
كتاب غير القرآن بالإسناد إلى الأحاديث النبوية وتصريح مقدمي الصحابة) الذي
ذكر قبل ذلك (انظر صفحة ٣٩ ٩) وحُوِّل عليه ههنا أقوال منها: (إن الإسلام يهدم
ما كان قبله) وكلنا يعرف أن المراد به إبطال عوائد الجاهلية ومزعوماتها وليس
المراد محو الكتب أو إحراق الخزائن ولكن لما كان المؤلف دخيلاً فينا غريب الذوق
والمعرفة حمل الكلام على غير محله أو لعله عارف يتجاهل وبصير يتعامى.
ومنها قول النبي عليه السلام: (لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا
آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد) وأي متعلق في هذا؟ بل هو
مخالف لما يريده المؤلف فإن الحديث يأمر بالإيمان بما أنزل إلى أهل الكتاب، أما
الإغفال عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم فلأجل كون أهل الكتاب غير موثوق بهم
في الرواية، ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم (رأى في يد عمر ورقة من
التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال: ألم آتكم بها بيضاء نقية، والله
لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي) وهذا لا مستند فيه للمؤلف فإن النبي صلى
الله عليه وسلم خاف على عمر عنايته بالتوراة والتصديق بكل ما فيها مع كونها
مغيَّرة لعبت بها أيدي النَّقَلة؛ ولذلك قال: ألم آتكم بها بيضاء نقية وهذا لا يستلزم
بل ليس فيه أدنى إشارة إلى محوها وإلحاق الضرر بها ونزيدك إيضاحًا للكلام بما
فيه ثلج الصدر وفصل الخطاب، فاعلم أن عمود الإسلام وقطب رحاه هو القرآن
وعليه المعول وهو المستمسك في كل باب وكان هو العروة الوثقى في ذلك العصر
للصحابة وأهل القرن الأول، والقرآن له عناية كبرى بالتوراة والإنجيل وهو الذي
نوّه بذكرهما وعظم شأنهما، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) ، (والمراد بالذكر التوراة) - {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى} (المائدة: ٤٤) - {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ
لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة: ٦٦) - {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ} (آل عمران: ٥٠) - {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ} (يوسف: ١١١) ، (أي التوراة والإنجيل) .
ولأجل ذلك كان عدة من أجِلَّة الصحابة منقطعين إلى قراءة التوراة والإنجيل
والاعتناء بحفظهما ودرسهما ولم يكتفوا بها بل أخذوا يروون ويتفاوضون كل ما
وجدوا من أقاصيص أهل الكتاب ومروياتهم وقد اعترف بذلك المؤلف نفسه فقال:
(وقد رأيت أن العمدة في التفسير على النقل بالتواتر والإسناد من النبي
فالصحابة فالتابعين، والعرب يومئذ أميون لا كتابة عندهم فكانوا إذا تشوقوا إلى
معرفة شيء مما تتوق إليه نفوسهم البشرية من أسباب الوجود وبدء الخلقة وأسرارها
سألوا عنه أهل الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى - إلى أن قال -: فكانوا إذا
سُئلوا عن شيء أجابوا بما عندهم من أقاصيص التلمود والتوراة بغير تحقيق
فامتلأت كتب التفسير من هذه المنقولات (الجزء الثالث صفحة ٦٤) .
(يتلى)
((يتبع بمقال تالٍ))