للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: مهاتما غاندي


الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي

الباب الثاني
الجسم الإنساني
الكون مركب من خمسة عناصر: التراب والماء والهواء والنار والأثير [١]
وكذلك الجسم الإنساني الذي هو مثال مصغر للكون؛ ولذلك يحتاج الجسم إلى قدر
متناسب من جميع هذه العناصر: التراب النقي، والماء النقي، والنار أو النور
النقي، والهواء النقي، والمكان الطلق، فإن حصل نقص أو زيادة في القدر
الضروري من هذه الأشياء فالمرض واقع لا محالة.
الجسم مُكَوَّنٌ من الجلد والعظام والدم واللحم، فالعظام هي التي تكوِّن الهيكل
الجسدي، إذ لولاها لما أمكننا أن ننتصب أو نتحرك أو نمشي، وهي التي تحمي
الأجزاء اللينة الرخوة من الجسم، فالجمجمة تحمي الدماغ، والأضلاع تحمي القلب
والرئتين، وقد أحصى الأطباء العظام في الجسم الإنساني فوجدوها تبلغ ٢٣٨
عظمًا. إن ظاهر العظام كما لا يخفى صلب، وباطنها رخو مجوف، وهي متصلة
بعضها ببعض بطلية من النخاع التي يصح أن نعتبرها عظامًا رخوة.
والأسنان كذلك تعد من العظام، وتظهر اللبنية منها في الطفولية ثم تسقط
وتخلفها الأسنان الثابتة التي إذا سقطت لا تحل محلها أسنان جديدة. تنبت الأسنان
اللبنية في فم الطفل من ستة إلى ثمانية أشهر من عمره غالبًا، ولا تزال تنبت إلى
أن يبلغ من العمر سنتين أو سنتين ونصف سنة، وأما الأسنان الثابتة فتنبت من
السنة الخامسة حتى تُستكمَل بين سبع عشرة وخمس وعشرين سنة من العمر، وأما
الأضراس فتظهر بعد جميع الأسنان.
نجد اللحم في بعض الأماكن من الجسم صلبًا مطاطًا، هذه هي الأعصاب،
وهي التي تُسهِّل لنا بسط أيدينا وقبضها، وتحريك فكَّينا، وتغميض عيوننا، ثم
هي التي تؤدي لها أعضاؤنا الحساسة وظائفها.
إن البحث التام في الهيكل الجسدي ليس من أغراض هذا الكتاب، ثم إن
الكاتب نفسه ليس على علم تام به حتى يوفي البحث حقه، ولذلك نقتصر هنا على
البحث في الأعضاء الرئيسية من الجسم.
إن أهم أجزاء البدن المعدة، فإنها لو وقفت عن عملها ولو دقيقة من الزمن
فسرعان ما يتداعى الجسم كله، إن وظيفة المعدة إنضاج الطعام وهضمه وتهيئة
الغذاء للجسم، فالعلاقة بينها وبين الجسم كعلاقة القاطرة بالقطار، ولكن الحمل الذي
نحمله عليها عادة أثقل من أن يتحمله أقوى حيوان ضارٍ، إن العصارة المَعِدية التي
تتولد في المعدة تساعد على هضم الأجزاء المغذية من الطعام، وتفرز الحثالة من
طريق الأمعاء في شكل البول والبراز، ويوجد في الجنب الأيسر من الجوف
البطني الطحال، وفي الأيمن منه المعدة والكبد الذي وظيفته تنظيف الدم وإفراز
الصفراء التي هي نافعة جدًّا للهضم.
يوجد في الجوف الذي تحيط به الأضلاع القلب والرئتان، ومكان القلب بين
الرئتين، ولكنه مائل إلى اليسار أكثر منه إلى اليمين، وعظام الصدر كلها ٢٤
عظمًا، وضربات القلب يمكن الحس بها بين الضلع الخامس والسادس، والرئتان
متصلتان بالقصبة الهوائية، فالهواء الذي نستنشقه يصل إلى الرئتين من طريق هذه
القصبة الهوائية، وهو الذي ينظف الدم، إن من الضروري جدًّا التنفس من
المناخر لا من الفم؛ لكي يصل الهواء من طريق المناخر إلى الرئتين ساخنًا، ولكن
كثيرًا من الناس يجهلون ذلك فيتنفسون بالفم فيتضررون به ضررًا بليغًا، إن الفم
للأكل والشرب لا للتنفس الذي هو وظيفة الأنف.
يتوقف جميع أعمال الجسم ونشاطه على دورة الدم؛ لأنه هو الذي يهيئ
الغذاء للجسم، وينتقي الأجزاء المغذية من الطعام، ويفرز الفضلات من طريق
الأمعاء، وهكذا يحافظ على جرارة الجسم، لا يزال الدم في دورة وجريان في سائر
الجسم من طريق العروق والشرايين، وضربات النبض إنما هي نتيجة لدورة الدم.
إن نبض الشاب اليافع الصحيح الاعتيادي يبلغ نحوًا من ٧٥ مرة في الدقيقة،
ونبض الأطفال أسرع من هذا، كما أن ضربات نبض الشيوخ بطيئة.
إن الآلة الأساسية لتنقية الدم إنما هي الهواء، فإنه إذا عاد إلى الرئتين بعد
دورته الكاملة في الجسم، عاد غير طاهر، أي مشتملاً على عناصر سامة ولكن
(الأكسيجين) الذي نستنشقه من الهواء ينفذ فيه فيطهره وينقيه، كما أن
(النيوتروجين) يجذب السموم ويخرجها بالزفير، وهذا العمل لا يزال جاريًا ليلاً
ونهارًا بلا انقطاع، وبما أن الهواء يؤدي وظيفة مهمة جدًّا في الجسم، يحسن بنا
أن نفرد له بابًا مُنفصلاً.
***
الباب الثالث
الهواء
قوام حياة الإنسان ثلاثة أشياء: الهواء والماء والغذاء، أما الهواء فأهمها
جميعًا؛ ولذلك خلقه الله بمقدار عظيم جدًّا، وبثه في كل مكان ليحصل عليه جميع
الناس بلا ثمن، غير أن المدنية الحاضرة قد جعلت حتى الهواء النقي غاليًا لا يُنال
إلا بالثمن، وذلك لأننا نضطر للحصول عليه إلى أن نذهب خارج المدن، وهذا
يقتضي شيئًا من النفقة، فسكان بمباي مثلاً يجدون الهواء النقي في (ماتهيرن)
وأحسن منه في تلال (مالابار) ، ولكنهم لا يستطيعون أن يذهبوا إلى هذه الأماكن
بدون إنفاق المال، ولذا يصعب القول بأن الهواء النقي ينال مجانًا في العصر
الحاضر كما كان الحال في العصور القديمة.
وسواء وجدنا الهواء مجانًا أو بثمن فإنا لا غنى لنا عنه ألبتة، لقد رأينا آنفًا
أن الدم يدور في الجسم حتى يصل إلى الرئتين، وبعد أن يتطهر فيها بالهواء يعود
إلى دورته ثانية، فنحن نخرج الهواء الفاسد بالزفير، ونستنشق الأكسجين من
الخارج بالشهيق وهو الذي يطهر الدم، وهذا العمل للزفير والشهيق يسمى التنفس
ولا يزال مستمرًّا دائمًا، وعلى استمراره وحده تتوقف الحياة. إن الغريق يموت
لأنه لا يستطيع في داخل الماء أن يخرج الهواء الفاسد ويستنشق الهواء النقي،
وأما الغواص الذي يغوص في الماء ويبقى فيه زمنًا، فذلك لأنه يحمل معه ما يسمى
(بجهاز الغواص) فيتنفس بأنبوبة يتصل أحد طرفيها بالجهاز ويبقى الآخر فوق
الماء فهو يحصل بها على الهواء النقي، ويستطيع أن يبقى في الماء وقتًا طويلاً.
لقد أثبتت التجارب أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون الهواء أكثر من خمس
دقائق، وكم نسمع بالأطفال الذين يموتون في أحضان أمهاتهم، فإن الأم الجاهلة
تضم الطفل إلى صدرها ضمًّا شديدًا حتى ينقطع عنه الهواء فيختنق في مكانه!
وبهذا تعلم شدة حاجة الإنسان إلى الهواء، وإنا على كل حال نجده بدون أن
نبحث عنه هنا وهناك خلافًا للماء والغذاء، فإننا لا نجدهما إلا بالبحث والسعي.
إن التنفس في الهواء الفاسد مكروه ومستقبح مثل شرب الماء الكدر، وأكل
الطعام الوسخ، ولكنا تعودنا أن نتنفس في الهواء الفاسد، الذي هو أكثر فسادًا من
الشراب والطعام. نحن كلنا بالحقيقة عبيد الظواهر، فكل ما نراه ونحس به نهتم به
أكثر بكثير مما لا نراه ولا نحس به، وبما أن الهواء مما لا يُرى بالعين فلذلك لا
نبالي بمعرفة الفساد الذي يجلبه علينا الهواء الفاسد، نحن نشمئز من تناول الطعام
الذي أكل منه إنسان غيرنا، وشُرب الماء الذي أفسده غيرنا بإدخال شفتيه فيه،
حتى إن أولئك الذين ليس لهم حس من التقزز أو الكراهة لهذا يستنكفون أن يأكلوا
ويشربوا القيء مهما جاعوا وعطشوا، بل يفضلون الموت على أن يفعلوا ذلك،
ولكن ما أقل أولئك الذين يفهمون حق الفهم أن الهواء الذي يستنشقونه قد يكون أكثر
الأحيان فاسدًا مسمومًا بما مجَّه الآخرون فيه بتنفسهم، وليس بأحسن حالاً من القيء،
ومما يُتَعَجب منه أن الناس يتجالسون وينامون مجتمعين ساعات طويلة في حُجَر
ضيقة، ويتنفسون في هوائها القتَّال الذي قد أفسدوه هم وأصحابهم! ما أسعد حظ
الإنسان في أن الهواء خفيف ومنبث إلى هذا الحد، وصالح للنفوذ من أضيق المنافذ!
حتى إذا غلقت الأبواب والنوافذ بقي ينفذ إلى الداخل من بعض المنافذ الضيقة،
التي تبقى على كل حال بين الجدران والسقوف، لكيلا يتنشق المجتمعون في
الحجرة المغلقة الهواء المسموم بالتنفس فيه فيموتوا خنقًا. إن الهواء الذي نخرجه
بالزفير يمتزج بالهواء الخارجي، ويتطهر ثانية بعمل الطبيعة المستمر في كل
وقت.
يتيسر لنا الآن أن نعرف السبب الذي أضعف صحة هذا العدد العظيم من
الرجال والنساء، وما هو إلا الهواء الفاسد الذي قد قضى على صحة ٩٩ في المائة
من الناس، فالسُّل وحُمَّى الدق وسائر الأمراض العفنة يسببها الهواء الفاسد.
فأحسن طريقة لاتقاء الأمراض المكث والعمل في الهواء الطلق الذي لا يباريه في
المعالجة وشفاء الأمراض أي طبيب مهما يكن نطاسيًّا حاذقًا. إن السل يعرض من
مرض الرئتين الذي ينشأ من التنفس في الهواء الفاسد، ومثلها مثل القاطرة التي
يوضع فيها الفحم الردي فتخرج من وظيفتها وتغير سيرها؛ ولذلك قالت الأطباء:
إن أسهل العلاج وأنجحه للمسلول هو البقاء في الهواء النقي طول ٢٤ ساعة.
لنعلم أننا لا نتنفس من طريق الرئتين فقط، بل كذلك يدخل بعض الهواء في
أبداننا من طريق المسامِّ التي لا تعد ولا تحصى في جسمنا.
إن من الضروري جدًّا معرفة الطريقة التي يمكن لنا المحافظة بها على نقاء
الهواء وصفائه، يجب أن يعلم كل صبي بمجرد بلوغه سن التمييز قيمة الهواء
النقي، وأنا أُسر غاية السرور إذا اهتم قرائي بمعرفة الحقائق البسيطة حول الهواء
وعملوا بها، وعلموا أولادهم ما علموه وما عملوا به.
ربما كانت المراحيض والمباول التي لم تُبْنَ على أسلوب صحي سببًا جوهريًّا
لفساد الهواء، وقليل من الناس من يعرف الأضرار الجسيمة التي تجلبها هذه
الأماكن، إن أحقر الحيوانات - كالكلاب والسنانير - تحفر بأظفارها حُفرًا تقضي
فيها حاجتها وتغطي البراز بالتراب، فالأماكن الخالية من المراحيض الصحية
الحديثة الطراز ينبغي أن نقلد فيها الكلاب والسنانير.
يجب أن توضع صفيحة أو يبنى حوض في شكل كنيف، ويملأ بالتراب
الجاف أو الرماد؛ لتغطية البراز بعد الفراغ من الحاجة، فإذا فعلنا ذلك فلا تبقى
هناك رائحة قبيحة، ولا يتسلط الذباب على القاذورات فينقل ذراتها إلى أجسامنا.
إن من لم يفقد حاسة الشم بتاتًا، ولم يتعود شم الرائحة الكريهة يعرف شدة العفونة
التي تتصاعد من البراز وما شاكله من الأوساخ التي تترك مكشوفة في الخلاء،
نحن قد نقيء إذا تصورنا وتخيلنا أن طعامنا يمزج بالقاذورات، ولكنا نلفظ الهواء
المملوء قذارة وعفونة بلا مبالاة ناسين هذه الحقيقة الثابتة وهي أن الأمرين كليهما
في درجة واحدة من القبح، ولا فرق بينهما إلا أن الأول محسوس مشاهَد والثاني
ليس كذلك.
يجب أن نهتم أشد الاهتمام بنظافة المراحيض ومجاري المياه نظافة تامة، نحن
نستحي من أن ننظف مراحيضنا بأنفسنا مع أن الأحرى بنا أن نستحي من استعمال
الكنُف الوسخة. هل يعيبنا أن ننقل بأيدينا المادة التي خرجت من بطوننا أنفسنا،
ولا يشيننا أن نستخدم غيرنا لنقلها؟ يا للعجب كيف لا نستحي من هذا العمل
المعيب؟! ليس هنالك أي مبرر لجهلنا عمل تنظيف الكنف وتعليمه لأبنائنا، يجب
نقل المواد القذرة وإلقاؤها في حفرة عميقة قدر ذراع ثم تغطيتها بتراب كثير، وإن
كنا متعودين على الذهاب للحاجة في الخلاء، فكذلك يجب أن نحفر حفرة بأيدينا أو
أرجلنا ونغطيها بعد قضاء الحاجة بالتراب.
كذلك نحن نُفسد الهواء بالبول في كل مكان بدون أي تمييز، ينبغي أن نقلع
عن هذه العادة الوسخة من أصلها، إذا لم يكن لدينا مكان مُعَدٌّ لهذا الغرض خاصة،
فلنذهب إلى أرض جافة بعيدة عن البيت فنبول فيها ونغطي البول بالتراب.
لا ينبغي إلقاء القاذورات في حفرة عميقة جدًّا؛ لأن هذا يمنع حرارة الشمس
من النفوذ إليها، وكذلك هي تتسرب إلى باطن الأرض فتفسد مياه الآبار والأنهار
والعيون المسلوكة في أعماقها.
وكذلك عادة البصق بلا مبالاة في الأقنية والممرات عادة قبيحة جدًّا، إن
البصاق سيما بصاق المسلول شديد الخطر؛ لأنه يحتوي على الجراثيم السامة التي
تطير في الهواء فيستنشقها الآخرون؛ فينشر المرض. يجب أن تكون المباصق في
داخل البيت، وإن اضطررنا إلى أن نبصق ونحن مارِّين في الطرق فلنختر له
المكان الذي يوجد فيه تراب جاف يتشرب البصاق ولا يحدث منه ضرر، لقد
أوجب الأطباء أن يبصق المسلول دائمًا في المبصقة المحتوية على أدوية مطهرة،
لأنه وإن بصق على الأرض الجافة، فإن جراثيم مرضه تصعد وتنتشر في الهواء
مع الغبار، وعلى كل حال فإن البصق في كل مكان بلا تمييز عادة قبيحة قذرة،
كما أنها خطرة.
يلقي بعض الناس الحبوب والأطعمة والخضراوات وغيرها من المواد التي
فسدت في كل مكان يتفق لهم، هذا أيضًا يُفسد الهواء ويجعله سببًا للأمراض، ولو
أنهم دفنوا هذه الوساخات في الأرض لسلم الهواء من الفساد، ولاستفادوا سمادًا جيدًا،
والحاصل أنه لا ينبغي إلقاء أي مادة فاسدة في العراء حرصًا على سلامة الهواء،
إن هذا الاحتياط لسهل جدًّا نستطيع العمل به إذا اهتممنا بأمر الصحة أدنى اهتمام.
لقد علمنا الآن أن عاداتنا القبيحة هي التي تفسد الهواء، ورأينا الطريقة التي
يمكن بها المحافظة على نظافته، وها نحن الآن نبحث في كيفية التنفس.
ذكرنا في الباب السابق أنه يجب التنفس بالأنف لا من طريق الفم، ولكن
الذين يعرفون هذه الطريقة الصحيحة للتنفس قليل من الناس، فقد تعودوا العادة التي
تحدث ضررًا بليغًا وهي التنفس بالفم؛ لأن الهواء إذا كان باردًا واستُنشق بالفم
أحدث الزكام وأبحَّ الصوت. ثم فوق هذا هو يوسع المجال لذرات الغبار المنتشرة
في الجو للدخول في الرئتين. وهذا كما لا يخفى يحدث ضررًا عظيمًا، ويمكنك أن
ترى ذلك في لندرة مثلاً في شهر نوفمبر، فالدخان الذي يتصاعد من مداخن
المصانع الكبيرة يمتزج بالضباب الكثيف فيكَوِّن خليطًا أصفر يحتوي على ذرات
صغيرة جدًّا من الهباء يمكن مشاهدتها في بصاق الذين يتنفسون في هذا الهواء
بالفم، وللتحرز من ذلك ترى هناك كثيرًا من النسوة اللاتي لم يتعودن التنفس بالأنف
وحده، يضعن على وجوههن شيئًا مثل النقاب يؤدي وظيفة الغربال لهذا الهواء
الفاسد، وإنك لو فحصت هذا النقاب فحصًا دقيقًا لوجدت فيه أيضًا ذرات هذا
الهباء، مع أنه لا حاجة إلى مثل هذا الغربال؛ لأن الله سبحانه قد وهبنا جميعًا من
لدنه غربالاً طبيعيًّا داخل أنفنا أحسن من هذا الغربال الصناعي، فالذي يتنفس
بالمناخر ينظف هذا الغربال نفسه ويغربله، وكذلك يسخنه أثناء سيره قبل الوصول
إلى الرئتين؛ ولذلك يجب على كل الناس أن يتعودوا التنفس بالأنف وحده، وهذا
ليس فيه أدنى صعوبة إذا أخذنا على أنفسنا أن نغلق الفم إغلاقًا محكمًا في جميع
الأحيان إلا عند التكلم.
والذين تعودوا ترك أفواههم مفتوحة دائمًا يمكنهم التخلص من هذه العادة القبيحة
بربط عصابة على الفم عند النوم؛ ليضطروا إلى التنفس بالأنف وحده، وأما في
اليقظة فيجب عليهم التنفس في الهواء الطلق كل صباح ومساء نحو عشرين مرة.
كل إنسان يستطيع أن يتمرن على هذه الرياضة الخفيفة السهلة بدون أي كلفة، ثم
يرى بنفسه كيف يتقوى صدره ويتسع بسرعة عجيبة! وإنك لو قست الصدر قبل
البدء في هذه الرياضة ثم قسته بعد عشرين منها تتعجب من اتساعه الكبير في هذه
المدة الوجيزة، مع أنه ليس فيه أدنى غرابة، فإن الإنسان يضطر أثناء الرياضة
إلى التنفس الشديد السريع، وهذا ما يؤدي إلى اتساع الصدر هو السر في رياضة
(ساندو دوميل) Dumbbel، Sandous.
فإذا علمنا كيفية التنفس يجب أن نحرص كذلك على استنشاق الهواء النقي
طول النهار والليل. لقد تعودنا عادة قتالة، وهي حبس أنفسنا طول النهار في
البيت أو الإدارة، ومبيتنا في حجر ضيقة مغلقة الأبواب والنوافذ. ينبغي أن نبقى
في الهواء الطلق أكثر ما نستطيع، وعلى الأقل أن ننام في الرواق أو في الساحة
تحت ضوء القمر، والذين لا يستطيعون ذلك عليهم أن يتركوا أبواب الحجرة
مفتوحة في سائر الأوقات، إن الهواء غذاؤنا مدة الأربع والعشرين ساعة من اليوم
والليلة، فلماذا نحن نخاف منه؟ إن من الخَرَق أن نتوهم أن استنشاق النسيم البارد
يحدث الزكام والبرد، لا ريب أن الذين أفسدوا رئاتهم بعادتهم القبيحة من النوم في
الحجر المغلقة أبوابها ربما يصابون بالبرد إن غيروا عادتهم فجأة، ولكن مع ذلك لا
ينبغي لهم أن يخافوا من البرد؛ لأنه إن أصابهم لا يلبث أن يزول قريبًا، لقد شيدت
البيوت للمسلولين في هذه الأيام بحيث يدخل فيها الهواء النقي كل وقت.
نحن كلنا نعرف تلك الداهية الدهماء من الأوبئة التي لا تزال تعاودنا معشر
الهنود في كل آونة وحين، وقليل منا من يعرف أن هذه الأوبئة ليست إلا نتيجة
لإفسادنا الهواء، ثم استنشاقنا إياه على فساده وسمومه. لنعلم أن الهواء النقي إن
استنشق بالطريقة العلمية يفيد حتى ضعاف البنية جدًّا. إننا إن نحافظ على نقاء
الهواء، ونتعود استنشاق الهواء النقي وحده، فإننا بلا ريب نحمي أنفسنا من كثير
من الأمراض الخبيثة المعدية.
إن كشف الوجه في أثناء النوم ضروري كضرورة النوم في الهواء الطلق
ولكن قد تعود كثير من الناس أن يغطوا وجوههم أثناء النوم فيستنشقون الهواء
المسموم الذي يخرجونه من أجوافهم، ولو لم يكن بعض الهواء يدخل إليهم من منافذ
الغطاء لماتوا اختناقًا في مكانهم، غير أن هذا الهواء القليل لا يكفي لبقاء الصحة.
إن كنا نغطي الوجه خوفًا من البرد فينبغي أن نكتفي بغطاء الراس بطرف من
الثوب أو أن نلبس طاقية (أو كوفية) النوم، ولكن يجب أن يبقى الأنف مكشوفًا
في جميع الأحوال والأوقات.
إن الهواء والنور مرتبطان ارتباطًا شديدًا، ولذلك يحسن بنا أن نقول هنا كلمة
في قيمة النور أيضًا: إن النور ضروري للحياة كضرورة الهواء لها، ولذلك
وُصفت جهنم بأنها مظلمة حالكة. إن المكان الذي لا ينفذ إليه النور لا يمكن أن
يكون نقي الهواء، فإننا إذا دخلنا حجرة مظلمة نشم حالاً رائحة الهواء الفاسد بشدة،
ولا نستطيع أن نرى شيئًا في الظلام، فهذه الحقيقة نفسها تثبت جليًّا أن الله تعالى
أراد منا أن نعيش ونعمل في النور، إن الطبيعة قد هيَّأتْ من الظلام في الليل القدر
الذي نحتاج إليه، ولكن تعوَّد مع ذلك كثير من الناس الجلوس والنوم في السراديب
تحت الأرض، حيث لا يصل النور والهواء حتى في أَحَرِّ الأيام وأنورها، إن
أولئك الذين يحرمون أنفسهم من الهواء والنور تجازيهم سنن الطبيعة جزاء وفاقًا،
فيصابون بنحافة الجسم، واصفرار الوجه، وقبح المنظر.
يصف كثير من أطباء الغرب الآن لمرضاهم الاستحمام الهوائي والاستحمام
الشمسي بدلاً من الأدوية، وقد شُفي ألوف من المرضى بتعرضهم للهواء والشمس
بدون أن يستعملوا أي دواء، فلذلك يجب علينا أن نترك جميع أبواب بيوتنا
ونوافذها مفتحة دائمًا؛ ليدخل فيها النور والهواء بكثرة.
رب سائل يسأل: إذا كان الهواء والنور ضروريَيْن إلى هذه الدرجة فلماذا لا
يبدو الضرر البين على أولئك الذين يعيشون ويشتغلون في الحجر المظلمة؟ إن
الذين تدبروا في المسألة مليًّا لا يسألون هذا السؤال.
يجب أن يكون مطمح أنظارنا المثل الأعلى من الصحة، والوصول إليه بجميع
الوسائل المشروعة، لا مجرد العيشة كيفما أمكن. ولقد ثبت بطريقة لا تحتمل الريب
أن قلة الهواء والنور تجلب الأمراض؛ ولذلك ترى سكان المدن أضعف من سكان
القرى، قضية مطردة، وما ذلك إلا لأن نصيب سكان المدن من الهواء والنور أقل
من نصيب سكان القرى، فالهواء والنور على هذا من أعظم لوازم الصحة، فيجب
على كل واحد أن لا يتهاون في أمرهما، بل يتذكر دائمًا كل ما قلناه في المسألة،
ويعمل بموجبه بأقصى ما يستطيع.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))