للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدنية العرب
نبذة رابعة

مدرسة بغداد وطريقة علمائها. اعتراف الإفرنجة لهم بالفضل. الأرصاد
المأمونية. أبو الوفاء الفلكي الميكانيكي واختراعاته ومصنفاته. التتار واهتداؤهم
ونصرهم للعلم. مرصد مراغة وامتيازه. الفلك في مصر. ابن يونس والزيج
الحاكمي ومرصد المقطم. اختراع الربع المثقوب وبندول الساعة الدقاقة. الفلك في
الأندلس والمغرب.. ..
ألمعنا في النبذة الماضية باشتغال علماء الإسلام بالفلك وما كان لهم من
الاكتشاف والتنقيح والتصنيف ألا وإن مدرسة بغداد كانت منبع هذا العلم كغيره
ومنها استمد سائر المسلمين الذين استمد من سؤرهم الغربيون بل الذين ترك أبناؤهم
تراثهم للأجانب فاستأثروا به وأنموه وصار مفخرًا لهم وحجة علينا. ولا يزال
فضلاؤهم يعترفون لنا بهذا الحق. قال بعض مؤرخي الإفرنجة: إن العرب
استقاموا عدة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد واتبعوا قواعدهم
وهي الانتقال من المعلوم إلى المجهول والوقوف على حقيقة الحوادث الفلكية
والانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب لا يعولون إلا على ما
اتضحت صحته وعرفت حقيقته , ولهذا عَوَّلَ مَنْ بعدهم على مؤلفاتهم واعترف
ثابت بن قرة بأن ما في يده من الأرصاد الموضوعة في زمن المأمون كافية في تقدم
علم الفلك , ومما يقضي بالعجب على الأوربيين أن العرب وصلوا إلى تلك الغاية
من المعارف الفلكية في بغداد من غير مرقب (تلسكوب) ولا إسطرلاب.
ذكرنا أن الذين نبغوا في علم الفلك على عهد عضد الدولة وأخيه كثيرون.
ومن أشهر هؤلاء أبو الوفاء محمد بن محمد الحاسب الذي اعترف بفضله المجمع
العلمي في باريس فقد أتقن هذا مع علم الفلك علم الميكانيكا ورصد ميل وسط منطقة
البروج (الأكليتيك) سنة ٣٨٥هـ - ٩٩٥ م برفع دائرة نصف قطرها خمسة
عشر ذراعًا وترجم لأول مرة كتاب ديوفنط وألف معادلة المركز والاختلاف القمري
السنوي أي الذي يحصل في سير القمر سنويًّا , وأظهر في حساب سير القمر
اختلافًا ثالثًا وهو ما حسبه (تيكو براحه) الفلكي بعد ستة قرون من وفاة أبي الوفاء
الذي صحح الأرصاد القديمة حين رأى شرح بطليموس على القمر غير متقن وألف
كتبًا كثيرة أعلاها المجسطي الذي بين العلائق الغامضة بين أشكال الدوائر بما
اخترعه من قواعد الخطوط المماسة والخطوط المتقاطعة التي جرى عليها
المهندسون في حساب المثلثات واقتدى الأوربيون فيها بالعرب إلى هذا العصر ,
وكان علماء العرب قد استبدلوا الجيوب بالأوتار على عهد البتناني الذي تقدم ذكره
وعام وفاته أي قبل أبي الوفاء بقرن كامل. ومن مشاهيرهم البيروني وأبو سهل
الفلكي الذي حدد ثانيًا حركات الكواكب السبعة السيارة.
***
الفلك في أعاجم المسلمين
جلّت عناية الله في الدين الإسلامي واللغة العربية فإن التتار الوحوش الجهلاء
زحفوا على البلاد الإسلامية ليبيدوها فلم يكن بعد انتصارهم إلا ريثما مازجوا
المسلمين المغلوبين على أمرهم وعرفوا شيئًا من لغتهم حتى كشف عنهم الغطاء
فأبصروا نور الإسلام يتلألأ ويضيء الأرجاء فتنكشف به الحقائق وتستجلى الدقائق
دخلوا في الإسلام وكانوا أعوانًا للعلم وأنصارًا بل تسابق العلم والدين إلى عقولهم
فتارةً كان الأول يهدي إلى الثاني , وطورًا كان الثاني يرشد إلى الأول , ولا غرو
فهكذا شأن السبب مع المسبب والعلة مع المعلول. جمع هلاكو خان (وقد اختلف
المؤرخون في إسلامه) العلماء الرياضين والفلكيين وغيرهم واختار منهم نصير
الدين الطوسي فأفاض عليه الأموال فجمع الكتب الفلكية من بغداد، والشام ,
والموصل , وخراسان , وبنى بالمراغة المرصد المشهور وجعل في قبته ثقبًا تعرف
بأشعة الشمس النافذة منه درجات ودقائق سيرها اليومي وارتفاعها في كل فصل
فكان ذلك منه استعمالاً جديدًا للربع المثقوب الذي استعمله العرب من قبله. وجعل
في المرصد دوائر رصدية كبارًا وأرباع دوائر وكرات سماوية وأرضية وجميع
أنواع الإصطرلاب واستعمل فيه كثيرين من العلماء. وبنى ألوغ بيك مرصدًا في
دمشق ولما أتم كوبلاي خان أخو هلاكو فتح الصين نقل مؤلفات علماء بغداد إليها ,
وخلف ابنُ الشاطرِ الطوسيَّ فعمل أزياجًا اعتمد عليها العلماء بعده , ولا ننسى أن
تيمورلنك وأولاده نصروا العلم بعد ذلك العيث والإفساد ومرصدهم في سمرقند كان
مشهورًا.
***
علم الفلك في مصر والأندلس والغرب الأقصى
قضت سنة الله - تعالى - بأن يكون نمو العلوم والفنون على حسب قوة
الدولة وسعة العمران لذلك تقلصت ظلال المعارف من بغداد بعدما أفلت شمس
العباسيين على ما بينا قبل. ولما دالت الدولة إلى الفاطميين في مصر طار
المشتغلون بالعلم في جو السماء يسامرون النجم الثاقب ويسايرون الفلك الدائب
وقد انتهت رياسة هذا الفن في القاهرة إلى ابن يونس الفلكي الشهير صاحب
الزيج الحاكمي ومرصد جبل المقطم المتوفى سنة ٣٨٩هـ.
جرى ابن يونس هذا على آثار أبي الوفاء الذي نوهنا به آنفًا واتبع خطواته
ونظر في مؤلفات علماء بغداد وغيرهم وانتقد على أزياج النيريزي (الذي نوهنا به
في النبذة الثالثة) بعدم استقصائه في إصلاح أغلاط الفلكيين على أنه اعترف بفضله
واستفاد من أزياجه , وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب وبندول الساعة الدقاقة وقد
خلف في الشرق كله المجسطي البطليموسي ورسائل علماء بغداد وظهر زيجه في
الفرس من بعده بنحو سبعين سنة. ومن مشاهير الفلكيين الأولين في مصر العتقي ,
وممن جاء بعد ابن يونس حسن بن هيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابًا ومجموعًا
في الأرصاد، وشرح المجسطي وتعاريف مبادئ إقليدس , وقد انتفع بأزياجه
المسلمون من بعده واعتنى نصير الدين الطوسي بالزيج الحاكمي فعمل لتحقيقه
أرصادًا استغرق عملها اثنتي عشرة سنة ولو عملها على الحساب الأول لاحتاجت
إلى ٣٠ سنة.
وأما الأندلس , وبلاد مراكش فقد نبغ فيهما كثيرون في الفلك، وقد اقتبس
منهم الأوربيون أكثر مما اقتبسوا من عرب المشرق وكان الفيلسوف ابن رشد فلكيًّا
ألف في مساحة المثلثات الكروية وعزي إليه شرح على المجسطي، وظن أن نقطةً
سوداء في قرص الشمس يوم عرف من الحساب الفلكي زمن مرور كوكب عطارد.
ومن أشهر فلكيي الأندلس مسلمة المجريطي , وابن أبي طلحة الذي عمل في
ثلاثين سنة أرصادًا مشهورة بالصحة واحتذى مثاله وجرى على أثره أرزاقيل الفلكي
فعمل في تحديد أوج الشمس من الأرصاد ٤٠٢ وأرصاد أخرى لمبادرة حركة
الاعتدالين وألف الأزياج الطليطلية (نسبة إلى طليطلة إحدى مدائن الأندلس)
والأقوال الفرضية في تباعد الشمس عن مراكز أفلاك الكواكب السيارة , ومنهم جابر
ابن أفلح الشبلي الذي ترجمت رسالته إلى اللغة اللاتينية.
ومن أشهر فلكيي المغرب الأقصى البتراش المعاصر لابن رشد الذي رأى
عدم انتظام دوائر المجسطي المتداخلة والمتقاطعة الدائرة حول مراكز الأفلاك
فاخترع في ترتيب الأفلاك والمراكز مذهبًا جديدًا بناه على رفض الفرضيات الفلكية
الباطلة التي كان يجهلها المتقدمون , ومنهم أبو الحسن صاحب كتاب البدايات
والنهايات الذي طاف شبه جزيرة الأندلس وجزءًا عظيمًا من شمال أفريقية وحرر
ارتفاع القطب الشمالي في ٤١ مدينة أولها أفرانه على الساحل الغربي من بلاد
المغرب وآخرها القاهرة , فأين تلك الهمم العالية في تحرير مسائل العلوم والعزيمة
الماضية في جوب الأقطار وقطع أجواز البحار؟ أواه إنني أسمع الكون الأعظم
يجاوبني قائلاً: إن هذه الروح قد انتقلت من المسلمين إلى الأوربيين والأمريكيين.
حتى صار الأولون يعجبون من الآخرين. عندما يرونهم سائحين ومؤلفين
ومخترعين ومكتشفين. وقد جهل المسلمون مآثر أسلافهم ولكن حفظها الأوربيون ,
فإنا لله وإنا إليه راجعون
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا ... مدى الدهر ما أبدوا من الفضل معجما
متى يذكر الأفضال فيهم خطيبهم ... على منبر صلى علينا وسلما
((يتبع بمقال تالٍ))