للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كوارث سورية في سنوات الحرب

تعليق المنار على مقالات الأمير شكيب
الأمير شكيب كاتب سياسي بارع ومؤرخ، وقد كتب هذه المقالات للتاريخ،
فأثبت فيها ما رأى بعينيه، وما سمع بأذنيه، وما سعى إليه فأصابه، وما سعى
إليه ولم يُصبه، وليس الأمير بالرجل الظَّنون، وما هو على سياسة الاتحاديين
بظَنين، بل كان متهمًا بمشايعتهم؛ لأنه كان في السياسة الخارجية من شيعتهم.
كل مَن قرأ مقاله بإنصاف يجزم معنا أن الحكومة التركية لم تكن تريد في تلك
السنوات إماتة السوريين بالجوع، ولا اللبنانيين منهم، ولم تفضل المسلمين على
النصارى في التموين ولا في غيره من المعاملات، بل كانت وطأتها عليهم أشد،
ولم تبطل امتياز لبنان كما أبطلت الامتيازات الأجنبية كلها، ولكن هذه المقالات
أيدت الآراء المهمة التي كنا نعتقدها، ونصرح بها، قولاً وكتابةً، وإن حكمت
المراقبة على الصحف بمنْعنا من بعض ما كنا نكتب:
١- كنا نعتقد أن جمعية الاتحاد والترقي قد افترصت ما أعطتها الحرب من
التصرف في سلطنة آل عثمان بالحكم العرفي العسكري للقضاء على الشعب العربي
فيها، وجعْل سورية والعراق ولايات تركية، وأن النهضة العلمية والوطنية لما كانت
في سورية أقوى منها في العراق - عجل جمال باشا بتتريكها بالقوة القاهرة، متوسلاً
إلى ذلك بتعريض الضباط والجنود منها للقتل في المعارك الخطرة، وبتقتيل رجال
النهضة الفكرية والقلمية، وبنفي البيوت ذات الثروة والمُلك الواسع إلى الأناضول؛
لأجل إدغامهم في الشعب التركي هنالك، ثم بالإتيان ببيوت تركية تَخلُفهم في بيوتهم، وأملاكهم في سورية، فجمال باشا كان منفذًا لقرار جمعيته الاتحادية الطورانية، لا
مبتكر لهذا الفساد.
راجع قول جمال باشا للأمير شكيب معاتبًا له على التوسل إليه بطلعت باشا
أن يكف عن القتل والصلب: أتظن أنني أفعل ما أفعل بدون مشاورة رفقائي؟ !
(آخر ص ١٣٠) ، ثم ما بعد هذا من خيبة الأمل بالتوسل بأنور باشا، ثم راجع
كلامه في (ص ٢٠٢) ، وما بعدها عن إجلاء السوريين عن وطنهم الذي وُضع له
اسم (التهجير) ، ثم راجع في (ص ٢٩٢) مسألة محاولة جعْل سورية تركية
بمشروع قانون وُضع لذلك، كانوا يريدون تقريره في مجلس المبعوثين.
٢- كنا نعتقد أن محاكمة جمال باشا - لمَن يريد قتْلهم - محاكمة صورية لا
يُراد بها إحقاق الحق ليُتَّبَع، ولا تمييز ما يشوبه من الباطل ليُجتَنَب، وإنما هو
رياء السياسة العصرية المعهود من سائر الدول في معاملة مَن يعده أهلها عدوًّا لهم،
يحاكمونه لأجل إدانته، والحكم عليه، ولا يعدمون ما يُثْبتون به التهمة من الإفك
والتأويل، وليس لإحكامهم معقِّب من استئناف أو نقض وإبرام، فيفند ما يأفكون!
راجع قول الكاتب عن جمال باشا: إنه لما صمم على شنق الجماعة (استدعى
إليه شكري بك رئيس الديوان العرفي في عاليه إلى الشام، وأعطاه - على ما
علمت من شكري بك نفسه - أسماء أربعين شخصًا يجب أن يحكم عليهم بالموت! ،
فراوده شكري بك كثيرًا، ودافع كثيرًا، فتهدده بالقتل! إلخ (آخر ص ١٣١،
وأول ص ١٣٢) .
٣- كنا نعتقد أن هذه الخطة خطة جهل وغرور؛ لأنها تكون سببًا طبيعيًّا
ليأس العرب من هذه الدولة، وحمْلهم على الخروج عليها، في الوقت الذي يجب
فيه من توثيق روابط الإخاء والولاء - ما لا يجب مثله في غيره؛ لأنه أرجى
الأسباب لانتصارها، ففوته من أعظم الأسباب لانكسارها، وعندما بلغتنا أنباء
فعائِله، بل فظائعه - قلت لبعض إخواننا: إنني أتمنى لو أمكنني أن أصل إلى
جمال باشا؛ لأبين له خطأه، والخطر على الدولة منه، فكانوا يقولون لي: إذًا يبدأ
بقتلك، وصلبك، ولا يرجع عن ضلاله!
وقد ظهر أن الحق كان معهم؛ فإن الكاتب بذل له هذا النصح فلم يسمع له،
بل لولا صداقته لأنور وطلعت لفتك به؛ فإن هؤلاء المغرورين كانوا يظنون أن
البلاد العربية - التي جندوا منها خمسمائة ألف مقاتل - تظل خاضعة لهم، حتى
بعد اليأس من إمكان حفظ لغة شعبها ودينها، والأمن على وطنها في ظل دولتهم! ،
وأن الخضوع بقوة الإرهاب خير من الخضوع بوازع الإخلاص! وكانت الحرب
خير الفرص لاستمالة مَن نفرهم الاتحاديون من الدولة، وأيأسوهم من حفظ حقوقهم
أو حياتهم معها، فعند الشدائد تذهب الأحقاد، ولكنهم زادوهم نفورًا، وتأمل كيف
كانت إنكلترة تبالغ في مدح أهل الهند ومصر، وفرنسة تبالغ في مدح أهل تونس
والجزائر.
راجع (في ص ٢٠٣) قول الكاتب في رئيس (قومسيون التهجير) نوري
بك المفسد: إنه كان يكره في الباطن جمالاً وطلعت، وكل رجال جمعية الاتحاد
والترقي، ولكنه كان يغري جمالاً بالنفي والتغريب انتقامًا منهم؛ لعلمه أن هذه
الأعمال ليس وراءها إلا الخراب وقيام الأهالي، وقد نبهنا جمالاً إلى هذا الأمر،
وحذرناه من نوري وأحزابه، ومن أقوال الجواسيس إلخ.
٤- كنا نعتقد أن ثورة الحجاز توقف بغي جمال عند حد، وأنه هو الذي
جعلها ضربة لازِب لا مناص منها ولا مفر، وذلك أن الفارّين من بغي جمال باشا
هم الذين جرّؤوا الشريف حسينًا على ما كان يهواه من الثورة، وهم الذين قاموا مع
الضباط العراقيين بأثقل أعبائها.
وقد كان الأمر كذلك كما بيَّنه الأمير شكيب في فصل خاص من مقاله،
فراجِعْه في (ص٢٠٧) وما بعدها، فقد صرح في أوله بأن جمالاً خاف العواقب،
فعدل عن المخاشنة إلى المحاسنة، وبأنه استدعاه هو وبعض زعماء العشائر -
وسماهم - وتكلم معهم في اتحاد العرب والترك، وفي مقاصد الدولة العلية الحقيقية،
(قال) وأفاض بكلام بعضه صحيح، وبعضه سياسة، والتمس منا السهر على
الأمانة للدولة، وأنا - وإن كنت لم أصدق كلامه في البراءة من السياسة الطورانية -
لم أخالفه في الطعن بسياسة الشريف من جهة محالفته لإنكلترة، وتصديقه
لمعاهداتها إلخ.
ثم ذكر أن توفيق بك - الذي جعله جمال باشا وكيلاً لولاية الشام - اجتهد في
إقناعه بوجود مؤامرة على قتله، وخلع طاعة الدولة، وأنه مع ذلك اضطر إلى
الاكتفاء بالحبس، ولم يتجاوزه إلى القتل، أي بعد أن كان يقتل بغير ذنب، وذكر
ما قيل من أن الآستانة أنذرته في هذه الكَرَّة إنذارًا شديدًا بأن يعدل عن خطته
المعهودة؛ لأنه قد طفح الكيل إلخ.
وقد كنت صرحت بما يُرجَى من هذا التأثير في مقالة (المسألة العربية)
التاريخية التي نُشرت في الجزء الأول في المجلد الأول من المجلد العشرين - الذي
صدر في شوال سنة ١٣٣٥ (يوليو سنة ١٩١٧) - بعد أن حذفت المراقبة
البريطانية منها ما حذفت، وكانت كُتبت في السنة التي قبل هذه السنة، ثم صرحت
في الفصل السابع من الرحلة الحجازية: (بأن الثورة الحجازية قد أدت وظيفتها،
وأفادت ما رجوناه منها، فأنقذت الحجاز، وأوقفت بغي البغاة) ، ولكن خاب
سعيي في إيقافها عند هذا الحد؛ حتى لا تكون من أسباب انكسار الدولة في الحرب،
كما بينته في مواضع متعددة بالتلميح عند العجز عن التصريح، ثم بالتصريح
عقب زوال المراقبة.
٥- كنت أعتقد أن المصلحة العامة للبشر عامة - وللشعوب المستضعفة
خاصة - أن تنتهي الحرب الكبرى بهدّ قوى الحلفين القائمين بها جميعًا، وعَوْد
التوازن بين دولهما في عهد الضعف إلى ما كان عليه في عهد القوة، وإلا فبانتصار
الحلف الذي فيه الدولة العثمانية، وكان يخالفني في هذا بعض مَن أكاشفهم به،
حتى من المسلمين، قائلين إن الاتحاديين إذا انتصروا لا يقف بغيهم عند حد، فهم
سيقضون على الأمة العربية قضاءً مبرمًا، ويستعبدونها استعبادًا لا تقوم لها بعدها
قائمة، وسيقضون أيضًا على الدين الإسلامي متممين ما بدؤوا به، وكنت أجيب
بأنني أعلم من سوء نية زعماء الاتحاديين فوق ما تعلمون، ولكنني أعتقد أن
الألمان لا يمكِّنونهم من مثل هذا الإفساد، الذي يضطرون إلى السكوت لهم عليه في
زمن الحرب اتقاءً للفشل فيها، وأنه لا بد أن يقدر الألمان من قدر الأمة العربية ما
لا يقدره هؤلاء الاتحاديون المتطرفون، وأن الشعب التركي -الذي يغلب عليه
التدين بالإسلام - سيكون عونًا لنا وللألمان عليهم.
وقد ذكر الأمير شكيب في مقالته ما يؤيد هذا الرأي، ما سبق له في هذه
السبيل من السعي، وهو ما ذكره في (ص ١٣٢) من سعيه لدى قنصل ألمانية في
الشام؛ ليتوسل بنفوذ حكومته لدى حليفتها بمنع فظائع جمال باشا؛ لأن الضرر
يعود عليها من ذلك، وقوله: (إن قتل هؤلاء الجماعة سيُحدث بين العرب والترك
فنتة لا نهاية لها، فتكونون زدتم الدولة الائتلافية قوة أمة جديدة هي الأمة العربية) ،
وقول القنصل - بعد إخباره إياه بعجز سفارتهم في الآستانة عن عمل شيء في
هذا الباب -: (إن الأتراك سيندمون على هذا العمل) ، ثم ما ذكره في (ص
١٣٣) من سعيه لدى فون كولمان - الذي كان سفير الدوة الألمانية في الآستانة -
لجعْل الترك والعرب كالنمسة والمجر ثم لدى خلَفه الكونت برنستورف، الذي
كان يصرح بأنه على هذا الرأي إلخ.
فثبت بهذا أن آراءنا كانت صحيحة؛ لأنها مبنية على الروية والتدقيق في
البحث عن الحق، ولكنني لم أكن آمنًا من عاقبة غرور الاتحاديين وتهورهم إذا
انتصروا، ولا يائسًا من رحمة الله بهذه الأمة إذا انكسرت الدولة بسوء تصرفهم،
ولا محل لشرح هذا هنا.
هذا، وإننا سنعود إلى شيء من هذا البحث في الرحلة الأوروبية، ونبين فيها
ما كان من شدة نفور السواد الأعظم من الترك من أعمال الاتحاديين، وإضمارهم
للثورة عليهم بعد الحرب، ومن منع الغازي مصطفى كمال باشا لزعمائهم من
دخول الأناضول مدة الحرب لكراهة الأمة لهم، وحذرًا من وقوع الشقاق بوجودهم،
وما علمناه مما لقينا من الاتحاديين أنفسهم من اعترافهم بخطئهم في المسألتين
العربية والإسلامية، ومن سعيهم الآن لتكوين الجامعة الإسلامية، مع عدم الرجوع
عن الجنسية الطورانية، وقد تولى جمال باشا أفضل عمل يمكن عمله للجامعة
الإسلامية، وهو تنظيم الجيش الأفغاني الباسل، ولكن وردت الأنباء بأن بعض
أشقياء الأرمن قد اغتاله في القوقاس منصرفًا من أوربة إلى الأفغان، ولا شك أن
فقده الآن خسارة كبيرة؛ لأنه كان قائمًا بعمل عظيم، ولكن رجال الثورات قلما
يموتون حتف أنوفهم.