للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدولة العلية ومكدونية

نجم من عدة أشهر ناجم من الثورة في بلاد مكدونية فشخصت له أوربا
وأسرعت روسيا والنمسا إلى الدولة العلية بالنصيحة والحث على تلافي الأمر
والمسارعة إلى إصلاح البلاد ووضعتا للإصلاح (لائحة) عرَّفتا بها سائر الدول ثم
قدمتاها إلى الدولة ملحّتين في المبادرة إلى قبولها فلم تلبث الدولة أن قبلتها على
عِلاَّتها خلافًا لعادتها في التريث والليِّ.
ومن موضوع اللائحة وجوب استعمال الأوربيين في الإصلاح؛ لأنه لا ثقة
لأوربا برجال الدولة وقد ساء هذا معشر الألبانيين ولم يقع موقعه من نفوس معاشر
المسيحيين؛ لأن نفوسهم طمعت بالاستقلال، فكل ما دونه يعد عندهم من ألاعيب
الأطفال.
كان في أثر ذلك أو معه حركة في البلغار وهزة في (السرب) ، وطاف في
الأذهان أن هذه الفتنة ستعم بلاد البلقان، وظهرت من بعض الدول العظام أمارات
الاتفاق مع روسيا والنمسا، ومن بعضهن علائم السكوت وعدم المعارضة،
واختلفت الظنون في نية روسيا فجنح بعضٌ إلى ترجيح كفة السلم من جانبها؛ بدليل
نصائحها المتتابعة للبلغاريين وغيرهم من شعوب البلقان بأن يخلدوا إلى السكينة
ويتفيّؤوا ظلال الهدوء والمسالمة، ومال بعض إلى ترجيح كفة الحرب بدليل التقاليد
القديمة التي وضعها بطرس الأكبر في وصيته (التي نشرناها في الجزء الماضي)
وما يصدق ذلك من أخبار استعدادها الحربي في هذه الأيام.
الحق أن لكل من الرأيين وجهًا وجيهًا، وأن سياسة روسيا أصبحت دقيقة
المسالك مشتبهة الأعلام فبينا ترى قيصرها ينادي بوجوب تعميم الأمن والسلام،
ومد ظلاله على رؤوس جميع الأنام، تراه يستعد للكفاح استعدادًا صوريًّا ومعنويًّا.
فأما الصوري فبإنشاء الأساطيل وتكثير الأسلحة وإتقان العلوم العسكرية، وأما
المعنوي: فبمحالفة بعض الدول القوية ومسالمة بعض. ولقد كان الإنكليز عون الدولة
العثمانية على روسيا فحال لوْن السياسة الجامعة بينهما وتغير شكلها وتبدل السلطان
عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ شديد الجشع، قوي الطمع إذا رأى
روسيا وقد جدَّ جدها يكتفي منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا
يطوف في خاطر عاقل أنه يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان إذا نزل مع
الروس في ميدان الطعان!
كانت قلوب المسلمين في العيدين محوّمة فوق بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج،
كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من
هم مراكش، همّ الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله تعالى) ولا خوف عليها إلا من
روسيا. فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم بنيران الثورة اضطرامًا ولا
تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة تنتظر حينئذ استقلال مكدونية
أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب الجديد في سير أوربا بالمسألة
الشرقية مذهب التفكيك وتحليل العناصر، وهذا المذهب خير لدول أوربا وأسهل
طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتوح والتغلب؛ لأن هذا يعوزه الاتفاق على ما
يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة، وسفك دماء عزيزة هو خير
للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر ينحل من عناصر بلادهم
وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم كيف يحفظ الباقي فإذا لم
يتعلموا بتكرار النُّذر وأنواع العبر، وكانوا يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا
يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، فهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّان يبعثون!
مسألة مكدونية مسألة عشواء والحكم فيها غامض لما تقدم؛ ولأن النصارى فيها
وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوربا وما يدانيها كبلاد الأرمن قد
توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوربا نصيرة لهم وأن الذريعة الوحيدة
لإثارة نعرتها عليهم وتصدِّيها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي تضطر
الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم ولعل أوربا في مجموعها وروسيا
حاضنة جراثيم فكر الاستقلال في البلقان في خاصتها تعجز عن ضبط حركة هذه
الثورة التي تولدت وتأصلت ورسخت واندفعت عن بصيرة أو غير بصيرة.
هذا ما يُخشى على تقدير إرادة روسيا إطفاء الثورة والاكتفاء بما طلبت من
الإصلاح فكيف إذا كانت تريد شيئًا آخر؟ !
وماذا يجب على الدولة أن تفعله في هذه الفتنة وماذا يجب عليها أن تفعله في
نفسها لأجل مستقبلها؟
أما الأول: فالظاهر أن الذي تعمله الآن من إجابة طلب روسيا والنمسا إلى
الإصلاح الذي طلبتاه بدون تحوير ولا تأخير ومن اختيار الموظفين الأوربيين
للإصلاح من الأمم الأوربية الضعيفة ومن الاستعداد للكفاح إذا طرأ ما هو أعظم من
ذلك هو الواجب الذي لا يمكن غيره.
وأما الثاني: فإن الجواب عنه لا يفهم ويقبل إلا بعد العلم بأمور كثيرة أهمها
(مالية الدولة) وإن لدينا رسالة مطولة أو كتابًا صغيرًا في ذلك لأحد الكُتاب
العثمانيين مستقًى من الينابيع الرسمية وإننا ننشره تِبَاعًا في أجزاء المنار ليصح
للقارئين معرفة الدولة وما يجب أن تعمله لتنجو من الخطر.
وإن فهم حقيقة الدولة مما لا بد منه للمشتغلين بمسألة الإصلاح الإسلامي لما
لهذه الدولة من المكانة في الوجود ومن المكانة في نفوس المسلمين في جميع أقطار
الأرض. ولهذا أخذنا على أنفسنا أن نكتب في كل جزء من منار هذه السنة شيئًا
عن الدولة العلية من بيان حقيقة وجودية ورأي معقول نرجو الانتفاع به. ونتجنب
في ذلك المدح والذم للأشخاص المعينين.