للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محيي الدين آزاد


كتاب الخلافة الإسلامية
مُؤَلِّفُهُ باللغة الأوردية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
مُتَرْجِمُهُ بالعربية
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى ...
باب (الخلافة)
(الخلافة) : مصدرٌ من خلف يخلف خلافة، ومنها (الخليفة) من قولك
(خلف فلانٌ فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده (ابن فارس) فالخليفة
(: هو الذي يخلف مَن قبله، ويقوم مقامه، إما بموته، أو عزله، أو غيبته، أو
نصبه إياه في منصبه وسلطته، وفي مفردات الإمام الراغب الأصفهاني:
(الخلافة: النيابة عن الغير، إما بغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه،
وإما لتشريف المستخلف) (ص١٥٥) .
وهذه الكلمة أيضًا من تلك المختارات اللغوية التي اختارها القرآن الحكيم،
فنقلها من معانيها اللغوية إلى المعاني المصطلحة الشرعية (كالإيمان والغيب
والتقدير والبعث والصلاة) وغيرها من الكلمات التي انتقاها من اللغة لمعنى
خاص به، فكلمة (الإيمان) مثلاً تُستعمل في اللغة لليقين، والطمأنينة، وزوال
الخوف، والشك، ولكن القرآن يستعملها في يقينٍ أخص من الأول، يصحبه إقرارٌ
باللسان، وعملٌ بالجوارح، فصارت اصطلاحًا خاصًّا، دالةً على معنى خاصٍّ به
دون دلالتها في اللغة.
وكذلك كلمة (الخلافة) كان معناها عامًّا في اللغة، فوضعها القرآن لمعنى
أخص من الأول، واستعملها (وكذلك الاستخلاف في الأرض، ووراثتها والتمكين
فيها) في العظمة القومية، والرئاسة المِلِّيَّة، والحكومة العامة، والسلطة التامة على
الأرض، ومَن فيها من الأمم والشعوب، ويعدها أكبر مِنَّةٍ، وجزاءٍ من الله سبحانه
تناله الأمم في هذه الحياة الدنيا على إيمانها وحُسن عملها.
أما المراد من هذه الخلافة: فهو أن تقوم في الأرض أمةٌ، وحكومةٌ تأخذ على
عاتقها هداية النوع البشري وسعادته، وتنشر لواءَ القسط الإلهي، وتمحق الظلم،
والجور، والضلال، والطغيان؛ حتى لا تذر له أثرًا على وجه البسيطة، وتمد
رواق الأمن والسكينة، والراحة، والطمأنينة على العالم بأسره، وتقيم ناموس
العدل الإلهي الذي يسميه القرآن (بالصراط المستقيم) الذي هو نافذ من الأرض
إلى السموات العلى، ومِن ذرات الرمل في الصحراء إلى الشمس، والقمر،
والنجوم، وما هو تحت الثرى، فتقيم ذلك الناموس في مشارق الأرض، ومغاربها،
وتنفذه في جميع بقاعها ونواحيها؛ حتى تصبح الكرة الأرضية جَنَّةً، ودارَ قرارٍ،
وتكون السعادة ضاربةً فيها بأطنابها، والأمنية باسطةً جناحيها من فوقها!
وإنما أُطلِقَ لفظُ الخلافة على هذه الخلافة المصطلحة؛ لأن أول أمةٍ، وأول
فردٍ لما قام في الأرض بأعباء الخلافة - كان نائبًا عن الله في إقامة عدله، ثم الذين
جاءوا بعد تلك الأمة، وذلك الفرد كانوا نائبين عنهم في هذا الأمر، حتى ظهر
الإسلام، وقامت الأمة الإسلامية، فانتقلت الخلافة الأرضية الإلهية إليها، فكان
أول خليفةٍ مِن هذه السلسلة المباركة صاحب الشرع المتين، ورسول رب العالمين،
محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان خليفة الله العظيم مباشرة ثم الذين استووا بعده
على منصّة الحكومة الإسلامية المركزية، كانوا خلفاء هذا الخليفة الإلهي والنائبين
عنه في الدنيا؛ فلذا سُمُّوا الخلفاء، ولا يزالون يسمون به إلى الآن.
وقد تقلبت خلافة الأرض، ووراثتها في أمم كثيرة، قامت كلُّ واحدةٍ منها في
نوبتها بخدمة دين الله الحق، وقد ذكرت هذه الخلافة في الآيات الآتية:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: ١٦٥) ، {وَيَسْتَخْلِفُ
رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} (هود: ٥٧) ، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس: ١٤) ، {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف: ٦٩) ، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} (ص: ٢٦) .
وعبر عن هذه الخلافة (بوراثة الأرض) ، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: ١٠٥)
وأيضًا (بالتمكِين في الأرض) وهو استفحال القوة، وكمال العظمة الذي ناله فتى
إسرائيل في أرض الفراعنة، بعد أن بِيعَ فيها عبدًا، ثم وصل إلى عرش الحكومة،
وتاج المُلك بعمله الحق وسيره القويم {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} (يوسف: ٢١) .
وقد وعد الله به سبحانه المسلمين فقال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: ٤١) .
وثبت أيضًا من هذه الآية أن الله تعالى إنما يريد من التمكين في الأرض أن
تقام عبادته فيها، ويعم الصلاح، والصدق، والهداية فيها، ويصد الإنسان العَنُود
عن غيِّه، وعمل المنكر.
وعبر في الآية الأخرى عن التمكين في الأرض (بالخلافة) فقال تعالى:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور:
٥٥) .
نزلت هذه الآية العظيمة بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين من الكفار، ومحاطين بالأعداء من كل
جهة، يصبحون في السلاح، ويمسون في السلاح، فضجر منهم رجلٌ من هذه
الحالة، وقال: (ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ !) ، فبشرهم
الله بهذه الآية أن لا يهنوا، ولا يحزنوا؛ فإنه لا يضيع أجر إيمانهم، وحسن
صنيعهم، فسينالونه بإذنه، ويأمنون أعداءهم، فيذهب الخوف ويحل محله الأمن،
ويصيرون ملوكًا وسلاطين، فيكون الأمر أمرهم، والكلمة كلمتهم، وأكبر من ذلك
كله أن خلافة الله ستنتقل إليهم، فيرثونها، وتطمئن قلوبهم بها (ذكره الطبري
بالمعنى في تفسيره عن أبي العالية، ج ١٨ ص ١٠٩) .
وقد تضمن هذه الآية أن مراد القرآن الحكيم بالخلافة، إنما هو خلافة الأرض
أي الحكومة والسلطان فيها؛ فإذًا لا بد للخليفة الإسلامي من أن يكون صاحب الأمر
والنهي، والحكومة التامة؛ لأنه ليس كبابا المسيحيين، وبطاركتهم فأولئك سلطتهم
روحية، وهي خضوع القلوب، وانحناء الرُّءوس أمامهم، بل هو حاكمٌ وسلطانٌ
بالمعنى الحقيقي إلا أن سلطته يجب أن تكون تحت الشريعة الإلهية، وليس له حق
التشريع ألبتَّة [١] ، ولا أعطته الشريعة سلطةً دينيةً روحانيةً كما أعطت المسيحية
للبابوات؛ لأنها تُعِدُّ كل سلطةٍ لغير الله ورسوله شركًا به وكفرًا تمقته أشد المقت
وتمحقه من أول ظهوره [٢] قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن
دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) ، وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: ٧٩) .
هذا، وقد وفى الله تعالى للمسلمين وعده بالخلافة، كما وفى جميع وعوده
وعهوده، فلم يمضِ بضع سنين - والرسول بين أظهرهم - إلا وأصبحت جزيرة
العرب في قبضة يدهم، وشوهدت جيوشهم خارجة من أسوار المدينة لمقاومة الروم
أعداء دينهم، وسبقت خلافة الأرض إليهم، بعد أن نزعت من غيرهم، فكان أول
خليفة منهم هو حامل الشريعة الغراء بنفسه - صلى الله عليه وسلم -، ثم الذين
قاموا في مقامه من بعده كانوا خلفاءه، وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم -
بتسميتهم (خلفاء) أنهم ينوبون عنه بعده، فقال للمسلمين: (عليكم بسُنتي وسنة
الخلفاء الراشدين من بعدي) (رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية) ؛ ولذا
سمي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لما خلفه خليفة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -.
***
الخلافة النبوية الخاصة والخلافة الملكية
انصبغت الخلافة الإسلامية بعد النبي - عليه الصلاة والسلام - بصبغتين
مختلفتين، وظهرت بمظهرين متباينين، وكان - عليه السلام - قد أخبر عنهما،
ورفع الستار عن خصائصهما، والأحاديث التي وردت في هذا الباب تكاد أن تكون
متواترةً لكثرةِ طرقِها، وشهرة متونها، فخلافة الخلفاء الراشدين المهديين كانت
مصبوغةً بصبغة الرسالة، وسائرةً على منهاج النبوة، فكانت خلافة الرسول حقًّا،
والخلفاء الراشدون خلفاءه حقًّا، لا في منصة الحكم والسلطان فقط، بل في جميع
أعماله وهدْيه، فكانوا مثله دعاة الدين، هداة الأمم، قضاة الشرع، قادة الشعوب،
ساسة البلاد، قواد الجيوش، إخوة الحروب، رايات الأمن، قد اجتمعت في
شخص كلِّ واحدٍ منهم صفاتٌ كثيرةٌ مما كان مجتمعًا في شخص سلفِهم وهاديهم
صلى الله عليه وسلم، فكانوا خلفاءه وحاملي شرعه، بل حلقةً من حلقات عهد
الرسالة، وبركةً من بركات زمن النبوة، حكومتهم حكومة إسلامية محضةٌ،
ونموذجٌ كاملٌ للنظام الإسلامي، فكانت (حكومة جمهورية) قائمةً على أساس
الشورى بالمعنى الصحيح غير أنها لم تدم كثيرًا، بل ماتت بموت علي - عليه
السلام - ودفنت معه في أرض الكوفة.
ثم ظهرت بعد هذه الخلافة الراشدة، خلافةٌ في حُلَّةٍ غير حُلَّةِ أختها منحرفةٌ
عن منهاج النبوة، منقطعةٌ عن مسلك الرسالةِ، فكانت حكومةً دنيويةً ومُلكًا
عَضَوضًا، وذلك عندما فشت البدع العجمية، وامتزجت بالمدنية الإسلامية العربية،
ولدت جراثيم الفساد في فضاء العالم الإسلامي، فهذه الخلافة - وإن كانت كل
حلقةٍ منها أشبه بالخلافة الراشدة من التي جاءت بعدها - لم تكن في مجموعها من
محاسن الخلافة الراشدة في شيءٍ؛ ولذا سميت الأولى على لسان النبي - صلى الله
عليه وسلم - بالخلافة لغلبة الهداية والصلاح عليها، والثانية بالمُلك العَضَوضِ
لظهور الاستبداد والقهر فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون
سنة، ثم ملك بعد ذلك) [٣] وفي حديث أبي هريرة: (الخلافة بالمدينة، والملك
بالشام) [٤] ، وأخبر في حديث آخر بأن هنالك ثلاثة أدوارٍ: عهد نبوةٍ ورحمةٍ -
عهد خلافة ورحمة - عهد ملك وسلطان، فانتهى الدور الأول بالنبي - صلى الله
عليه وسلم - والثاني بعليٍّ - عليه السلام - كما مر وقد كان هذا الدور بالحقيقة
ذيلاً للأول وجزءًا لازمًا له، كما هو سنة الله في دعوة الأديان وتوثيق عرى
الشرائع، حيث يجعل الله لكل نبيٍّ خلفاء يقومون بعده بدعوته، ويوطِّدُون دعائم
شريعته، ثم جاء بعد هذا وذاك الدور الثالث، دور حكومة وملك عضوض، وهو
باقٍ على حاله إلى الآن، ولم يكن الصحابة يجهلون هذا الدور، ولا يستبعدونه،
بل كانوا يعرفونه، وينتظرون مجيئه لإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم
به.
وقد كان هذا الدور أكبر مصيبةٍ ابتُلِيت بها الأمة، فبعد أن كانت ترتع في
رياض النبوة، وتجني ثمار الخلافة الراشدة آمنةً مطمئنةً، إذ نَعق ناعق الشر بينها،
وقُتِلَ الخليفة الثالث عثمان بن عفان بين يديها، فتقلص ظل هدي النبوة شيئًا
فشيئًا، وذهبت بركاتها واحدةً تلو واحدةٍ، وأخرجت البدع رءوسها، وزحفت الفتن
بخيلها ورَجلِها، فأحاطت بها من كل جوانبها، فكلما ابتعدت الأمة عن عهد الرسالة
حرمت نصيبًا من بركاته، وبركات الخلافة الراشدة، ولم يكن حرمانها محصورًا
في أمر الإمامة العظمى، والخلافة الكبرى فقط، بل تعداها إلى غيرها، فتغلغلت
جراثيم الفساد في هيكلها الاجتماعي، فزعزت نظامها وقوامها، ثم سرت إلى
حياتها الشخصية، فأفسدت عقائدها، وعواطفها ونفثت في أعمالها سمومها،
فغيرت من صغيرها وكبيرها، ولم تكن فتنة واحدة أو فتنًا قليلة محصورة فيسهل
اتقاؤها، بل سالت سيولٌ من الفتن، دهمت المسلمين بغتة، فماجت عليهم أمواجها،
وثقلت عليهم وطأتها، فكانت كما قال أعلم الصحابة بالفتن حذيفة - رضي الله
عنه -: (تموج كموج البحر) ، وبيَّن لهم أنه ليس بينها وبينهم سد إلا عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه -وأنه متى سقط هذا السد المنيع طغت تلك السيول
الجارفة، وبغت، فلم يقدر أحدٌ على صدّها، فما زالت حتى أخذت الخلافة النبوية
في تيارها، وحطمتها، وتركتها أثرًا بعد عين.
نعم، وقع ما وقع، إلا أن الأمة المسلمة قد بُشِّرت على لسان نبيها بأنها
سترى في آخر أيامها دور نجاحٍ وفلاحٍ، فتقر به عينها، وينشرح صدرها،
وتصلح أمورها، حتى (لا يدرى أولها خيرٌ أم آخرُها) [٥] ، ويتم فيه نور الله
{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} (الصف: ٨) ... إلخ، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣٣) [٦] ؛ ولذا لا يزال قلب المؤمن قويًّا برجاء الله،
مملوءًا باليقين، لم يخالطه ريبٌ، ولا دخله زيغٌ، ولا صادفه قُنُوطٌ ويأسٌ، حتى
في هذا الزمان الذي انصبَّت فيه على المسلمين المصائب، ونزلت بهم النوازل،
وزُلزِلُوا فيه زِلزَالاً شديدًا، بل كلما ازدادت العواصف شدَّةً، والليل ظُلمةً،
والأرض عداوةً - يزداد المؤمن رجاءً ويقينًا، ويبصر بعينيه نور الصبح الجميل
من بين هاتيك الظلمات، والغيوم والعواصف، ولسان حاله يقول: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ
الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (هود: ٨١) .
***
فصل
عهد الاجتماع والائتلاف ودور التشتُّت والانتشار
قبل أن نخوض في غمار هذا البحث نتكلَّمُ في هذا الفصل على كلمتين
مصطلحتين زيادةً في الإيضاح، وتفصيلاً للبيان، فنقول:
(الاجتماع والائتلاف) كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،
فيهما سر حياة الأمم ومماتها، نهوضها وهبوطها، سعادتها وشقوتها، (فالاجتماع)
من الجمع، وهو ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض (مفردات ص٩٥) ،
ويقرب منه (الائتلاف) من الإلف، اجتماع من التئام (والمؤلَّف ما جُمع من
أجزاء مختلفة، ورُتب ترتيبًا فقُدِّم فيه ما حقه أن يقدم وأُخِّر فيه ما حقه أن يُؤَخَّر)
(مفردات ص١٩) ، أما (عهد الاجتماع والائتلاف) فهو ذلك العهد الذي تجتمع
فيه القوى الاجتماعية الفعالة في مكانٍ واحدٍ، في نقطةٍ واحدةٍ في سلسلةٍ واحدةٍ، في
ذاتٍ واحدةٍ، وفي يدٍ واحدةٍ بترتيبٍ طبيعيٍّ لائقٍ بها، فتصبح كل المواد والقوى
والأعمال الاجتماعية، وأفراد الأمة مُتماسِكةًَ متشابِكةً؛ حتى لا نرى فيها خَلَلاً، ولا
خَرقًا ولا فَتْقًا، بل تجدها كلها كحلقات السلسلة التي التحم بعضها مع بعضٍ،
فأضحت شيئًا واحدًا.
فدور الاجتماع والائتلاف إذا جاء على المادة، ظهر فيها الخلق، واستعدت
للحياة , وعبَّر القرآن عن هذا بالتخليق والخلق والتسوية (فقال: {الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى} (الأعلى: ٢) ، فالوجود والحياة ليس إلا اجتماع أجزاء المادة مؤتلفة،
وكذلك الموت والفناء ليس إلا تفرقها وتشتتها، وإذا جاء على الأعمال سماه علماء
الأخلاق) بالخير (وسمته الشريعة) بالعمل الصالح والحسنات (، وإذا جاء على
الجسم سماه علم الطب (بالصحة) ، وقال الطبيب هذه حياة، ثم إذا جاء على
القوى والأعمال الاجتماعية القومية سمي (بالحياة الملّية الاجتماعية) ، وكان
موجبًا لنبوغ الأمة ونفوذها وسلطانها، فالعبارات مختلفةٌ كثيرةٌ، والحقيقة واحدةٌ،
لا تتعدد ولا تتبدل، ولا غَرْوَ فإن الله الحكيم واحدٌ منفردٌ وحكمته واحدةٌ وناموسه
واحدٌ ولَنِعْمَ ما قيل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكلٌّ إلى ذلك الجمال يشيرُ
وضد الاجتماع والائتلاف (التشتت والانتشار) فالتشتت من (الشتات) ،
ومعناه في اللغة: التفرق، يُقال شتّ جمعهم شتًّا وشتاتًا وجاؤوا أشتاتًا أي متفرقي
النظام (مفردات ص ٢٥٦) وفي القرآن: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} (الزلزلة: ٦) ، {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} (طه: ٥٣) {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر:
١٤) أي مختلفة، والانتشار من النشر، وهو أيضًا التفرق والبسط كما في القرآن
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: ١٠) .
وأما دور (التشتت والانتشار) : فهو أن تتفرق المواد، والقوى، والأعمال
والأفراد، فيصير كل شيء على ضد ما كان عليه في عهد الاجتماع، فإذا عرضت
هذه الحالة للمادة قيل (فسادٌ وانحلالٌ) ، وللجسم قيل (مرض وداء ثم موت) ،
وللأعمال قيل في تعبير القرآن (عمل السوء والعصيان والفسق والإجرام) ،
وللأمم قيل: (الموت الملي، والموت الاجتماعي) ، فتصبح الأمة في هذا الدور
في هبوطٍ بعد الصعود، وذلةٍ بعد العزة، وضعفٍ بعد القوة، وعبوديةٍ بعد الحرية
والسيادة، ثم تسير إلى الموت والهلاك بعد أن كانت صحيحة ًقويةً حيَّةً، فيا له من
بلاءٍ ليس فوقه بلاءٌ، والعياذ بالله!
ولذلك تجد القرآن ينبه مرة بعد مرة على أن (الاجتماع والائتلاف) الأساس
الأكبر لحياة الأمم، ويعده أكبر نعمة من الله سبحانه على البشر، ويعبر عنه
بالعبارات العظيمة الشأن (كالاعتصام بحبل الله) وغيره، ويقول للأمة:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: ١٠٣) ثم يخبر بعد هذا
بأن لا حياة مع التشتت والانتشار، فإنه نارٌ موقدةٌ تحرق كل شيءٍ يقربها، ولا
سيَّما شجرة الحياة الاجتماعية، فإنها إذا مستها لا تُبقِي عليها ولا تَذر، فقال تعالى:
{وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: ١٠٣) ، ثم يخبر بأن الحياة الاجتماعية في الأمم ليست من تدبير
البشر [٧] ، فمهما بلغ الإنسان من القوة، والعظمة والعقل - لا يقدر على أن يكون
أمةً، بل هو الله الواحد القادر، يجمع الأشتات فيؤلف بينها ويسلكها في نظام واحد،
فقال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: ٦٣) .
وأخبر القرآن أيضًا بأن أول ثمرةٍ تثمرها الشريعة الإلهية، وأعظم بركة
تجود بها على النوع الإنساني في الدنيا هي (الاجتماع والائتلاف) ، وكرر مرةً
بعد أخرى أن التفرق، والتشتت، والانتشار لا يجتمع مع الدين أبدًا، وأنه عاقبة
الإعراض عن الله، وعصيانه، والبغي عليه، فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: ٢١٣) {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى
جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} (يونس: ٩٣) {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الجاثية: ١٧) .
ولذلك جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام والحياة الإسلامية في
الجماعة، وعدَّ الخروج عنها من الجاهلية، والحياة الجاهلية، فقال: (مَن فارقَ
الجماعةَ فمات فمِيتَتُهُ جاهليَّةٌ) (كما ستراه مفصلاً إن شاء الله) ، وأمر المسلمين
أمرًا مؤكدًا بالتزام الجماعة في كل حال، وبطاعة الأمير سواءً كان برًّا أو فاجرًا،
أهلاً للإمارة أو غير أهل، عادلاً في حكمه أو ظالمًا، كيفما كانت سيرته، ومهما
فسدت طريقته يجب عليهم طاعته، ولا يجوز لهم الخروج عليه، إلا أن يَمرُقَ مِنَ
الدين جهارًا، أو يترك الصلاة؛ فحينئذٍ لا طاعة له عليهم [٨] ، وأخبر أن كلَّ من
تَنَكَّبَ عن الجماعة شبرًا فقد كُبَّ على وجهه في النار، وجعل زمامه بيد الشيطان،
وقضى على نفسه بالخسران والهلاك؛ وذلك لأن الجماعة كالسلسلة الفولاذية التي
يعيي الأشداءَ كسرُها، وآحاد الأمة كالحلقات التي سلامة كل واحدةٍ منها في سلسلتها؛
فإنها إن انفصلت عنها صارت حلقةً واحدةً تُكسرُ أو تُلقى في الزُّبالةِ.
ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كثيرًا ما يروي
في خُطبهِ: (عليكم بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الفَذِّ، وهو من الاثنين أبعد) ،
وفي رواية: ( ... فإن الشيطان مع الواحد) ، وقد ذكره في خطبته الشهيرة
بالجابية، التي رواها عبد العزيز بن دينار وعامر بن سعد وسليمان بن يسار
وغيرهم ونقل البيهقي أن الشافعي - رضي الله عنه - كان يستدل بهذا على صحة
الإجماع، وورد في الحديث المتواتر بالمعنى -: (عليكم بالسواد الأعظم) ،
وحديث: فإنه مَن شذَّ شذَّ في النار) وحديث: (يد الله على الجماعة) وحديث:
(لا يجمع الله أمتي على الضلالة) ، وكما قال عليٌّ - عليه السلام - في خطبة
له: (إياكم والفُرقة؛ فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب،
ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه) [٩] ، وغير هذا
كثيرٌ من الأحاديث والآثار في هذا الباب.
فجملة القول أن المسلمين أُمِروا أمرًا مؤكدًا بأن يكونوا مع الجماعة أبدًا؛ لأن
مَنِ انقطع عنها انقطع في النار؛ ولأن الأفراد والآحاد المتفرقة لا حياة لهم، بل
إنما هم للموت، والفناء، والهلاك، وأما الأمة الصالحة فحياتها باقيةٌ على وجه
الدهر، ولن تهلك أبدًا؛ ولأن يد الله مع الجماعة، وهو لا يرضى أن تجتمع الأمة
بأسرها على الضلالة.
ولتعويد المسلمين على الحياة الاجتماعية [١٠] أمرتهم الشريعة بالتزام صلاة
الجماعة في كل حالٍ، حتى إنها لا تُترك لفقدان الإمام الأهل للجماعة، بل يداوم
عليها مع السعي في نصبِ الأهلِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا خلف كل
بَرٍّ وفاجِرٍ) [١١] .
ولذلك نرى سورة الفاتحة التي هي دعاءٌ اجتماعيٌّ للمؤمنين عامَّةً يدعو بها
كلُّ واحدٍ منهم على حدته - استعملت فيها صيغ الجمع لا الواحد، فقال: {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: ٦) ، ولم يقل: (اهدني) ؛ وذلك لأن القرآن -
كما قلنا من قبل - لا يَرَى للفرد حياة قائمة بالذات، بل الحياة عنده للجماعة فقط،
وما الأفراد وأعمالهم - في نظره - إلا لأن تتكون منهم، ومنها الهيئة الاجتماعية؛
فلهذا عبر بصيغ الجمع في هذا الدعاء الذي هو حاصل الإيمان، وزبدة القرآن،
ومخ الإسلام - وكذلك جعل الدعاء الذي يدعو به كل مسلم لأخيه لما يلقاه: (السلام
عليكم) بالجمع، لا (السلام عليك) ، وكذلك السلام حين الخروج من الصلاة،
والعلة فيه أيضًا ما ذكرناه، لا ما فهمه كثيرٌ من الناس.
وإنك إذا أمعنت النظر ترى جميع أحكام الشريعة وأعمالها - مبنيةً على هذا
الأساس، أساس الاجتماع، والائتلاف، وقد علمت ما في صلاة الجماعة،
والجمعة والعيدين، ومثلها الحج، فليس هو إلا عبارةٌ عن اجتماع المسلمين (على
أحاديث شعائر الله) ، وكذلك الزكاة التي ما جُعلت إلا لقيام الهيئة الاجتماعية،
فيؤخذ مِن رءوس أموال الأفراد شيءٌ مُعَيَّنٌ؛ ليُصرَفَ على الجماعة، وطريقة
أدائها أيضًا اجتماعية، فليس لكل أحدٍ أن يصرف زكاته بمشيئتِه وإرادته، بل عليه
أن يؤديها إلى الإمام الذي له وحدَه أن ينفقها في الأمور العامة، ويعين لها مصرفًا
مِن المصارف المنصوصة في الكتاب، لا كما يفعله الناس في الهند فينفق كلُّ واحدٍ
زكاته بنفسه، نعم ليس في هذه البلاد التعسة إمامٌ، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نعمل
لها نظامًا مخصوصًا كما عملنا للجمعة والعيدين.
ولعمر الله إن هذه الحقيقةَ واضحةٌ لا غُبار عليها، تنجلي كالشمس لمَن دقق
النظر في الأحاديث النبوية التي تنص على أن المسلمين يجب أن يعيشوا عيشةً
واحدةً، ويحسبوا أنفسهم أبناء أمةٍ واحدةٍ؛ فانظر مثلاً حديث مُسلمٍ: (مَثَلُ
المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى
منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، وحديث الصحيحين:
(المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشُد بعضه بعضًا، ثم شبّك بين أصابعه) ، فأوضح
صلى الله عليه وسلم أن المسلمين ليسوا آجُرًّا أو حجارةً متفرِّقةً، بل هم جِدارٌ، بل
حِصنٌ مُشيَّدٌ يشد بعضه بعضًا، ولا يذهبنَّ عن بالك أن الأمر بتسوية الصفوف في
الصلاة إنما هو لنفس هذه الحكمة، قال صلى الله عليه وسلم: (لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو
ليخالفنَّ الله بين وجوهكم) (البخاري) وفي رواية السنن: (سوُّوا صفوفكم؛ فإن
تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) (البخاري) ، ومثلُهُ كثيرٌ من الآيات،
والأحاديث في هذا الباب، يحتاج في شرحها وبيان حقائقها إلى مجلدٍ ضخمٍ، وقد
وفينا البحث حقه في تفسيرنا (البيان في مقاصد القرآن) ، فليراجعْهُ مَن يشاءُ.
((يتبع بمقال تالٍ))