للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تصدير التاريخ

ببيان كُنْه التجديد والإصلاح الذي نهض به حكيم الشرق والإسلام
وشيخنا الأستاذ الإمام، ووجه الحاجة إليه، ووجوب المحافظة عليه

بسم الله الرحمن الرحيم
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ} (القصص: ٥) ، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (الأعراف: ١٧٠) ?، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران:
١٤٠) .
جرت سنة الله تعالى في أفراد البشر أن يؤتيهم قوى المشاعر الحسية والمدارك العقلية بالتدريج، حتى يبلغ أحدهم أشده، ويستكمل رشده، ويستقل بنفسه
بالعلم والعمل والتجارب، وجرت سنته في الشعوب والأمم أن يمنح كلاًّ منهم من
هداية الوحي في كل طور من أطوار حياتهم الاجتماعية ما هو مستعد له وصالح
لحاله وزمانه، على مثال سنة التدريج في الأفراد. إلى أن استعد النوع البشري في
جملته ومجموعه لفهم أعلى هداية إلهية لا يحتاج بعدها إلا لاستعمال عقله في
الاهتداء بها، في كل زمان ومكان بحسبهما، فوهبه هداية القرآن وختم النبوة
برسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
ولما كان من طباع البشر أن يضعف تأثير الوحي في قلوبهم بطول الأمد على
عهد النبوة، فيفسقوا عن أمر ربهم، ويتأولوا كتبه بأهوائهم، أنعم عليهم بما يحيي
هداية النبوة فيهم، بأن يبعث فيهم بعد عصر النبوة مجددين، وأئمة مصلحين،
يرثون الأنبياء بالدعوة إلى إصلاح ما أفسد الظالمون في الأرض، ويكونون حجج
الله على الخلق، وقد بشرنا نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المصلحين، بأن الله
تعالى يبعث في هذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها أمر دينها؛ ليكونوا
خلفاءه فيما جدده من دين الله تعالى للأمم كلها {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ} (النساء: ١٦٥) إذا طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وفسقوا عن أمر
ربهم.
إنما كان المجددون يُبعثون بحسب الحاجة إلى التجديد لما أبلى الناس من لباس
الدين، وهدموا من بنيان العدل بين الناس، فكان الإمام عمر بن عبد العزيز مجددًا
في القرن الثاني لما أبلى قومه بنو أمية وأخلقوا، وما مزقوا بالشقاق وفرَّقوا، وكان
الإمام أحمد بن حنبل مجددًا في القرن الثالث لما أخلق بعض بني العباس من لباس
السنة، ورشاد سلف الأمة، باتباع ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله،
وتحكيم الآراء النظرية في صفات الله وما ورد في عالم الغيب، بالقياس على ما
يتعارض في عالم الشهادة، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري مجددًا في القرن
الرابع بهذا المعنى، وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي مجددًا في أواخر القرن
الخامس وأول السادس لما شبرقت نزغات الفلاسفة وزندقة الباطنية، والإمام أبو
محمد علي بن حزم الظاهري في القرن السادس لما سحقت الآراء من فقه النصوص
الشرعية، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مجددين في آخر القرن السابع
وأول الثامن لجميع ما مزَّقت البدع الفلسفية والكلامية والتصوفية والإلحادية، من
حلل الكتاب والسُّنة السَّنية، في جميع العلوم والأعمال الدينية، وحسبنا هؤلاء
الأمثال في التجديد الديني العام.
وظهر مجددون آخرون في كل قرن، كان تجديدهم خاصًّا انحصر في قطر
أو شعب، أو موضع كبير أو صغير، كأبي إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات
والاعتصام في الأندلس، وولي الله الدهلوي والسيد محمد صديق خان في الهند،
والمولى محمد بن بير علي البركوي في الترك، والشيخ محمد عبد الوهاب في نجد،
والمقبلي والشوكاني وابن الوزير في اليمن.
وهنالك مجددون آخرون للجهاد الحربي بالدفاع عن الإسلام، أو تجديد ملكه
وفتح البلاد له، وإقامة أركان العمران فيه، وهم كثيرون في الشرق والغرب
والوسط، ورجاله معروفون، كبعض خلفاء العباسيين والأمويين، ومنهم من جمع
بين أنواع من التجديد كالسلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كسر جيوش الصليبيين
من شعوب الإفرنج المتحدة، وأجلاهم عن البلاد الإسلامية المقدسة وغيرها، وأزال
دولة ملاحدة العبيديين الباطنية من البلاد المصرية، وكذلك فتح الترك لكثير من
ممالك أوربة، عُرف فيها مجد الإسلام.

ضعف الإسلام السياسي وملكه:
ثم اتسع مُلك الإسلام وزالت وحدة أحكامه بانقسام الخلافة إلى خلافتين،
فزوال كل منهما، وكثرت دوله، فتفرقت وحدة أمته السياسية إلى شعوب مختلفة في
الأجناس والأوطان، ووحدة ملته الدينية إلى مذاهب مختلفة في الأصول والفروع،
فتعادَوْا في الدنيا والدين، وتقاتلوا على عصبيات الملوك والسلاطين، فحق عليهم
قول كتاب ربهم: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: ٤٦)
فسلط الله عليهم أعداءهم، فثلوا أكثر عروشهم، وانتزعوا منهم أكثر بلادهم {ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} (الأنفال: ٥٣) {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) وكان يظهر في هذه الدول المتفرقة مجددون متفرقون في العلم كما
تقدم، وفي الإدارة والعمران كمحمد علي باشا بمصر، وفي الحرب كالأمير عبد
القادر في الجزائر، ويعقوب بك في تركستان الصينية، وفي السياسة كمصطفى
رشيد باشا، وعالي باشا وفؤاد باشا في الترك وخير الدين باشا في تونس، وفي
إرشاد العامة والبدو للدين والدنيا كالسيد السنوسي.
حال البشر الأخير وما يقتضيه من التجديد:
في أثناء هذا الضعف الإسلامي العام، دخلت الشعوب الإفرنجية في طور
جديد في الفتح والغلب والسياسة والعمران، قوامه العلوم الكونية والفنون
والصناعات والثروة والنظام، وتجدد فيها من آلات الحرب وكراعها، وأسلحة
القتال وعتادها، ما يمكِّن الجند القليل من إبادة جند يفوقه أضعافًا مضاعفة في العدد
والشدة والشجاعة في زمن قصير.
واستُحدِث فيه من النظام ما يسهل به على أفراد ممن حذقوه ومردوا عليه أن
يسخِّروا لخدمتهم شعبًا كبيرًا غريبًا عنهم في جنسه ولغته ودينه، كما يسخِّرون
الأنعام الداجنة والسائمة، والحمر الموكفة والخيل المسومة، فيُذلون بالجماعات
المذللة منه الجماعات المتمردة، ويستنزفون ثروته كلها فيجرفونها إلى بلادهم التي
نزحوا منها فاتحين مستعمرين، ويتصرفون في قواه المعنوية وروابطه القومية
والدينية، كما يتصرفون في حرثه ونسله، ولحمه ودمه، وأرضه وماله، وهكذا
يتصرف العلم بالجهل والنظام بالفوضى.
وابتدع فيه من مراكب النقل والتسيار، وآلات رفع الأثقال، وأجهزة تبليغ
الأخبار، ما مهَّد السبل لمبتدعيها ومتخذيها من كل ما أشرنا إليه من الأعمال
الحربية، والتصرفات السياسية، والوسائل الاقتصادية، وصارت المسافة بين
القارة والقارة أقرب من المسافة بين بلد وآخر من مملكة واحدة، وهو ما عُبِّر عنه
في الحديث النبوي بتقارب الزمان.
اتسعت بذلك مسافة الخُلف بين الشعوب في العلم والعمل ووسائلهما، واشتدت
الحاجة إلى تجديد الحياة في المتخلفة منها عن المتقدمة، لا ينهض بمثله أمثال
أولئك المجددين القدماء بالوسائل القديمة وحدها، ولا يطمح إليه صوفي يستمد قوته
من الأموات ويتكل على الكرامات ويغتر بالمنامات، ولا يطمع في تذليل صعابه
واقتحام عقابه غريقٌ في بحار النظريات العقلية، ومغترق الأفكار بنظريات الفلسفة،
ولا يطَّلِع ثناياه، ويجتلي خفاياه، منقطع إلى كتب الشرائع، واستنباط أحكام
الوقائع، ولا يتسامى إليه من تعلم العلوم والفنون العصرية تعليمًا آليًّا ليكون أحد
العمال في دائرة من دوائر الحضارة، أو ديوان من دواوين حكومتها.
إن هذا لبدع من الخطوب الكبرى غير العادي، لا ينبعث إلى تلافيه إلا بدع
من كبراء الرجال غير عادي، أمم قوية بالعلم الجديد والفن الحديد، والسلاح
الشديد، والنظام الدقيق في السياسة والإدارة والمال، والتعاون بتوزيع الأعمال
واستخدام قوى الطبيعة، تستلب مُلك أمم جاهلة، متفرقة متخاذلة مختلة النظام،
مستعبدة للمستبدين، منقادة للخرافيين، وقد قذف في قلوبهم الرعب؛ فكانوا مصداق
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأَكَلَة
إلى قصعتها [١] ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير؛
ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن
في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية
الموت) [٢] ، فمَن ذا الذي يضطلع بتجديد حياة هؤلاء الموتى، ويحشرهم من
قبورهم.
ألا إن الرجل الذي ينبعث إلى نفخِ روح الحياة في شعوب هبطت إلى هذه
الدركات من الوهن، وبعْثِها إلى مجاهدة أمم عرجت إلى تلك الدرجات من القوة -
يجب أن يكون ذا روح علوية، أوتيت حظًّا عظيمًا من وراثة النبوة في كمال
الإيمان، وصحة الإلهام، وعلو الهمة، وقوة الإرادة، وصدق العزيمة، وإخلاص
النية، وقوة الفراسة، والزهد في الشهوات البدنية، واحتقار الزينة الخادعة،
والزهد في الجاه الباطل وعدم الخوف من الموت، وأن يكون ذا وقوف على حالة
العصر، وتاريخ الشعوب الديني والسياسي، وسنن الله في الاجتماع، وفصل
الخطاب في الإقناع، وفصاحة اللسان وبلاغة التعبير وقوة التأثير، ثم يكون ما
يحذقه من سائر العلوم مددًا له في عمله.
حكيم الشرق والإسلام:
كذلك كان ذلك الروح العلوي النبوي، الذي تمثل للأفغان في ناسوت بشري
جلس في دروس العلم، فحذق العلوم والفنون القديمة نقليّها وعقليّها في بضع سنين،
وألمَّ بالهند لتلقِّي مبادئ العلوم الأوربية، فوقف على ما شاء منها في زهاء سنتين،
ثم حج في سنة ١٢٧٣، ومكث في سفره زهاء سنة يتقلب في البلاد الإسلامية
لاكتناه أخلاقها وعقائدها الدينية، واختبار أحوالها الاجتماعية والسياسية.
ثم عاد إلى بلاده فانتظم في سلك حكومتها وهي ممزقة بالفتن الداخلية،
وموبوءة بالدسائس البريطانية، فكاد بتدبيره يخلص الأمر فيها لأميرها محمد أعظم
خان الذي بوَّأه مكان الوزير الأول عنده، لولا ما عارض ذلك من الدسائس
الإنكليزية، التي تمدها القناطير المقنطرة من الجنيهات الإسترلينية، والروبيات
الهندية.
واضطر بفشل أميره إلى هجر وطن ولادته ونشأته، إلى حيث يمكنه
الإصلاح من أوطان أمته، فمرَّ بالهند، فبالغت حكومتها الإنكليزية بالحفاوة في
ضيافته، مع إحاطة عمالها وجواسيسها بمجالسه، ومنع علمائها من الاتصال به،
ولكنه نفخ فيمن لقيه من كبرائها روح الاستقلال، والجرأة على كسر مقاطر
الاستعباد، ثم كان يغذي ذلك الروح بالكتاب وتلقين الأفكار، لِمَن يلقى من رجالها
في مصر وأوربة وسائر البلاد، وبمقالات له في الجرائد نشرناها في المنار،
وناهيك (بالعروة الوثقى) التي كادت تضرم نيران الثورة فيها، وكان موقنًا باستقلالها
من بعده، حتى إنه قال للشيخ عبد الرشيد التتاري: (يا ولد، إنك ستصلي صلاة
الجنازة على القيصرية الروسية، وستحضر تشييع جنازة الإمبراطورية الإنكليزية
في الهند) وقد تمت البشارة الأولى، وظهرت بوادر الثانية في هذه الأعوام.
وأغرب من ذلك أنه حمَّله تقريرًا منه إلى جمعية سياسية سرية في عاصمة
الروسية رئيسها عم القيصر، وقال له: (اذهب بهذه الرسالة وأوصلها إلى
الغراندوق فلان، واعلم أنك إما أن تُقتل، وإما أن تفوز وتغنم) فأوصلها فقام
الغراندوق لها وقعد، ثم أعاده بها إلى بلاد اليونان ليطبعها فيها باللغة الروسية
ويرسلها إليه، وعرض عليه من المال ما شاء، فلم يأخذ إلا القدر الضروري،
ولقي أهوالاً كادت تُذهب بحياته.
جاء هذا السيد مصر فنفخ فيها روح الحكومة النيابية، وألَّف فيها الحزب
الوطني الأول لتقييد سلطان الحكومة الشخصية، وغذَّى تلاميذه ومريديه بعشق
الحرية ووسائلها من العلم والكتابة والخطابة، كما أرشد المسلمين منهم إلى الإصلاح
الديني، والجمع بينه وبين العلم العصري، وكان من أثر هذا ما شرحه هذا الكتاب.
ذهب إلى إيران، فنفخ فيها روح التجديد في السياسة والعمران، فما زال
يفعل فعله فيها بين قيام وقعود، وهبوط وصعود، حتى ظفرت بالحكومة النيابية في
عهد الشاه مظفر خان، وما زالت تنتقل في أطوار التجديد والإصلاح.
ثم انتهى إلى عاصمة الدولة العثمانية، فأنشأ يرشد السلطان لوسائل الاستفادة
من منصب الخلافة الإسلامية، ويجمع له كلمة الشعوب والمذاهب المختلفة، حتى
إنه أقنع كثيرًا من علماء الشيعة المجتهدين بالاعتراف بخلافته وجعلها مناط الوحدة
الجامعة للمسلمين؛ ولكن قرناء السوء خوَّفوا السلطان من النهوض بهذه الجامعة،
فأعرض عنها، وكان السيد مع ذلك يبث هنالك أفكار الإصلاح والتجديد، الجامع
بين الطريف والتليد إلى أن قضى نحبه ولقي ربه، رحمه الله وقدَّس سره.

الأستاذ الإمام:
أرأيتك هذا المصلح العظيم، والمجدد الحكيم، إنه لم يظفر في شعب
من الشعوب الإسلامية بمَن يصلح أن يكون خليفة له، ومتممًا لإصلاحه بما يرجى
به دوامه، بعد أن وجه إليه الوجوه، وعلقت بطلبه القلوب، على كثرةٍ من
المصطبغين بصبغته، إلا رجل مصر الشيخ محمد عبده؛ لأن منصب إمامة
الإصلاح والتجديد لا يُرتقَى إليه بوسائل الذكاء والتفكير والتربية والتعليم وحدها، بل
لا بد فيه من الاستعداد الروحي والمواهب الفطرية كما قررنا.
كان الشيخ محمد عبده سليم الفطرة، قُدسي الروح، كبير النفس، وصادف
تربية صوفية نقية، زهَّدته في الشهوات والجاه الدنيوي، وأعدَّته لوراثة هداية
النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافيًا، يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسته
شعلة من روح السيد جمال الدين الأفغاني؛ فاشتعل نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ
لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: ٣٥) .
اقرأ في الصفحة ٢٥ من هذا الكتاب كيف زار السيد للمرة الأولى هو
وصديقه وأستاذه الشيخ حسن الطويل في خان الخليلي، وكيف كان أول حديثه
معهما السؤال عن تفسير بعض آي القرآن وما يقول العلماء والصوفية فيها، وأنه
بيَّن لهما قصور كل ما قالوه وجاء مِن عنده بخيرٍ منه، وكيف أُعجبا كلاهما بما قال؛
ولكن الشيخ حسنًا ظل على حاله؛ لأنه كان قد بلغ منتهى استعداده، وكان أرقى
علماء الأزهر عقلاً وعلمًا وزهدًا.
وأما الشيخ محمد عبده فكان يشعر بأن كل ما أصابه من حسن تربية الشيخ
درويش، ومن علم الشيخ الطويل والشيخ القصير [٣] دون ما تسمو إليه نفسه،
ويتطلع إليه عقله، وتضطلع به همته، وكان يطلبه بما استطاع من الوسائل فلا
يجده؛ ذلك أن روحه كانت مستشرفة للعرفان الذي يصعد بها إلى سماء الوراثة
النبوية في إصلاح البشر، وتجديد أمر الدين الذي بشَّر به المصلح الأعظم صلى
الله عليه وسلم، فاتصل بالسيد جمال الدين من ذلك اليوم حتى اقتبسه منه، وكان
خليفته فيه، لكن من ناحية تربية الأمة التي كان يتمنى قيام السيد بنفسه بها - إذ لا
يثبت إصلاح الحكومات بدونها - لا من ناحية استبدال حكومة مستبدة بغيرها
(راجع ص٩٧٤) .
تلك الوراثة النبوية التي عبر عنها يوم موت السيد بقوله في رثائه الوجيز
البليغ: (والدي أعطاني حياة يشاركني فيها علي ومحروس [٤] ، والسيد جمال
الدين أعطاني حياة أشارك بها محمدًا وإبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم
وسلم والأولياء والقديسين، ما رثيته بالشعر لأنني لست بشاعر، ما رثيته بالنثر
لأنني لست الآن بناثر، رثيته بالوجدان والشعور لأنني إنسان أشعر وأفكر) اهـ
بنصه تقريبًا [٥] .
هذه الوراثة هي التي أخرج الله تعالى بها محمدًا عبده من خمول تصوفه،
وخمود أزهريته إلى ميادين الجهاد في سبيل التجديد الديني، والإصلاح الاجتماعي
المدني، يخوض غمرات الثورات، وتتقاذفه أمواج الأسفار، وتكافحه فتن الأمراء
المستبدين، وجهالة حملة العمائم الجامدين، من حيث بقي حسن الطويل نديده في
التصوف والفلسفة قابعًا في كسر بيته، راضيًا بخموله وراحة نفسه، وإن في
الصلاة لراحة، وإن في العلم والذكر للذة؛ ولكن ثوابهما قاصر على صاحبهما،
وثواب الجهاد متعد لكل من ينتفع به، والإنسان الكامل من يجمع بينهما.
بهذا الروح العلوي كان يقول له أستاذه السيد جمال الدين، وهو مجاور يلبس
الزعبوط: (قل لي بالله أي أبناء الملوك أنت؟) ذلك السيد الذي كان يخاطب الملوك
المستبدين خطاب الأقران، بل يهدد بعضهم، ويمن على بعض فيقول للسلطان عبد
الحميد: (إنني لأجل أمرك قد عفوت عن شاه إيران) ويقول له السلطان بحق:
(يخاف منك الشاه خوفًا عظيمًا) [٦] .
بهذا الروح العلوي كان يشرف من سماء إدارة المطبوعات بالسيطرة
والسلطان على الحكومة المصرية من أعلاها إلى أدناها، فيأمرها وينهاها، منتقدًا
أعمالها، مرشدًا عمالها، يُخطِّئ لغتهم الكتابية فيضطرهم إلى إصلاحها في معاهد
التعليم، ويفند أعمالهم فيقيمهم على صراط العدل المستقيم، بل أزعج بمقالاته في
انتقاد وزارة المعارف ناظرها حتى شكاه إلى رئيس النظار رياض باشا فما أشكاه،
وكلَّم الرئيسُ الشيخَ فأقام له البرهان على وجوب الإصلاح، وأقنعه بإنشاء المجلس
الأعلى المقيد لاستبداد وزيرها في الأعمال، فأنشأه برأيه، وكان هو سكرتير ذلك
المجلس وصاحب التأثير الأكبر فيه.
بهذا الروح العلوي كتب ذلك الكتاب البليغ في سجنه وأعلن فيه عفوه عمن
وشوا به وأساءوا إليه على ما كان من إحسانه إليهم، وجزم بما أعدت له العناية من
المجد، واعدًا بأن سيفعل المعروف، ويغيث الملهوف.. . وكذلك كان.
بهذا الروح العلوي كان هو الرأس المدبر في كل مجلس رسمي عين عضوًا
مرءوسًا فيه، كمجلس إدارة الأزهر، ومجلس الأوقاف الأعلى، ومجلس شورى
القوانين، وتجد إثبات ذلك في بيان أعماله فيها من هذا الكتاب، سافرة الوجه ليس
دونها نقاب.
بل بهذا الروح العلوي كان أميره يكبره ويهابه، ويقول إنه يدخل عليَّ كأنه
فرعون؛ وإنما كان يدخل عليه كدخول موسى عليه السلام على فرعون، متوكئًا
على عصا الحق، داعيًا إلى الإصلاح والخير، ناهيًا عن الاستبداد والبغي، كقوله
له في مجلس تشريف المقابلة الحافل بالعلماء: إن مجلس إدارة الأزهر لا يعرف
لسموكم أمرًا عليه، إلا بهذا القانون الذي بين يديه، دون الأوامر الشفوية التي
يبلغها عنكم من لا يثق به المجلس لمخالفته لقانونكم.
تلك آيات بينات من حياة كل من الروحين على الانفراد، فما رأيك إذا اجتمع
هذا الروح العلوي بذلك الروح الأعلى الذي أذكى سراجه الوهاج، واتحدا في عمل
من الأعمال؟ ذلك ما كان من إصدارهما جريدة العروة الوثقى، التي لا نعرف في
تاريخنا كلامًا بشريًّا أبلغ من مقالاتها في إصابة مواقع الوجدان من النفس،
ومواضع الإقناع من العقل، وتجرئة الضعفاء على الثورة على الأقوياء، والجهاد
لتحرير أمتهم، واستقلال بلادهم.
فإن سألت عن تأثيرها في رعب العظمة البريطانية، وإثارة العالم الإسلامي
والشعوب الشرقية؛ فإنك تجد قصصها مبسوطًا في هذا الكتاب، بما يشبع نهمتك
السياسية من إسهاب، ويروي غلتك الأدبية من إطناب (ص٢٩٨ و٣٠٣) .
وإنه ليبسط لك بالروايات الصحيحة، والشواهد الصادقة، كل ما أشرنا إليه
في هذا التصدير من آثار تلك الروح القدسية، وتجديد الإصلاح المنقذ للأمم
والشعوب من رق الفاتحين المستعمرين، وظلم المستبدين القاهرين، وجمود الفقهاء
المقلدين، ودجل المتصوفة الخرافيين، فاطلبه من هذا التاريخ؛ فإنه يقصه عليك
مفصلاً تفصيلاً.
فاقرأه أيها الغيور على قومه ووطنه فصلاً فصلاً، وتدبر مقاصد فصوله
مقصدًا مقصدًا، ثم اقرأ في الجزء الثاني له مقالات الإمام الاجتماعية والأدبية،
ولوائحه في إصلاح التربية والتعليم، ورسائله الدينية والأدبية للعلماء والأدباء، ثم
ارجع البصر إلى الجزء الثالث واعتبر بتأثير وفاته في العالم الديني والمدني،
وتأمل إجماع كتاب الأمم والشعوب المختلفة الأجناس والأديان والآراء والأفكار على
تزكيته وتقديسه، أو تدبر مقدمتنا لكل منهما تعلم أنه هو الإمام الذي يجب اتباعه في
تجديد الأمة وإحياء الملة، وإيجاد المدنية الفاضلة، ثم انظر ما اقترحته على مصر
في خاتمة هذا الكتاب لعلك تكون من حزب الدعاة المصلحين، وأنصار التجديد
المستبصرين الذين قال الله فيهم: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: ٥) .
هذا ما توخيت التنويه به من هذا الضرب البديع من التجديد لحياة الشرق
على ما وصفت من التباين بينه وبين الغرب، وما كان من تأثيره الذي يشبه
خوارق العادات، كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الأموات.

المجددون للوثنية والدجل:
ألا وإنه قد نجم في هذين القرنين قَرْنان - أو قُرون - من أدعياء التجديد،
بعضهم في إيران وبعضهم في الهند، وإن هم إلا مُسحاء دجالون، ومتنبئون كذَّابون،
لبَّسوا على الناس لباس الإصلاح الديني، وتمثلوا لهم بالشكل الذي تُصوره تقاليدهم لما
ينتظرون من المسيح والمهدي، وانتحلوا لدعايتهم آيات، واخترقوا لأنفسهم معجزات
، فمنهم من ادعى النبوة، ومنهم من ادعى الألوهية، وقد اتبعهم فئام من المحرومين
من مزايا الإنسان، الكافرين بنعمتي العقل والقرآن، الجاهلين لثبوت نبوة خاتم النبيين
بالعلم والعقل، وإن الله ختم به نزول الوحي، فزادهم رجسًا على رجسهم، وعبودية
للأجانب على عبوديتهم، فكانوا دعاة أو أنصارًا للمعتدين على استقلال بلادهم،
المستبدين لأقوامهم، فوالله لو عمت فتنتهم لاستولى الإنكليز على بلاد فارس كلها،
ولما وجد في الهند من يطالب الإنكليز باستقلال، ولا بحق من الحقوق ولا عمل من
الأعمال.
أليس من مثار العجب الذي جاء بها أبو العجب [٧] أن يضع كل من أتباع
هؤلاء الدجالين لأنفسهم نظامًا، ويجمعوا لبث نحلتهم أموالاً، وينفروا للدعوة إليها
خفافًا وثقالاً؟ فيكون لهم في كل وادٍ أثر، وفي كل قطر ذكر، وينضوي إليهم
بعض الملاحدة طمعًا في أموالهم، لا إيمانًا بمسيحهم أو إلههم؟
أو ليس بأوغل من هذا في أعماق العجب، وأولغ في أحشائه أن يتخاذل
العارفون بقدر حكيمي الشرق، وإمامي الإسلام بالحق، عن تأليف حزب لتعميم
إصلاحهما، واستمرار تجديدهما، وأن يكون لجماعتهم نظام يكفل دوام سيرهم
ومال يضمن نجاح سعيهم، ومدارس تربي النابتة على منهاجهم، وأطباء يداوون
أمراض الاجتماع بعلاجهم على استقلال الفكر، وحرية العلم والرأي وهداية الدين،
وتوطين النفس على الجهاد لإعلاء كلمة الحق، وإقامة ميزان العدل لتكون عزيزة
لا تدين لأجنبي معتدٍ، ولا لوطني مستبد؟ .
نعم إن ذلك لعجيب، وإن هذا لأعجب منه، ويشبههما في العجب أن المنتمين
إلى السنة من المسلمين أقل من المبتدعة تعاونًا وتناصرًا وعصبية ودعاية، أفلا
أنبئك بالسبب، الذي ينتاشك من حيرة العجب؟ .
إن حقيقة السنة والجماعة هي حقيقة الإسلام، وإن الإسلام الحق هو دين
توحيد العبودية والربوبية لله وحده، والحرية وعزة النفس تجاه ما سواه، واتباع
رسوله وحده فيما بلَّغه عنه، والعمل بمقتضى الوازع النفسي التابع للعقيدة، والنظام
الاجتماعي الذي تقرره الشريعة، فلا تذل نفس صاحبه بالانقياد لرئيس ديني لا
دنيوي لذاته، ولا لسلطان وراثي أو تقليدي فيما وراء تنفيذ أحكامه.
وأما هذه النحل الباطلة والمذاهب المبتدعة التي أشرنا إلى بعضها فأساسها
العبودية والخضوع لفرد أو جماعة من البشر، يقدس منتحلها أشخاصهم ويرفعهم
على نفسه وعلى سائر الناس وهم منهم، ويوجب طاعتهم عند فريق وعبادتهم عند
آخر، فتكافل هؤلاء يكون تامًّا شاملاً لأنه تعبدي، وعصبيتهم تكون أقوى لأنها
وجدانية لا عقل للأفراد ولا رأي للجمهور فيها.
ويرد علينا ههنا أن العقائد الباطلة والتعاليم الواطئة، خير للجماعات
وللشعوب التي تأخذ بها من العقائد الصحيحة والتعاليم العالية، من حيث جمع الكلمة
ووحدة الأمة، ونرد هذا الإيراد بقولنا: إن العقائد الحق والتعاليم الصحيحة لا يقوم
بها إلا أصحاب العقول النيرة والأفكار المستقلة الذي آمنوا بها عن حجة وإذعان،
وما تنازع هؤلاء مع المخالفين لهم إلا وكان لهم الرجحان، سواء أكان التنازع في
الدين أو في الحكم والسلطان، وبهذا ظهر الإسلام على جميع الأديان.
وهذا الفريق - فريق العقل واستقلال الفكر - قَلَّ في جميع فرق المسلمين ببناء
التعليم فيهم على أساس التقليد الذي يحتم على طالب العلم أن يقبل كل ما يقرره
شيوخه بعنوان مذهبه، وإن لم يكن منه، سواء أعَقَلَه أم لم يعقله، فإن نازعه فيه
حكم بكفره، ولهذا صار أكثر المسلمين يقبلون البدع والخرافات مهما تكن المذاهب
التي ينتمون إليها، إذ ليست المذاهب فيهم إلا عناوين لعصبيات لها رؤساء يطاعون
باسمها، وأكثرهم يجهلون أصولها وقواعدها، ومن تلقى شيئًا منها؛ فإنما هو لفظ
ينقله ولا يعقله، ولا يرجع إليه في فروع علمه ولا عمله، ومن كان غير مستقل الفهم
والعقل في عقيدته، لا يكون مستقل الإرادة في عمله، ومن نتائج هذا الخضوع أن
صاروا خانعين للمستبدين وظهراء للظالمين، وإن كانوا بملتهم كافرين.
وأساس الإصلاح الديني والسياسي الذي قام به وعليه الإسلام دينًا ودولة،
وقامت عليه الدول القوية هو الاستقلال بنوعيه، وهو الذي دعا إليه الحكيمان
المجددان: الأفغاني والمصري، وقد بيَّنه الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد، لهذا كان
أنصارهما من رجال الدين هم الأقلين وخصومهما منهم هم الأكثرين، وكان أشد ما
أنكروه عليهما: القول بوجوب الاجتهاد، وتحريم التقليد. ويقابله أن كان أكثر
المعجبين بهما والذين قدروهما قدرهما، هم الذين نبغوا في المدارس المدنية العالية
التي يسير فيها التعليم على منهاج استقلال الفكر، وكذا من تلقى من بعض أهلها
وعاشرهم على استعداد فيه فصار مستقلاًّ، ثلة من المدنيين وقليل من المعممين.
ولو كان ما دعا إليه الحكيمان هو التجديد السياسي والمدني دون الديني لألَّف
له هؤلاء الأنصار حزبًا كبيرًا منظمًا، كما فعل سعد باشا من تلاميذهما بعدهما.
ولو دعا الأستاذ الإمام إلى نهضة دينية تقليدية صوفية لوجد من الأزهريين
وأهل الطرق من يؤسس له عصبية قوية يتبعها الألوف وألوف الألوف في زمن
قريب، ولا سيما إذا أباح لنفسه أن يظهر لهم تعبده الخفي، ومعرفته بأسرار
التصوف، وغير ذلك من خصائصه الروحانية، التي كان يعتقد وجوب كتمانها
لأنها غير طبيعية، فإظهارها للمقيدين بالسنة الطبيعية فتنة لهم، وفيها كثير مما يُعَدُّ
من الكرامات عندهم، وقد نقلت هذا عنه في بيان رأيه في التصوف والصوفية.
بيد أن كلاًّ منهما حكيم عاقل، وأن السيد جمال الدين رجل دين، وإن غلبت
عليه السياسة، والشيخ محمد عبده رجل سياسة وإن غلب عليه الدين، بل هو
أقرب من أستاذه إلى الموقف الوسط بين رجال الدين والدنيا من المرتقين فيهما،
فقد كان في الأزهر لا يعلو قولَه قولٌ، ولا يغلب رأيَه رأيٌ. وكذلك كان بين
الراقين من رجال الدنيا كالوزراء والقضاة والمحامين والأدباء والمنشئين، بل كان
كذلك بين علماء الإفرنج وساستهم، وترى نموذجًا من شهادات الجميع له في هذا
التاريخ.